مجلة الرسالة/العدد 555/القضايا الكبرى في الإسلام
→ جولة في الفردوس | مجلة الرسالة - العدد 555 القضايا الكبرى في الإسلام [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1944 |
قتل الحلاج
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
الحلاج هو الحسين بن منصور من أهل البيضاه، وهي بلدة بفارس، وقد نشأ بواسط من مدن العراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره من أكابر المتصوفة. ولم تكن أسرته قديمة عهد بالإسلام، بل كان جده مجوسياً، ومن شأن من يكون حديث عهد بدين أن يأخذ فيه طريق التشدد، فرأى الحلاج أن يأخذ في إسلامه طريق التصوف والزهد، وأن يبالغ فيهما إلى أقصى حد. وقد سار من العراق إلى مكة فأقام بها سنة في الحجر، لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفاً. وكان يصوم الدهر، فإذا جاء العشاء أحضر له القوام كوز ماء وقرصاً، فيشرب الماء، ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبه فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه، ولا يأكل شيئاً آخر إلى الغد آخر النهار. وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبد الله المغربي، فأخذ أصحابه ومشى إلى زيارة الحلاج فلم يجد في الحجر، وقيل له قد صعد إلى جبل أبي قبيس، فصعد إليه فرآه على صخرة حافياً مكشوف الرأس، والعرق يجري منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه، وقال: هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله، سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدره
ثم عاد الحلاج إلى بغداد فيضي في إظهار الزهد والتصوف وجعل يظهر الكرامات للناس، فيخرج لهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم قد كتب عليها - قل هو الله أحد - ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوه في بيوتهم ويتكلم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول، واختلف الناس في أمره اختلافاً كبيراً فمنهم من قال: إنه حل فيه جزء إلهي، وادعى فيه الربوبية ومنهم من قال: إنه ولي من أولياء الله تعالى، والذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومنهم من قال: إنه مشعبذ وممخرق وساحر كذاب ومتكهن، والجن تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها
وكان ذلك في عهد المقتدر بالله العباسي ووزيره حامد بن العباس، وقد تتولى له الوزارة بعد أبي الحسن بن الفرات، وكان قبلها يقوم بأعمال واسط، فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه وكثرة أتباعه، وأن له أربعمائة مملوك يحملون السلاح، فأمره بالحضور من واسط فحضر وقبض على ابن الفرات، وقد أقام حامد في دار الخلافة ثلاثة أيام، فكان يتحدث مع الناس ويضاحكهم ويقوم لهم، فبان للخدم ولأبي القاسم بن الحواري وحاشية الدار قلة معرفته بالوزارة، وقال له حاجبه: يا مولانا، الوزير يحتاج إلى لبسة وجلسة وعبسة. فقال له: تعني أن نلبس ونقعد فلا تقوم لأحد، ولا نضحك في وجه أحد، ولا نحدث أحداً؟ قال: نعم. فقال له: إن الله أعطاني وجهاً طلقاً وخلقاً حسناً، وما كنت بالذي أعبس وجهي وأقبح خلقي لأجل الوزارة. فعابوه عند المقتدر، ونسبوه إلى الجهل بأمور الوزارة، فأمر المقتدر بإطلاق علي بن عيسى من محبسه، وكان وزيراً للمقتدر قبل ابن الفرات، وجعله يتولى الدواوين كتائب عن حامد، فكان يراجعه في أمور الدولة، ويصدر عن رأيه فيها، ثم استبد بالأمر دونه ولم يبق له من الوزارة إلا اسمها، حتى قيل فيهما:
هذا وزير بلا سَوادٍ ... وذا سواد بلا وزير
وكان هذا سبباً في اضطراب الأمور ببغداد، فضعفت هيبة السلطنة، وطمع اللصوص والعيارون، وكثرت الفتي، وكبست دور التجارة، وأخذت بنات الناس في الطريق المنقطعة، وكثر المفسدون في الأرض
وقد نقل إلى حامد - وهذا شأنه - عن الحلاج ما يفعله في بغداد، وأنه أحيا جماعة من الناس بعد موتهم، وأن الجن يخدمونه ويحضرون عنده ما يشتهي، وأن الناس قد فتنوا به وقدموه على جماعة من حواشي الخليفة، وأن نصرا الحاجب وغيره من الحاشية قد مال إليه، فاهتم حامد بأمره، وطلب من المقتدر أن يسلم إليه الحلاج وأصحابه، فدفع عنه نصر الحاجب عند المقتدر، ولكن الوزير ألح على المقتدر حتى سلمه إليه
ومن هنا تبدأ قضية الحلاج التي اختلف الناس في أمرها اختلافاً كبيراً، وسندلي برأينا فيها بعد أن نفصل أمرها من أولها إلى آخرها، وقد أخذ حامد الوزير في التحقيق مع الحلاج قبل أن يقدمه إلى القضاء، ليعين التهمة التي ينسبها إليه، ويطلب من القضاء أن يحاكمه على أساسها، فأحضر شخصاً يعرف بالشمري وغيره ممن قيل إنهم يعتقدون في الحلاج الألوهية، وقد قررهم فاعترفوا بأنه قد صح عندهم أنه إله، وأنه يحيى الموتى. ما في الجبة إلا الله. ولكن الحلاج أنكر ما نسبوه إليه، وقال: أعوذ بالله إن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله عز وجل
فلم يقبل منه حامد هذا الإنكار، وأحضر القاضي أبا عمر محمد بن يوسف والقاضي أبا جعفر بن البهلول وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود، فاستفتاهم فيما أقر به الشمري وغيره من نسبة الألوهية إلى الحلاج، فقالوا: لا يفتى في أمره بشيء إلا أن يصح عندنا ما يوجب قتله، ولا يجوز قبول قول من يدعي عليه ما ادعاه إلا ببينة أو إقرار
فاجتهد حامد في أن يأخذ إقراراً من الحجاج بما نسبه إليه الشمري، وكان يخرجه كل يوم إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه ما يخالف الدين، وقد طال الأمر على ذلك وحامد مجد في أمره، وكان يحاول أن يجد ما يستحل به دمه، وجرى له في ذلك قصص يطول شرحها. ثم عثر أخيراً على كتاب للحلاج وجد فيه بغيته، لأن الحلاج ذكر فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد من داره بيتاً لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله، وفعل ما يفعله الحاج بمكة، ثم يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طعام يمكنه، ويطعمهم في ذلك البيت ويخدمهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم وأعطى كل واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمن حج
فأحضر حامد القاضي أبا عمر، فلما قرئ عليه ما ذكره الحلاج في ذلك الكتاب قال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. فقال له: كذبت يا حلال الدم، قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا. فلما قال له يا حلال الدم وسمعها الوزير قال له: اكتب بهذا. فدافعه القاضي؛ فألزمه الوزير، فكتب بإباحة دمه، وكتب بعده من حضر المجلس.
ولما سمع الحلاج ذلك قال: ما يحل لكم دمي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، ولي فيها كاب موجودة، فالله الله في دمي
ثم كتب الوزير إلى المقتدر يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوي إليه، فكتب إليه المقتدر: إذا كان القضاة قد أفتوا بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم إليه فيضربه ألف سوط، فإن مات من الضرب وإلا ضربه ألف سوط أخرى ثم يضرب عنقه. فسلمه الوزير إلى الشرطي، وقال له ما رسم به المقتدر، وأوصاه إن خدعه وقال له أنا أجري الفرات ودجلة ذهباً وفضة ألا يسمع منه، ولا يرفع العقوبة عنه، فتسلمه الشرطي ليلا، وأصبح يوم الثلاثاء لسبع وقيل لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلثمائة، فأخرجه عند باب الطاق، واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، ثم ضربه الجلاد ألف سوط فلم يتأوه، بل قال للشرطي لما بلغ ستمائة: أدع بي إليك، فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية. فقال له: قد قيل لي عنك أنك تقول هذا وأكثر منه، وليس إلى أن أرفع الضرب عنك سبيل
فلما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربعة، ثم حز رأسه وأحرق جثته، ولما صارت رماداً ألقاها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر، وانتهت بذلك مأساة هذه القضية
وقد اختلف العلماء في هذا الحكم اختلافا كبيراً، ففريق يرى أنه حكم صحيح، لأن الحلاج قد ارتد عن الإسلام بدعوى الألوهية، وهذا رأي باطل، لأن الحلاج قد تبرأ من اعتقاد بعض أتباعه فيه أنه إله، ولا يصح أن يؤخذ شخص باعتقاد فاسد يراه فيه غيره
وفريق على رأسه الإمام الغزالي يبالغ في تعظيم الحلاج، ويعتذر عن الألفاظ التي تفوه بها مثل قوله: أنا الحق، فحملها في كتابه مشكاة الأنوار على محامل حسنة، وذكر أن هذا من فرط المحبة وشدة الوجد. وقد تفوه كثير من الصوفية بأمثال هذه الأقوال، فقبلها منهم أهل عصرهم، ولم يحكموا بكفرهم كما حكم أولئك القوم بكفر الحلاج، وهذا مثل قول بعضهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن رُوحان حللنا بَدَنا
فإذا أبصرتني أبصرتَهُ ... وإذا أبصرتًهُ أْبصَرْتَنا
وهذا اعتذار غير مقبول، لأن أولئك المتصوفة يذهبون في تلك الأقوال مذاهب معروفة قال بها بعض الفلاسفة قبل الإسلام وبعده، وليسوا أول من قالها حتى تؤول ذلك التأويل لهم؛ على أن الحلاج قد تبرأ من تلك الأقوال، فلا معنى لذلك الاعتذار عنه
وفريق يرى أن الحلاج قد تفوه بتلك الألفاظ كالفريق الثاني، ولكنه يرى أنه لا يعذر فيها كما يعذر غيره من المتصوفة أنه قالها في حال صحوه، ولم يقلها في حال غيبوبته مثلهم، وبهذا استحق حكم القتل الذي حكم عليه به
وكل هذا كما ترى بعيد عما يرويه التاريخ في تحقيق تلك القضية، فهو لم يحكم عليه فيها بتلك الألفاظ التي تبرأ منها، وإنما حكم عليه بما جاء في بعض كتبه عمن أراد الحج ولم يمكنه. وإني أرى أن هذا الحكم باطل شكلاً وموضوعاً، فأما بطلانه شكلاً فلأن القاضي أبا عمر حصل منه أثناء التحقيق ما كان يجب أن يرد به عن الحكم، وهو قوله للحلاج - كذبت يا حلال الدم - وكان ذلك فلتة لسانية لم يدركها إلا بعد وقوعها. فلما قال له الوزير أكتب بهذا دافعه، فألزمه فكتب بإباحة دمه. ولا شك أن هذا صريح في أن القاضي لم يكن يرى أنه يستحق الحكم بإباحة الدم، ولكنه ألزم بهذا الحكم إلزاماً، وقد أمضاه وهو يرى ما يحيط به من الظلم والفساد، فلم يأمن على نفسه نقمة الوزير إن امتنع عنه، ولهذا كله كان ذلك الحكم باطلاً شكلاً
وأما بطلانه موضوعاً، فلأن ما ذهب إليه الحلاج فيمن أراد الحج ولم يمكنه لا يستحق الحكم بالقتل، وما هو إلا بدعة من البدع الفاسدة التي ابتدعت في الدين، وقد قال النبي ﷺ: من ابتدع في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد عليه. فقضى على المبتدع بأن يرد عليه ما ابتدع، ولم يقض بكفره ولا بإهدار دمه، وما بدعة الحلاج في الحج إلا كبدعة غيره في إسقاط الصلاة وغيرها من البدع التي ظهرت في الدين، ولم يحكم على أصحابها بكفر ولا بقتل
والحق أن الحلاج كان مشعبذاً اتخذ التصوف ستاراً له، وأن التحقيق في قضيته كان يجب أن يتناول تلك الشعبذات التي كان يظهرها للناس على أنها كرامات، ليظهر لهم فسادها، ويتبين لهم أمر الحلاج على حقيقته، والحكم الذي كان يستحقه على ذلك هو التعزيز بالحبس أو غيره، ولكنهم أرادوا أن يبالغوا في الحكم زجراً لأصحابه فجاء بعكس مقصودهم، لأن أصحابه بعد قتله جعلوا يعدون نفوسهم برجوعه بعد أربعين يوماً، واتفق أن دجلة زادت في تلك السنة زيادة وافرة فادعوا أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها، وقد ادعى بعضهم أنه لم يقتل وإنما ألقى شبهه على عدو له.
عبد المتعال الصعيدي