مجلة الرسالة/العدد 552/المجمع اللغوي والوحدة العربية
→ علي محمود طه شاعر الفن والجمال | مجلة الرسالة - العدد 552 المجمع اللغوي والوحدة العربية [[مؤلف:|]] |
مرسلات مع الريح ← |
بتاريخ: 31 - 01 - 1944 |
للأستاذ عبد القادر المغربي
لم يكن يدور في الخَلَد، وقد فارقنا هذا البلد، أن الزمان سيُقصينا عنه أربع سنوات فاتت بين هم لا يُنسى، وحذر لا يُحصى، وإشفاق، من مفاجأة إرهاق، بعد ست سنوات قضينا دوراتها في مجمع مصر بين إخوان لا يُنسى أنسهم، ولا يُحصى فضلهم، ولا يُفْرَىَ فَرِيهم
نعم لم ننس ذلك كله، لكنا نسينا قرارات وضعها المجمع، شهدنا مصادرها، ثم غابت عنا مصايرها، وأعمالاً شاركنا الزملاء في غراسها، ثم لم ندر ماذا كان نتاجها، عدا شؤوناً أخرى قام بها المجمع خلال غيابنا كنا بها أجهل، وعن معرفتها أبعد
أقول هذا أيها السادة اعتذراً عن كلمتي التي أنا في صدد إلقائها بين أيديكم؛ فقد جاءت كما يُريد جهلي بما ذكرت، لا كما يريد الواجب، ويقتضيه المقام
لكني مع هذا إذا عجزت عن استخراج موضوع كلمتي من القرارات والمناقشات، فلن أعجز عن استخراجه من موضوع المجمع وأغراضه التي أنشئ من أجلها
يكاد لا يفهم الجمهور من وظائف المجمع إلا أن عليه أن يتتبع الكلمات الدخيلة والأعجمية المتفشية في لغته اليومية، وأن يستبدل ألفاظاً عربية بها، حتى كأن هذا العمل أو هذا الغرض هو كل ما يُرتجى من المجمع. وقد نسوا ما للمجمع من فضل في توفية الأغراض حقها، ولا سيما وضع ألوف الكلمات لِلُغة الدراسة أي لغة العلوم والفنون
لما عاد رئيس وزارتنا السورية دولة سعد الله بك الجابري من مصر زرناه مسلَّمين فكان مما أطرفنا به من أخبار رحلته أنه سأل أحد وزراء مصر عن مجمعهم اللغوي، فأجابه معاليه: يكفي من حسنات مجمعنا أنه زوَّد وزارتي وحدها بنحو ألفي كلمة جديدة يتداول استعمالها الموظفون فيها وفي سائر المصالح التابعة لها
ينسى الجمهور هذا ويتساءلون: ماذا صنعت مجامعنا اللغوية بما تجدد وفشا من الألفاظ الأعجمية خلال هذه الحرب الماضية في سبيلها، والتي ما زلنا نقاسي من عقابيلها؟
ماذا صنع حُماة اللغة، الغُير على سلامتها بكلمات: براشوت، شتوكا، جستابو، كوماندوس، ستراتيجية، ستوديو، برازيت، كورس، وكلها أعجميات؟ وهل أقر المجمع كلمات عربية حديثة الوضع يكثر استعمالها في لغة الراديو والصحافة، ولم تعرفها معاجمنا بمعناه الاصطلاحي الجديد مثل: ذبذبة، وقطاع، وسجّل إصابتين، وقدم عروضاً. وكانت المبادهة في الحرب هذه المرة للروس، وحملة أميركية برمائية
وهل يقر المجمع أبناء الضاد إذا قالوا: كان الفتيان في تلك الحفلة مسرولين بالشورت، والفتيات ملثمات بالأيشارب؟ وبالجملة أين تقع تلك الألفاظ والتراكيب من معاجمنا العتيدة؟ هل يفسح لها فيها مكان يا ترى أولا؟
وعهدي ببعض الزملاء أنهم يرون قبول ما يطرأ على اللغة من أمثال تلك الكلمات الأعجمية، وبعضهم يمنع ذلك ويعدّه مفسداً للغة، منافياً لسلامتها
وهما رأيان بدءَا يتصاولان منذ الشيخ رفاعة الطهطاوي، أو نقول منذ عهد الترجمة الأول. وما زالا في الصيال حتى أسلما أمرهما أخيراً إلى مجمع فؤاد ونزولا على حكمه
حقاً إن مسألة التعريب أو نقول: إن التردد في قبول الكلمات الأعجمية وعدم قبولها أخل بنهضتنا اللغوية وأخرها إلى الوراء أكثر من نصف قرن. ولذا كان التعريب من أعظم الأغراض التي ينبغي أن تُعنى بها المجامع اللغوية. وهو فوق ذلك موضوع معقد خطير. ولم ننس بعد ما كان من اختلاف الرأي حول وضع اصطلاحات عربية للجيش المصري مكان اصطلاحاته القديمة، وكم عالم غيور من رجال نهضتنا الحديثة قضى نحبه وبقلبه شئ أو حسرة من التعريب
ومن أكبر الأدلة على خطورة أمره وتعقد مشكلته أن زميلنا وفقيد مجمعنا الشيخ حسين والى كان قدم إلى المجمع تقريراً مسهباً بعنوان (المعرَّب) أودعه كل ما قاله علماء العربية بشأنه. افتتحه بقوله: (قال الجوهري: إن تعريب الاسم هو كذا وكذا) إلى أن اختتمه بقوله: (وفي القاموس. النرد معرب وهو فارسي) هكذا ابتدأ وهكذا انتهى. ولم يجرُؤ رحمه الله - وهو بطل العلم الجريء - على إبداء رأي من عند نفسه في مشكلة هوابن بجدتها، وقد اصطنع تقريره من أجل حلها
بَلَى جرأ المجمع نفسه فأجاز التعريب، وقال في جملة قراراته التي أصدرها في سنته الأولى ما نصه: (يُجيز المجمع أن تُستعملَ بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم) 1هـ. لكن عاد الخلاف فاحتدام حول كلمة (الضرورة) وتحديد معناها والقدر المراد منها، حتى أصبحت الحيرة فيها أشد من الحيرة في التعريب نفسه، وظلت الكلمات الأعجمية سادرة في غُلَوائها، مُرخية من عنائها، تسرح وتمرح في جنبات امتنا، وأجواء صحافتنا، وفي أحاديث الراديو التي يُذيعها بصوته الجهوري وسحره العبقري.
ما لنا ولهذه الكلمات وفي موقف مجمعنا منها، ولنُقبل بشراشر قلبنا على موقف جديد للمجمع يرفع شأنه، ويضاعف عمله، ويوسع نطاق رسالته
ذلك ما يكون حينما يتحقق المشروع الأعظم أعني مشروع اتحاد الممالك العربية الذي يعمل له، ويتقرب إلى الله به جلالة الملك الصالح فاروق الأول، وينفَّذُ إرادته فيه عضد دولته رفعة النحاس باشا
تعلمون أيها السادة أن وحدة أمة من الأمم لا تتحقق ما لم يتحقق استقلال لغتها. قال بعض فضلاء الكتاب المصريين: (يجب أن نفكر في توحيد اللغة قبل أن نفكر في توحيد الأقاليم، ونجتهد في أن يكون للعرب كافة لغة واحدة يتلاقون عندها، كما يتلاقون في جبل عرفات)
ولا يخفى أن الغرض الأول من مجمع فؤاد الأول إنما هو وحدة اللغة العربية وسلامتها. فمن وظائف المجمع إذن مشاركة العاملين من طريق غير مباشر في تحقيق أمر الوحدة العربية الشاملة التي يضطلع بأعبائها جلالة المليك المحبوب
إذا تحقق اتحاد الأقاليم العربية كان المجمع لهذه الأقاليم كلها لا لمصر وحدها، وكان عليه أن يتصل بها اتصالاً يشمل اللغة من جميع نواحيها: فيدرس لغاتها، ويعمل المقارنة بين لهجاتها، ويستفيد من مزاياها وخصائصها، ويرسل إليها من مطبوعاته ما يساعد على توحيد تلك اللغات واللهجات أو التقريب بينها على الأقل
لا جرم أن المشروع الفاروقي، سيخلق للمجمع الفؤادي وظيفة جديدة وعملاً مستأنفاً
وفي جزيرة العرب مجال واسع للعمل: من ذلك مثلاً بعثة إلى نجد، وأخرى إلى الحجاز، وثالثة إلى اليمن، وهلم جرا.
نحن في ذلك اليوم السعيد، وإذا رئيس مجمعنا المصري يعلن أنه تلقى من رئيس بعثة اليمن تقريراً قال فيه: إن البعثة زارت جبل (عكاد) فرأت أهله كما وصفهم به ياقوت والفيروز ابادي والزبيدي:
قال القاموس وشارحه الزبيدي: (عكاد كسحاب جبل باليمن قرب زبيد أهله باقون على اللغة الفصيحة إلى الآن ولا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليال خوفا على لسانهم. اهـ)
والزبيدي يمني نشأ في اليمن قريباً من جبل عكاد وتوفي بمصر منذ مئة وخمسين سنة. وقال ياقوت في معجم البلدان: (جبلا عكاد فوق مدينة الزرائب وأهلهما باقون على اللغة العربية من زمن الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من أهل الحضر في مصاهرة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه. اهـ)
وحدثني العلامة المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري في إحدى جلسات مجمعنا هذا قال: إن السيد عبد الرحمن الكواكبي المعروف في القاهرة أخبره أنه في أثناء سياحته في جزيرة العرب مرَّ بجبل عكاد المذكور فوجد أهله كما وصفهم ياقوت والفيروز ابادي والزبيدي. قال الكواكبي: ولكن العكاديين يسكّنون أواخر الألفاظ ولا يُلحقون بها حركات الإعراب. وعقب الإسكندري على هذا بقوله: يظهر من قرائن الأحوال ومن طروء الشذوذ على الأفكار أن اللغة العربية ستفقد في المستقبل مزيتها هذه. فقلت للشيخ الإسكندري، وقد بدأنا العمل بتلك الرخصة حينما نقرأ (الأنساب) و (أرقام الحساب) فنقول في الأنساب مثلاً: جاء الشيخ محمدْ بنْ يوسفْ بنْ خالدْ بنْ عبد الله، هكذا من دون إعراب. ونقرأ أرقام الحساب، فنقول غيرَ ملومين: سافر فلان إلى أوربا سنةَ ألفْ وثلاثمائةْ وثلاثْ عشرةْ مثلاً. على أن بعض علماء العربية رخّص في تسكين الأعداد وحدها.
ثم إن الشيخ الإسكندري رحمه الله حوقل وتعوذ إلى الله من هذا المصير، وتمنى ألا يعيش إلى ذلك الزمن الذي تفقد فيه اللغة حِليتها. وتتعرَّى من أعلاق زينتها
حقاً إن تعوّذ المرحوم الإسكندري من هذا المصير للغة في محله، لأن التفريط بحركات الإعراب تفريط بها نفسها وإضاعة لمزية من أكبر مزاياها. وهو فوق ذلك يحدث بلبلةً في تفهم آيات القرآن ونشر تعاليمه بين الناطقين بالضاد إن بقيت الضاد ضاداً. ونحن نشاركه في الحوقلة والتعوّذ. ونسأل الله أن يصون لغتنا، وأن يُبقي مجمعنا (مجمع فؤاد الأول) حارساً لها، عاملاً على سلامتها، في كنف المليك المعظم فاروق الأول، كما نضرع إليه سبحانه أن يجعلَ القرآنْ تعويذة لجلالته من صروف الزمانْ، ويزيدَه توفيقاً في ما يروم من إسعاد العرب، وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم، إنه سميع مجيب.
عبد القادر المغربي
عضو مجمع فؤاد الأول