الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 554/من مآسي هذه الحرب

مجلة الرسالة/العدد 554/من مآسي هذه الحرب

مجلة الرسالة - العدد 554
من مآسي هذه الحرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 14 - 02 - 1944


أجل، هي مأساة من مآسي هذه الحرب وإن وقعت في قرية صغيرة لأسرة فقيرة. فلا تقل أين (منصور جراد) من (استالين جراد)، ولا أين خمسة نفر أهلكهم الجوع من ملايين طحنتهم رحاً عرض شقيها كعرض السماء والأرض؛ فإن الموت في معركة الدبابات، كالموت في معركة الزهور. والشقاء الذي يكرب أنفاس أسرة، هو بعينه الشقاء الذي يفدح كواهل أمة. والموت لا يقاس أثره باتساع ميدانه وانتشار مداه ما دامت الجماعة لا تحسه إلا إحساساً جزئياً في كل فرد منها. والفرد مهما قوى شعوره لا يدرك من بحيرة السم غير القطرة التي تسرى فيه، ولا من أطنان القنابل غير الشظية التي تفتك به

ما أظنك نسيت صديقنا الشيخ منصورا ومواقفه الجريئة من أصحاب الضياع والألقاب، أيام الانتخاب لمجلس النواب فقد كان في جرأة قلبه وعزة نفسه مثل الفلاح المؤمن بعظمة الله وكرامة الإنسان وحقارة الدنيا؛ وكان كما علمت من وصفي إياه قد تعاظمت في نفسه الحرية حتى احتقر المالك، وألحت علي جسمه السلامة حتى سئم العافية، ونفرت عن قلبه الهموم حتى ألف السعادة

هذا الرجل الذي كان شخصه يتميز في الزحام من أبعد، قد استسرت على معرفته وهو أمامي! لقد ذوي ذلك المحيا النضر، وتهدم ذلك الجسد الوثيق، وتخدد ذلك العضل المكتنز، وتجرد ذلك الهيكل الريان، حتى ليخفق جلبابه على ألواح!

لقد انقطع علم ما بيني وبينه منذ دهر طويل، وكان آخر العهد به لقاء ضاحك في بعض قرى الريف وهو على حاله تلك من الوثاقة والطلاقة والصحة؛ فلما علم أني قدمت المصورة في هذا الأسبوع جاء يزورني متحاملاً على نفسه. فلما أقبل علىّ أنكرته أول ما رأيته، ثم لم ألبث أن عرفته بما بقى من سيماه على وجهه. فصافحته وأحسنت لقاءه؛ ثم دعوته إلى الجلوس فسقط بجانبي على الكرسي كما يسقط كيس من العظام على الأرض. وعقل الدهش لساني فلم أسأله عن أمره. وحدس هو ما يعتلج في نفسي من الخواطر فقال بصوت غير صوته، ولهجة غير لهجته:

- لعلك ظننتني خارجاً من المستشفى، أو بالحرى مبعوثاً من القبر! ليت ما بي كان المرض، فقد يكون للمرض دواء! وليت ما بي كان الموت، فقد ينحسم بالموت الداء! إنما هو جسم يذوب في نار من الهم لا تخبو، وروح تزهق في حشرجة من الكرب لا تنقطع! - إذن أنت يا صديقي حزين؟

- إذا كان لفظ الحزن يعبر عن هذا الذوبان الدائم وذلك الاحتضار المتصل فأنا حزين

- هل فقدت عزيزاً عليك؟

- لقد فقدت كل عزيز علي!

وهنا خانه الجلد فلم يستطع المسكين أن يملك دمعه. فلما هدأت نفسه وراجعه صبره قال:

- أنا في حياتي ما شكوت ولا رجوت، ولكن الخطوب التي قوضت ركني وسودت حياتي هي التي أكرهتني على أن أشكو وأرجو؛ وذلك وحده خطب الخطوب

كان ذلك في شتاء سنة 1941، وكان لي عامئذ زوجة مخلصة وابنة عزيزة وثلاثة شباب بررة. وكنا نحن الستة، ومعنا بقرتنا العاملة الحلوب، وحمارنا الفاره الدءوب، وكلبنا الحارس الأمين، لا نفترق ولا نختلف، ولا نرى الدنيا إلا في بيتنا وحقلنا، ولا نجد اللذة إلا في لباسنا وأكلنا. فإذا جار المالك علينا في القسمة، عدل الله فينا بالعوض.

وإن جرى القضاء علينا بما نكره، انتهى الصبر بنا إلى ما نحب. حتى أزمت هذه الحرب الناس، فضاق الرزق، وامتنع الوارد، وارتفعت البركة، وفشا المرض، وأعوز الداء، واختزن الملاك ما تنبت الأرض، واحتكر التجار ما تجلب السوق، ففحش الغلاء، وطفف الكيل، حتى أصبح الأجير يعمل الأسبوع كله ليشتري كيلة من الذرة إذا وجدها. ثم قضت سياسة التموين أن تشتري الحكومة مقداراً من القمح مفروضاً على كل زارع. وقضى الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إلا تزيد غلة أرضي على حصة الحكومة عندي، فنقلت على حماري ما في الجرن إلى بنك التسليف؛ وحجز المالك ثمن القمح استيفاء لبعض إيجاره، فخرجت صفر اليدين من النقد والحب، فلا في الجيب ولا في المخزن. ولكننا يا سيدي أحياء؛ والحي لا مناص له أن يأكل. فقمت أنا وزوجتي وابنتي على زراعة الأرض ورعي البقرة، واشتغل بني الثلاثة أجراء عند الناس، فكنا نجع أجرتهم في كل ثلاثة أيام لنشتري بها كيلة واحدة. وماذا تصنع الكيلة من غير إدام في ثلاثة أيام لستة أفواه؟

على أن هذه الحال لم تدم، وليتها دامت! فقد نفدت الحبوب من القرية، وحرم على الناس نقلها من بلد إلى بلد، فكنت أقبض أجرة أولادي في المساء، ثم أذهب إلى المنصورة في الصباح، فأشتري بها الخبز المخلوط ما لا يسمن ولا يشبع. وعلى هذا النمط النابي من سوء العيش قل الغذاء، وكثر العمل، وبلى الثوب، واتسخ الجسد، واعتلت الصحة. ووفدت على القرية حمى التيفوس فلم تجد مناعة في جسم، ولا وقاية من نظافة، فأودت ببني الأربعة واحداً بعد واحد. ونجت منها زوجتي لتندبهم في الثواكل حتى لا يترك أولادي الحياة من غير عرس ولا مأتم. ثم أمعن القدر في ابتلائه: فانتشر في الماشية وباء التسمم الدموي، فنفقت البقرة، وهلك الحمار، وأصبحت الدار والحمد لله خلاء مما صأى وصمت! أما بقية القصة فإنك تقرأها الآن في وجهي. وإذا جاز أن يكون لمثلي بعد ذلك رجاء، فإني أرجو من الله الموت ومنك الكفن!. . .

احمد حسن الزيات