مجلة الرسالة/العدد 556/صلات علمية
→ إيوان كسرى بين شاعرين | مجلة الرسالة - العدد 556 صلات علمية [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 28 - 02 - 1944 |
بين مصر والشام
في النصف الأول من القرن الثامن الهجري
للأستاذ محمد عبد العني حسن
طلع هلال المحرم من القرن الثامن الهجري على العالم العربي بأحداث جسام؛ وسلطان المماليك في مصر هو الناصر ابن قلاوون، ونائب مصر الأمير سيف الدين سلار؛ ونائب الشام آقوش الأشرم؛ ونائب حماة قراسنقر المنصوري بعد موت الملك المظفر
وكان التتار في أواخر القرن السابع الهجري قد أغاروا على الشام مرتين فردهم بيبرس على أعقابهم. وفي سنة 700هـ أي في مستهل القرن الجديد أغاروا ثانية على الشام بقيادة قازان وأحلوا بها الحرمات وكثر عبثهم فيها وقتلوا وسبوا النساء واقتحموا على الناس المساجد، يحطمون أبوابها ويحاربون الله فيها. . .
وهنا يقف علماء الشام موقفاً رائعاً، فيحرضون الناس على الدفاع، وينظرون شزراً إلى ذهب التتار وفضتهم اللامعة؛ ويقف رجل منهم جليل هو ابن تيمية معلناً أن أهل الشام لا يسلمونها إلى عدو الله ما دامت فيهم عين تطرف؛ ويرسل إلى نائب قلعة دمشق يقول له: لا تسلمهم القلعة ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد. ويستجيب المسلمون إلى صوت شيخ العلماء فيقفون صفاً واحداً، حتى يكرهوا العدو على الرحيل ويطهروا البلاد من أرجاسه
وكان ابن تيمية هذا يقظاً متنبهاً لأحداث زمانه، وليست فيه غفلة بعض. الفقهاء، ولكنه رجل صاحي العين والفؤاد. وكيف ينام والعدو على أبواب دمشق؟ فهو يقضي الليل قائماً يحضض الناس على الصبر؛ ويدور كل ليلة على أسوار دمشق يحرض الناس على الثبات ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط.
وليس يعنينا من القرن الثامن أحداثه السياسية، فذلك ليس موضوع البحث، ولكن يعنينا حالة العلماء والفقهاء فيه فقد ظهرت بين للقطرين الشقيقين في ذلك العهد مشاركة في مناصب العلم والوعظ والفضاء، وكان كثير من علماء مصر يعينون في الديار الشامية؛ كما أن كثيراً من علماء الشام يعينون في مصر. وكان أحرار العلماء - وأعني بهم غير الموظفين - يجوبون بين البلاد العربية ويتنقلون بين القطرين فيفد الطلاب للقائهم والانتفاع بعلمهم والاغتراف من مناهلهم. والأمثلة على هذا كثيرة وقد تكفلت بسردها كتب التاريخ وخاصة كتب السلوك للمقريزي والبداية والنهاية لابن كثير والنجوم الزاهرة لابن تغري بردى
فنرى مثلاً أن أحمد بن سلامة الإسكندري المصري يعين قاضياً لدمشق، ونور الدين السخاري المصري يعين مدرساً بالجامع الأموي بدمشق، والشيخ ابن الوكيل يدرس بمصر في مشهد الحسين وبالشام في دار الحديث الأشرفية وغيرها
وكان تبادل العلماء بين مصر والشام أمراً مألوفاً في ذلك العصر، لما كان تعيين المدرسين من حق سلطان مصر. فإنه لما مات قاضي قضاة مصر ابن دقيق العيد سنة 722 هـ كتب السلطان الناصري المصري إلى ابن جماعة قاضي قضاة الشام يحييه ويعظمه ويحترمه ويدعوه إلى مباشرة وظيفة قاضي القضاة بمصر خلفاً لابن دقيق العيد. فيجيب الشيخ دعوة السلطان ويفد إلى مصر مكرماً فتخلع عليه الخلع ويجزل له العطاء
وكان السلطان يعين كبار العلماء في المناصب الكبرى كمشيخة الشيوخ والمفتي وقاضي القضاة وقاضي العسكر والمدرسين. وكانت وظيفة مدرس من أرقى المناصب العلمية في ذلك العهد. ويكفي للدلالة على سمو قدرها أن التعيين فيها كان من اختصاص السلطان مباشرة، كما يذكر المقريزي في كتابه السلوك. وكانت وظيفة المعيد تلي وظيفة المدرس في المنزلة، وعمل المعيد في القرون الوسطى هو بعينه عمل المعيد في الجامعات الحديثة. وقد عرفه القلقشندي صاحب صبح الأعشى تعريفا دقيقا فقال: (هو ثاني رتبة المدرس، وأصل موضوعه أنه إذا أتى المدرس الدرس وانصرف أعاد المعيد للطلبة ما ألقاه ليفهموه ويحسنوه)
ولم يكتف علماء القطرين في القرن الثامن بالجلوس للدرس في المساجد والمدارس، بل كان لهم نوع من النشاط العلمي الديني فرضته عليهم بعض الظروف في ذلك العصر. فقد ظهرت بعض المذاهب المبتدعة الحائدة عن سنن الرسول وهديه والمنحرفة عن إجماع المسلمين. وكان في خلال بعض هذه المذاهب وميض نار يوشك أن يكون لها ضرام. . . فكثر الروافض بين التتار واشتد أمر الأحمدية وهي طائفة كان لها أحوال شيطانية - كما يصفهم المؤرخ ابن كثير؛ ولهم كثير من الحيل والبهتان. وهم في نظر ابن تيمية من الدجاجلة المخالفين للشريعة؛ فنصب هذا الإمام السلفي لهم العداء، واخذ عليهم أقوالهم وأفعالهم، وعقدت له بالشام ثلاثة مجالس للرد عليهم وبيان ما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب والسنة.
ولم تكن تلك المجالس تعقد في المساجد الجامعة كما يتبادر إلى الذهن، ولا في سرادقات خاصة تضرب لها، ولكنها كانت تعقد في قصر نائب السلطان بدمشق. وهي تعيد إلى الذهن تلك المناظرات الدينية التي دارت بين علماء الكلام في العصر العباسي الأول.
وقد أثارت تلك المجالس الدينية خصومة شديدة بين العلماء، ولعبت فيها أحقاد القلوب دوراً عظيما، فخشى الشيخ الأكبر على نفسه في الشام، وقصد إلى مصر لعله يجد فيها متسعا لآرائه وجهاده، فخرج لوداعه من أهل الشام خلق كثير. وكان الخارجون - كما يروى لبن كثير - بين باك عليه أو حزين لفراقه أو شامت فيه أو منفرج محيد. وفي طريقه إلى مصر يعرج على غزة فيعقد له في جامعها مجلس ديني عظيم. وفي مصر يعقد له مجلس بالقلعة يحضره القضاة ورجال الدين وأكابر الدولة. فتلاحقه في مصر الأحقاد ويكثر الحاسدون فيه القول، ويفترون عليه الكذب. ويدعي عليه في هذا المجلس ابن مخلوف المالكي المصري أنه من المشبهة الذي يقولون بأن الله فوق العرش حقيقة وأنه يتكلم بحرف وصوت. ويقف الشيخ ليدافع فيقاطعه ابن مخلوف قائلاً: ما جئنا بك لتخطب. فيسأل ابن تيمية: ومن هو الحكم في؟ فيجاب بأنه ابن مخلوف نفسه. فيتجه ابن تيمية إلى ابن مخلوف قائلا: كيف تحكم فيّ وأنت خصمي؟ وينتهي المجلس بحبس الشيخ الأكبر في برج أولاً، ثم ينقل إلى محبس يعرف بالجب
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد الغني حسن