مجلة الرسالة/العدد 550/هجرة الروح
→ الله. والإنسان. والحياة | مجلة الرسالة - العدد 550 هجرة الروح [[مؤلف:|]] |
خيبة سراقة ← |
بتاريخ: 17 - 01 - 1944 |
للأستاذ زكي نجيب محمود
قال صاحبي وهو يحاورني: ما أنا بمؤمن بما زعمت لي من رأي
فقلت أي رأي تريد؟ فما أكثر ما جادلتني مذ أخذت فيما أنت آخذ فيه هذه الأيام من قراءة الفلسفة
فقال: ألا تذكر إذ كنت تسايرني وتسامرني في مماشي حديقتك الغناء ليلة الهجرة؟ ألست تذكر حين أخذت تقص علينا كيف أوذي النبي في مكة فهاجر إلى المدينة، وكيف نشب القتال بين المسلمين والكافرين، حيث اضطرمت نفوس المؤمنين بحماسة الإيمان فاندفعوا يريدون: إما نصرة الدين وإما الخلود في دار النعيم؟. . . وعندئذ أبصر زميلنا (م) المتفلسف الشكاك بزهرات متناثرات هنا وهناك، فقهقه ساخراً وهو يقول: (خلود!) ثم أدار عينيه ناحية الجدار فإذا هو يرى جماعة من النمل عركتها قدم فلبثت جامدة على الأرض صرعى حيث كانت، فارتفعت قهقهة الزميل مرة أخرى، ورنت فيها نبرات السخرية التي عهدناها في ذلك الزميل الساخر. . .
فقلت: نعم، إن لما تقول لأثرا خافتاً كادت تنمحي من صفحة الذهن معالمه فلا أكاد أتبينه في وضوح، فما الذي أضحك (م)؟
فقال أضحكه أن يرى منثور الزهر ومبتور النمل راقداً كأنما هو جثث القتلى في حلبة القتال يوم المعركة، وقد علق بقوله: أليست الحياة هي الحياة حيثما تبدت في بشر أو حشر أو زهر؟ أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وجماعة الجند في حومة الوغى تصفعهم بالحديد والنار فتوردهم موارد الحتوف؟ لكنه الإنسان المغرور ظن بنفسه الامتياز فاختص روحه بالخلود والبقاء، وطوح بسائر الأحياء في مهاوي البلى والفناء. . .
ولست أكتمك الحق يا صديقي، فقد أخذت أعيد قول زميلنا (م) بيني وبين نفسي، وأديره مرة بعد مرة في رأسي، حتى ارق الفكر جنبي في غير طائل؛ فبعد طول التفكير لم أجد في قبضتي غير ريح، ولم يكن حصادي سوى هشيم! ولجأت إلى كتبي أقلب صفحاتها، أنزع كتاباً وأضع كتاباً، فما صادفت غير الحيرة والشك المميت؛ فما زلت أسائل نفسي بم سأل (م) أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وفرقة من الجند تصفعها بالحديد والنار يوم الوغى فتوردها موارد الحتوف. . .؟ فلا بأس يا صديقي أن نعيد الحديث بعد عام كامل، في مماشي حديقتك وفي ليلة الهجرة؛ أفيكون غرور الإنسان حقاً هو الذي. . .
فقاطعت صديقي قائلاً: كفى، كفى، فلم أعد أميل إلى مثل هذا الجدال وإنه لعقيم، فلقد قرأت في صدر شبابي كل ما أتت به اليوم معجب مفتون، واجتزت عهداً أراك تجتاز مثله الآن، عانيت فيه ما عانيت من كرب وضيق. وكم قرأت وقرأت، فكنت أتلون بما أقرأ كأني حشرة حقيرة تدب على ظهر الأرض وتسعى، فتصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وتحضر إن كانت تزحف فوق الحقول. كنت أقرأ الشكاك فأشك، ثم أقرأ المؤمنين فأومن. . . هذا كتاب متشائم أطالعه فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي. وذلك كتاب متفائل أطالعه فإذا أنا الهاش الباش المرح الطروب؛ لكن أراد الله بي الخير فأفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة تعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني، وهداني الله سواء السبيل. أتريد أن تسمع مني - إذن نصح الخبير؟
فقال: أحبب إلى نفسي بما تقول!
فقلت: إني منتزع لك القول من هذا اليوم الخالد؛ فنصيحتي أن تهاجر كما هاجر الرسول
قال: وكيف وأنت أعلم الناس بأمري، فمالي بغير هذا البلد مأرب ولا عيش
قلت: لئن هاجر الرسول الأمين في عالم المادة، فهاجر أنت في عالم الروح
قال: وماذا تريد بهجرة الروح
قلت: لقد هاجر النبي الكريم بمعنى الرحلة من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف! لقد أوذي النبي الكريم في مكة فهاجر إلى المدينة، فجاءه نصر الله والفتح، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وهاأنت ذا تؤذيك أباطيل العقل في بعض الكتب فدعها إلى سواها، لعلك بذلك منتقل من ضلال العقل إلى إيمان القلب حيث السكينة والقرار. ولقد كانت هجرة النبي مولداً جديداً لرسالته، فأرجو أن تكون هجرتك من كتب إلى كتب بعثاً جديداً لروحك المعذب الظمآن. إن من ابتل جسمه بالماء وهو في البحيرة مغمور لا بد له من الخروج إلى الشاطئ المشمس إن أراد لنفسه الدفء والجفاف.
أما أن يثب من البحيرة إلى البر فقد ازداد بلة على بلة، وذلك ما صنعته أنت حين أرقتك فلسفة صديقنا (م) فطلبت النجاة في كتب الفلسفة!
إني مذ أراد الله لي الهداية أكره أن أناقش مسائل الدين بمنطق العقل، ولكني لا أزال ألمح في عينيك حيرة الشك، مما سمعته من سخرية صديقنا بروح الإنسان وخلودها، فدعني لحظة أخاطب فيك الفطرة والبداهة، فأقول: أليس أمل الإنسان في خلوده بعد الموت دليلاً على خلوده؟ إن رغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجوداً، ورغبة الإنسان في زمالة الأصدقاء يستحيل أن تنشأ إن لم يكن إلى جانب الإنسان الواحد ناس يزاملونه ويصادقونه؛ فالزهرة والنملة فانيتان وهما لا تنشدان خلوداً، أما الإنسان فراغب فيه ساع إليه، ويستحيل أن يكون له ذلك ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد؛ فلماذا لا يستوحي صديقك (م) فطرته بدل أن يلقى بسمعه وفؤاده إلى هذا وذاك؟ أإذا اهتدى بوحي البصيرة إلى الحق أنكره، لأن غيره لم يجد السبيل إلى الهدى؟ إنه إذن كمن يحدج ببصره في الشمس ساطعة فينكرها لأن زميله المكفوف لم يرها!
ألم تقرأ عن (مذهب الذرائع) الحديث الذي يصور آخر ما بلغه العقل الفلسفي؟ إنه يقيس صدق الفكرة أو بطلانها بمقدار نفعها؛ وذلك لأن الحق المطلق في رأيه معدوم، فإن أدت الفكرة إلى نجاح الحياة الإنسانية وازدهارها فهي الحق، وإلا فهي كذب وباطل. فلنسأل صديقنا المتفلسف: أيهما أنفع للحياة الدنيا نفسها أن يعتقد الإنسان في خلوده أو في فنائه؟ أي العقيدتين يؤدي إلى الفضيلة والخير؟ فإن كانت الأولى فحسبنا ذلك وليس بنا بعدئذ حاجة إلى لجاجة وجدال. . .
كلا يا صديقي، لا تلق بنفسك في هذه الشكوك التي قد تغري بها غاشية الحرب، فيتجهم أمام ناظريك الأفق وإنه لمشرق وضاح؛ بل هاجر كما هاجر الرسول الأمين، ولتكن الليلة موعداً لهجرتك
هل جاءك حديث الإمام الغزالي وهو (حجة الإسلام وزين الدين)؟ لقد قرأ إبان نشأته ما قاله الحكماء والفلاسفة، فارتجت له نفسه وأخذه الشك من كل جانب. اقرأ له (المنقذ من الضلال) لتستمع إلى قصته عن نفسه يروي لك ما قاساه في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق، مبتدئاً بعلم الكلام، ومنتقلاً بعد ذلك إلى دراسة الفلسفة، ومنهياً بطريق الصوفية، خائضاً في كل ذلك بحر الخلاف، متوغلاً في كل مظلمة، متهجماً على كل مشكلة، فاحصاً عن عقيدة كل فرقة ومذهب؛ وهو يقول إن التعطش إلى درك حقائق الأمور كان دأبه وديدنه من أول عمره، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلته من غير اختيار منه؛ فلما أدت به دراسته الطويلة العميقة إلى حيرة الشك، (حزن قلبه، وانحطت صحته، ثم التجأ إلى الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فأجابه. . .) وعاد إلى الإمام المؤمن يقينه (ولم يكن ذلك بنظم دليل، وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة)
ثم هل جاءك نبأ (تولستوي) ذلك الأديب الفحل، والفيلسوف العظيم؟ إنه غاص في أغوار الفكر وغاص، ثم انتهى به الأمر أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه باطل وهراء، ولم يبق على رفوفها سوى الكتاب المقدس وبعض الكتب الدينية! لقد جثمت على صدره أزمة نفسية، كالتي ألمت بإمامنا الغزالي، فأحس كأن شبحاً مخيفاً يطارده، واسودت الدنيا في عينيه، وبلغ به اليأس والقلق حداً بعيداً، فأخفى عن نفسه (بندقية) الصيد خشية أن يصوبها إلى صدره في ساعة من ساعات القنوط؛ وقال عن نفسه على لسان شخص من أشخاص قصصه: (لم يعد لدي شك في أني - ككل كائن حي - لن أصيب في هذه الدنيا غير الألم يعقبه الموت والفناء)، وشرع (تولستوي) يقلب صفحات الكتب الفلسفية ذات المذاهب المختلفة، فيستطلع آراء أفلاطون وكانت وشوبنهور وباسكال لعله واجد فيها ما يرد له الطمأنينة بعد حيرة وقلق، لكنه تبين أن آراء هؤلاء الحكماء - كما يقول - (واضحة جلية دقيقة حينما تبتعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها لا تهدي الحائر سواء السبيل، ولا تبعث الطمأنينة إلى القلوب الضالة القلقة) ولم يلبث (تولستوي) أن هجر الأدب ثم الفلسفة، واتجه إلى الدين لعله يجد في نوره الهداية واليقين؛ فلئن عجز العقل عن هداه فليلجأ إلى القلب، ودعا ربه قائلاً:
(اللهم هبني إيماناً قوياً أملأ به قلبي، وأهد إليه غيري)
هاجر يا صديقي كما هاجر الرسول الأمين. لقد هاجر النبي الكريم بمعنى السفر من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف. لقد أوذي النبي الكريم في مكة فهاجر إلى المدينة، وهاأنت ذا تؤذيك أباطيل العقل فهاجر إلى القلب وانعم بإيمانه تنعم بالسكينه والقرار. لقد كانت هجرة النبي لرسالته مولداً جديداً، فلتكن هجرتك في مطالعاتك بعثاً جديداً لروحك المعذب الظمآن
هاجر يا صديقي كما هاجر الرسول، ولئن هاجر النبي في عالم المادة فهاجر أنت في عالم الروح.
زكي نجيب محمود