الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 551/كتب وشخصيات

مجلة الرسالة/العدد 551/كتب وشخصيات

بتاريخ: 24 - 01 - 1944

4 - الصديقة بنت الصديق. . . للعقاد

للأستاذ سيد قطب

مدرسه العقاد

في الأدب والحياة

كل ما قلته عن (حدود المدرسة الأدبية) في كلمة سابقة من هذه الكلمات، يمكن تطبيقه بلا تحفظ على (مدرسة العقاد)؛ فهي مدرسة في الأدب كما أنها مدرسة في الحياة، يلتقي منها تلاميذها على سنن واضح ونهج صريح، ويجدون فيها تفسيراً معيناً للحياة والفنون، يشتمل نوع الإحساس ولون التفكير، وطريقة التعبير، بل يشتمل فوق ذلك قواعد المنطق والسلوك، وتقوم الأشياء والأشخاص، وتقدير الحوادث والأعمال!

وهي مدرسة متبلورة، واضحة السمات، لا يجد الناقد مشقة ولا عسراً في اختيار عنوان لها، يمثل ويلخص أكبر ما تستطيع العنوانات تمثيله وتلخيصه

هي مدرسة (المنطق الحيوي)

والنسبة هنا إلى (الحياة) وإلى (الحيوية) جميعاً. . . إلى (الحياة) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو ما تقوله الحياة وما تصنعه، ومنطقها هو المنطق المطاع في جميع الأحوال.

كل ما تصنع الحياة يُرجَّى ... من بنيها قبوله واغتفاره

فإذا أنكروا قبيحاً، ففي القبـ ... ح من الموت لونه أو شعاره

وإلى (الحيوية) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو باعثه، ومدى الحيوية في هذا الباعث. وقد تتشابه مظاهر الأقوال والأعمال ولكنها تتفق في (الرصيد) المكنون لها من الباعث الحيوي ليتوحد الحكم عليها، وقد تتفق مظاهرها ولكنها تختلف في الرصيد فيكون ذلك مناط الاختلاف

أستاذ هذه المدرسة الأعظم هو الحياة ذاتها، لا الفكر المجرد، ولا المنطق الذهني، ولا مواضعات المجتمع الاصطلاحية، ولا قواعد الخلق المتعارفة، ولا المذاهب الفنية المعنونة.

إنها ترجع إلى النبع الأول تستقى منه، وإلى الناموس الخالد تتوخاه، ترجع إلى الحياة الطبيعية فتتلقى عنها مؤثرات الإحساس، وقواعد المنطق، وطرائق التعبير، كما تتلقى أصول السلوك ونواميس الآداب وقوانين الأخلاق سواء بسواء

ولكن عدداً من المدارس يمكن أن يتتلمذ على الحياة ثم يختلف في مناهج الدراسة. وهنا تسعفنا نسبة المدرسة العقادية إلى (الحيوية) في تحديد المنهاج. فالحيوية الفائضة المتدفقة، الحيوية الظاهرة والباطنة، حيوية الحس والوجدان، حيوية الطبع التي تفيض على الحواس والذهن والضمير في آن. . . هي السمة التي تعجب بها مدرسة العقاد، والتي تصدر عنها في السلوك والاعتقاد، وفي الفنون والآداب

ولما كانت الحياة هي الأستاذ الأعظم للمدرسة، فلا عجب أن يكون طابعها هو الاستقلال في التلقي عن هذا الأستاذ - في حدود السمات العامة لها - وأن يكون عمل العقاد فيها هو عمل الرائد الذي يكشف النبع، ويمهد إليه الطريق. وهناك يلتقي تلاميذه ومريدوه - وهو معهم - بين يدي الأستاذ الأعظم. وفضله عليهم هو فضل السبق والإجادة، وعملهم معه هو عمل المتذوق الفاهم المريد، لا عمل المقلد الناقل المقود. فليس بتلميذ أصيل في مدرسة العقاد من يغفل عن نفسه ليقلده، ومن يسلك طريقه ولا يستمد من النبع الخالد معه، لأنه إنما يضيع في هذا السلوك سمة المدرسة الأصلية، وهي سمة الاستقلال في الأخذ المباشر عن الحياة.

والعقاد - رائد هذه المدرسة - هو ابن الحياة البار. ابن هذه الحياة القائمة على هذا الكوكب، لا أية حياة أخرى في أي كوكب آخر، هذه الحياة بقيودها وضروراتها، وبآمالها وأشواقها. الحياة الظاهرة للحس واللمس، والمكنونة في القلب والضمير. وهو - قبل كل شئ - إنسان حي، ملء إهابه حياة، بل هو رسول من رسل الحياة المفوضين، وداعية من دعاتها المخلصين

وما عن ضيق في آفاق النفس والحس تستغرق الحياة حس العقاد ونفسه، ولكن عن سعة وضخامة في هذه الحياة تستغرق الحس والشعور

يا طالباً فوق الحياة مدًى له ... يسمو عليها، هل بلغت مداها

ما في خيالك صورة تشتاقها ... إلا وحولك لو نظرت تراها على أننا لا نعتمد في تقرير هذه الحقيقة على ما يقول، فقد يستوحي الأديب قراءاته أو أفكاره ثم يقول! ولكننا نعتمد على الإنسان الحي في العقاد، وعلى سلوكه في حياته الشخصية والسياسية والفنية، وعلى انتباهه الحاد لكل نيضة حية في نفوس الآخرين وسلوكهم، ولكل التفاتة منهم إلى الحيوية النابضة في الكون والحياة. وذلك هو البرهان الحي الصحيح في فهم الطبائع والخصائص والاتجاهات.

وأدوات الاتصال بالحياة عند العقاد هي حواس يقظة متفتحة، تؤدي إلى حس متوفر مكتمل، يفضي إلى وجدان زاخر عميق، ولهذه الأدوات كلها مدد من بداهة الطبع وومضات الفكر، وسبحات الروح، في توازن وانسجام وإن الاتصال بينه وبين الحياة ليتم تارة من الخارج إلى الداخل، وتارة من الداخل إلى الخارج (إذا لم يكن بد من هذا التجسيم). . . حاسة توقظ حساً فيذكو ويتوهج، وحس يثير وجداناً فيشع ويفيض. أو وجدان ينفعل ليوقظ الحس فيفتح الحواس. وهذا وذلك على حسب الحالات النفسية وعلى حسب المؤثرات المختلفة. وإن المنافذ لمفتوحة علواً وسفلا، بل لا علو ولا سفل، إنما هي قوة واحدة متعددة المنافذ مشتبكة المسالك، متصلة بالحياة، تلتقي فيها الأرض بالسماء، بل لا أرض هناك ولا سماء، إنما هو عالم واحد والروح والمادة مظهران لحياة واحدة و (الدنيا جمال نصل إليه من طريق الضرورة، وروح نلمسها بيد من المادة)

وهذا العالم الواحد هو الذي ندرك الظاهر منه بالحس والحواس، وندرك المكنون منه بالبداهة والوجدان، أو ندركه ظاهراً وباطناً في لمحة واحدة بجميع هذه الأدوات؛ فما ظاهره إلا رمز لمكنونه. وقيمة هذا الظاهر مستمدة مما يرمز إليه من مكنون وكلاهما حق وصدق لأنهما شيء واحد في النهاية!

قالوا الحياة قشور ... قلنا فأين الصميم

إن الحياة حياة ... ففارقوا أو أقيموا

ولقد كان العقاد - بما فيه من يقظة الحس وقوة الحواس - وشيكا أن يبذل إعجابه كله للحياة المحسوسة الظاهرة وللحيوية المتدفقة في الحس والغريزة، لولا قسط من (الصوفية) - ولا يعجب أحد لهذه الكلمة - ففي العقاد إيمان عميق بقوة مجهولة تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع (والصوفية في أساسها البسيط هي هذا الإيمان بالمجهول). ولكن هذه القوة المجهولة التي يؤمن بها العقاد إنما تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع، لمصلحة هذه الحياة نفسها وللرقي بالإنسانية في معارج الكمال، لا لغرض آخر من الأغراض التائهة المجهولة!

هذا القسط من الصوفية - بهذا المعنى - يمتزج بالحيوية الحسية، فيخرج منهما مزاج جديد فيه من هذه وفيه من تلك على غير بينهما ولا انفصال

ولقد كان العقاد كذلك - بما فيه من صحو الذهن، ويقظة الوعي وشيكا أن يبذل قواه كلها للفكر والمنطق، لولا فيض من حيوية الطبع يجرف قوى الذهن والوعي لتستحيل جنوداً لهذا الطبع الحي، تضرب بسلاحه، وتستمد منه القوة وله عليها السيطرة في النهاية!

وكثير من الفنانين يقوم في نفوسهم صراع بين مثلهم العليا وبين سلوكهم في الحياة. بين ما يصطرع في كيانهم من غرائز يستقذرونها وما يحلق في أرواحهم من أشواق يهفون إليها؛ فأما العقاد فقد عقد صلحاً مبكراً بين غرائزه ووجداناته فهو لا يفعل ما يستقذره ولا يستقذر ما يفعله، وبين ذلك قوام! وللحيوية عند العقاد شفاعتها الحاضرة فيما تأخذ وما تدع من الأمور. . . أأقول شفاعتها؟ ألا إنها ليست في حاجة إلى الشفاعة؛ فهي نفسها الشفيع الذي لا يرد له كلام، والمقوض الذي لا يسأل حتى عن أوراق الاعتماد! وليست هي إذن في حاجة إلى الشفاعة والاعتذار بقدر حاجتها إلى الثناء والإطراء. هكذا يعجب بمحمد في الأنبياء، وعمر وأبي بكر والإمام في الخلفاء، وبالصديقة بنت الصديق في النساء، كما يعجب بالمتنبي وابن الرومي في الشعراء، وبنيتشه وجيته في الأدباء، وبسعد ومصطفى كمال في الزعماء. . . وهؤلاء وأولئك وسواهم ممن نالوا إعجابه، إنما يلتقون أولاً في صفة الحيوية، ثم يختلفون في مدى هذه الحيوية ونوعها، وفي اتجاهها ومظاهرها كل حسب وظيفته في الحياة

وإن إعجاب العقاد بالحيوية ليطرد فتنشأ عنه آراؤه في الحياة والأخلاق، وفي الانفعال والسلوك، وفي الأحداث والأشخاص، وفي الفن والنقد. وما من رأى له في المدارس الأدبية وفي طرائق الأدباء، وفي الفن والسياسة وفي الارتياء والاعتقاد، يبهم أو يستغلق إذا عالجه الناقد بهذا المفتاح!

أعمال العقاد الفنية لتؤلف جميعها نشيداً واحداً مطرداً في تمجيد الحيوية بكل معانيها وأشكالها، منذ الجزء الأول من ديوانه إلى الجزء الأخير، ومنذ (خلاصته اليومية والفصول) حوالي سنة 1914 إلى مؤلفاته الأخيرة سنة 1944. وتلك علامة الصدق بلا جدال

وإنه ليسير في فلسفته الموحدة، في طريقه المستقلة، فيلتقي بالكثير من الأدباء والفلاسفة والمفكرين في الشرق والغرب، ولكنه لا يساير أحداً منهم إلا إلى المدى الذي يتفق مع فلسفته الخاصة، ثم يفترقان فيمضي هو على نهجه بطريقته، ويدع صاحبه يمضي لطيته، في سلام أو في خصام! وهنا يقول من لا يلتفتون لغير الظواهر: إنه يأخذ من هذا أو من ذاك على معنى غير معنى الدراسة والالتقاء

ولابد قبل أن تختم هذه الكلمة أن نلاحظ بحق سعة في النفس والفكر تجعل هذا الرجل ذا الشخصية الواضحة والفلسفة الخاصة يستمع ويهش ويتجاوب مع جمع حاشد من أنماط الشخصيات والفلسفات

من المعري الذي يقول:

تسريح كفك برغوثاً ظفرت به ... أبر من درهم تعطيه محتاجاً

إلى المتنبي الذي يقول:

ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روَى رمحه غير راحم

ومن ماكس نوردو إلى شوبنهور، ومن تاجور إلى نيتشه، ومن جيتي إلى توماس هاردي، ومن خالد بن الوليد إلى عمرو ابن العاص، ومن مصطفى كمال إلى غاندي، ومن عمر بن أبي ربيعة إلى جميل بثينه. . . إلى آخر هذه الشخصيات التي لا تقل الفوارق بين كل اثنتين منها وبين كل واحدة منها والأخرى عن الفوارق بين المعري والمتنبي في شتى الاتجاهات

ولا بد أن نلاحظ بحق كذلك تلك المقدرة التي تقيم عظمة أبي بكر أمام عظمة عمر الندين المتقابلين في نوع العظمة، والتي تفسر تصرف عمر مع خالد، وتصرف عائشة مع علي، والتي تنصف الإمام من الصديقة، وتنصف الصديقة من الإمام

وليس هذا عن منطق لبق، ولا عن مهارة ذهنية، إنما هي سعة في النفس، ورحابة في الفكر، وانفساح في الإحساس، لرؤية جميع الجوانب، وتحليل وجهات النظر، وتفسير جميع النزعات

هذا ولم يتسع المجال لأن نذكر شيئاً عن خصائص العقاد الفكرية، خصائص التحليل والتعليل، تلك التي تطرد في كل ما يكتب، وإن كان اعتماده الأكبر في التعليل والتحليل على المنطق الحيوي لا المنطق الذهني. وخلاصة ما يقال في دراساته التحليلية أن (برهانه المفصل تابع لاعتقاده المجمل، وليس اعتقاده تابعاً لبرهانه في كل حين، كما يقول هو في إحدى مقالاته عن نموذج من الناس يستحسنه ويؤمن على طريقته في الاستدلال

ولم نجل كذلك طريقته في العرض، وأسلوبه في التعبير، ولعل القارئ يجد شيئاً من هذا فيما كتبناه عند الموازنة بينه وبين المازني، وفيما كتبناه في العام الماضي عن (عبقرية محمد) وهي نموذج كامل لدراسة الشخصيات.

وبعد! ألا كلمة عن (الصديقة بنت الصديق) صاحبة المقال؟! إن قلة السطور الباقية لتعجلني عن كثير، ولكنني أملك أن أقول: إن عائشة المرأة، وعائشة الأنثى، وعائشة المسلمة، وعائشة زوج النبي، وعائشة الإنسانة تبدو على أوضح ما تكون في هذا الكتاب الأخير

ولقد وقع اتفاق عجيب في موعد هذه الدراسة. ذلك هو التوافق بين السن التي كان النبي (ﷺ) يهش فيها لعائشة ويستروح ويتقبل بسرور ونشاط مقتضيات سنها وصباها وبين السن التي بدرس فيها العقاد شخصية عائشة (رضى الله عنها)،

وإنه ليخيل إلي أن هذا التوافق كان واضح الأثر في انفعال العقاد لهذه الشخصية الحلوة الكريمة وصحة فهمه لحوالجها وتصرفاتها

وهذا الكتاب الجديد امتداد وتكملة لعبقرية محمد، كما كانت عائشة امتداداً وتكملة لحياة محمد، وقد جمعهما أسلوب العقاد الفنان على نسق اجتماعهما في الحياة قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان.

سيد قطب