مجلة الرسالة/العدد 553/بركة خان
→ علامات الزمن | مجلة الرسالة - العدد 553 بركة خان [[مؤلف:|]] |
طاقات ريحان ← |
بتاريخ: 07 - 02 - 1944 |
2 - بركة خان
أول مسلم من ملوك التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
واستمرت المكاتبة والمهاداة بين الملوك من بني جوجر وبين سلاطين مصر زمناً طويلاً، وقد فصلت كتب التاريخ بعض المراسلات بين الدولتين ولا سيما بين بركة والملك الظاهر بيبرس حين كان المسلمون في فزع من التتار وبخاصة هلاكو وأشياعه من الذين غزوا ديار المسلمين حتى استولوا على بغداد ثم تجاوزوا إلى الشام حتى وقف سيلهم بعد موقعة عين جالوت سنة 658هـ
لما بلغت مصر أفواج التتار من أصحاب بركة الذين قدمنا الكلام عنهم، وعلم الملك الظاهر بيبرس بإسلام الملك بركة وعرف أحوال مملكته ومقر ملكه؛ أرسل إليه رسلاً معهم اثنان من التتار الذين قدموا إلى مصر
وحمل الرسل كتاباً إلى الملك بركة يرغبه في الجهاد ويحثه عليه، ويصف له جند المسلمين وكثرتهم وأجناسهم ويذكر من في طاعة الملك الظاهر من ملوك الأقطار، ومن هادنه وصالحه من ملوك الفرنجة وغيرهم، ويخبره بقدوم التتار من أنصاره إلى الديار المصرية، وأنه لم يأل في إكرامهم والحفاوة بهم، وإنزالهم المنازل الرفيعة
جمع السلطان الأمراء والأعيان وأمر أن يقرأ عليهم الكتاب، واستشارهم فيه، فاستحسنوه
يقول القاضي ابن عبد الظاهر كاتب السلطان بيبرس: (ولما كان يوم الخميس ثاني المحرم سنة 661 جلس السلطان مجلساً عاماً فيه جميع الناس، وجماعة التتار الواصلين، ورسل السلطان المتوجهون إلى الملك بركة، وحضر الإمام أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد. . . أمين الخليفة المسترشد بالله. وبايعه السلطان بعد ثبوت نسبه عند قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. وبايعه الأمراء والعامة والتتار الواصلون، والرسل إلى الملك بركة، ولما تمت هذه البيعة المباركة حصل الحديث معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة فوافق على ذلك ثم قرء الكتاب ثانياً بحضوره وانفصل المجلس)
(ثم أمر السلطان بعمل نسبته الطاهرة إلى النبي ﷺ؛ فكتبت وأذهبت وسيرها إلى الملك بركة) (فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم يعني يوم البيعة، اجتمع الناس وحضر الرسل المتوجهون إلى الملك بركة. فبرز الخليفة وعليه سواده، وصعد المنبر وخطب وصلى الجمعة بالناس ودعا للملك الظاهر وللمسلمين)
(ثم اجتمع الرسل بالخليفة والسلطان وحملهم السلطان من المشافهة ما فيه صلاح الإسلام؛ وعرف أصحابه التتار أحوال عساكره وكثرتها وما هو بصدده من جهاد وما يبذله من الأموال في نصرة الدين، وقتال الأعداء المشركين، وأنه محب للملك بركة وداع له بالنصر على الأعداء، فوافق له على ما فيه صلاح العالم)
هذه صفحة من التاريخ الإسلامي لم تعط كفاءها من القراءة والتأمل، وفصل من سياسة مصر في جهاد أعداء الإسلام لم ينل نصيبه من الإيضاح والشرح. هاهو ذا الملك الظاهر بيبرس وأمراؤه وعلماء مصر وكبراؤها يحيون الخلافة العباسية ليجمعوا عليها قلوب المسلمين، ويثبتوهم في تلك الفتن المحيرة، والكوارث المروعة. وهاهم أولاء يرسلون الكتب والهدايا والرسل إلى بركة خان ابن عم هولاكو، لينحاز إليهم ويحارب بني عمومته ويفل حدهم، ويكف بأسهم عن البلاد الإسلامية. وليس اختفاء السلطان بمبايعة الخليفة العباسي وإثبات نسبته إلى الرسول وإرسالها إلى الملك بركة، وصلاة الخليفة بالناس، وحضوره مفاوضة السلطان والرسل - ليس هذا كله إلا إعلاء لشأن الخلافة وإيذاناً لبركة بأن الخلافة التي أزالها ابن عمه وخصمه وعدو المسلمين هولاكو، قد حيت في مصر وكتبت إليه تستنجده وتستنصره بالإسلام دينه الذي ارتضاه وأنعم الله به عليه
وهذه مأثرة لسلاطين مصر في القرن السابع بعد بلائهم المشكور في دفع الصليبيين مائتي عام، وقبل جهادهم لرد تيمور عن الشام ومصر في مفتتح القرن التاسع. وإنها لمفاخر خالدة ومساع محمودة جديرة بعناية مؤرخي الإسلام
سار رسل الملك الظاهر حتى بلغوا القسطنطينية فلقوا بها رسل الملك بركة المتوجهين إلى مصر؛ فرجع معهم أحد الرسل المصريين، وهو الفقيه مجد الدين ألجأه المرض إلى العودة. وكتب ملك الروم إلى الظاهر أن رسله قدموا سالمين وتوجهوا إلى الملك بركة في صحبة رسل من عنده. ومؤرخو المسلمين يسمون ملك القسطنطينية في ذلك العصر الأشكري وهو تعريب اسم الأسرة التي سيطرت على مملكة الروم الشرقية في تلك العصور ثم يصف القاضي ابن عبد الظاهر مسير الرسل المصريين إلى القرم. ثم رحيلهم عنها إلى أن بلغوا شواطئ نهر إيل (الفلجا) في واحد وعشرين يوما. يقول:
وهو نهر حلو سعته سعة نيل مصر، وفيه مراكب الروسن وهو منزلة الملك بركة. وحملت إليهم (إلى الرسل) الإقامات والأغنام طول هذه الطرقات)
ولما اقتربوا من المخيم (الأردو) قابلهم الوزير شرف الدين القزويني، وهو يحدث بالعربية والتركية وأنزلهم في ضيافة الملك
ودعاهم الملك بركة من الغد فساروا إلى مضربه في صحبة الوزير شرف الدين. وعرفوا آداب الدخول على الملك
يدخلون إلى الجهة اليسرى؛ فإذا أخذت منهم الرسائل ينتقلون إلى اليمن، ويقعدون على الركبتين. ولا يدخل أحد بسيف أو سكين، ولا يطأ عتبة الخيمة. . . الخ.
كان الملك في خيمة عظيمة تسع خمسمائة فارس مكسوة باللباد الأبيض ومبطنة بثياب نفيسة ومزينة بالجواهر، وهو جالس على سرير، واضع رجليه على كرسي فوقه وسادة، لأنه كان مصاباً بالنقرس، وإلى جانبه الخاتون الكبرى، أي كبرى زوجاته (طقطفاي خاتون) - وكان له امرأتان أخريان ججك (زهرة) خاتون دكد (جوهرة) خاتون، وعنده زهاء خمسين أميراً على كراسي. وكان بركة كما روى ابن عبد الظاهر: (كبير الوجه خفيف اللحية في لونه صفرة، يلف شعره عند أذنيه، في أذنه حلقة ذهب فيها جوهر مثمنة. وعليه قباء خطائي وعلى رأسه سراغوج وفي وسطه حياصة ذهب مجوهرة معلق بها صولق بلفاري أخضر، وفي رجليه خف كيمنخت أحمر وليس في وسطه سيف، وفي حياصته قرون سود مقمعة بذهب)
دخل الرسل وأدوا رسالة الملك الظاهر فسر بها بركة سروراً عظيما، وأمر الوزير فقرأ الكتاب، وأمر بأن يجلس الرسل من يمينه خلف الأمراء الذين بين يديه، وقدم لهم القمز ثم العسل المطبوخ، ثم اللحم والسمك، ثم أمر بإنزالهم عند زوجه ججك خاتون وانصرفوا آخر النهار من الغد إلى منازلهم
وكان الملك بركة يدعو الرسل كل يوم يحدثهم ويسألهم عن أخبار مصر وعجائبها: سأل عن النيل والمطر وعن الفيل والزرافة، وقال سمعت أن عظماً لابن آدم ممتد على النيل يعبر عليه الناس فقالوا هذا ما رأيناه ولا هو عندنا. ويقول ابن عبد الظاهر:
(وكان عند الملك بركة رجل فقير من أهل الفيوم اسمه الشيخ أحمد المصري له عنده خدمة كبيرة. ولكل أمير من أمرائه مؤذن وإمام، ولكل خاتون أيضاً مؤذن وإمام. والصغار الذين عندهم لهم مكاتب يتلقنون فيها القرآن العزيز)
ما أعجب الأخوة الإسلامية التي وصلت بين بركة وقومه ووصلته بالمسلمين في بقاع الأرض كلها، وصيرته حليفاً للمصريين على ابن عمه هولاكو، ثم أحاطته بعلماء المسلمين وكبرائهم من غير قومه. فهذا وزيره شرف الدين قزويني يعرف العربية، وهؤلاء علماء من أقطار شتى ينحازون إليه، وهذا رجل مصري من الفيوم يعيش في كنفه ويحظى لديه.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام