مجلة الرسالة/العدد 550/من مذكرات ابن أبي ربيعة
→ الإسلام بين العقل والروح | مجلة الرسالة - العدد 550 من مذكرات ابن أبي ربيعة [[مؤلف:|]] |
القضايا الكبرى في الإسلام ← |
بتاريخ: 17 - 01 - 1944 |
جريرة ميعاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر ابن أبي ربيعة. . .):
ركتني الحمى ثلاثاً حتى ظننت أن الله قد كتب على أن أذوق حظي من نار الدنيا قبل أن أرد على نار الآخرة. وكنت أجد مسها كلذع الجمرات على الجلد الحي، وأجدني كالذي وضع بين فكيه ضرساً من جبل فهو يجرشه جرش الرحى، وظللت أهذي وابن أبي عتيق يتلقف عني ما كنت أسر دونه، حتى إذا فصرت عني وثاب إلى عقلي قال ابن أبي عتيق: ويلك يا عمر! والله لقد فضحتها وهتكت عنها سترها؛ أما والله لو قد كنت أخبرتني قبل الساعة لاحتلت لها ولوقيتها مما عرضتها له. قلت: ويبك يا ابن أبي عتيق! من تعني؟ قال: من أعني؟ وأنت مازلت منذ الساعة تهذي باسمها غير معجم! إنها الثريا واليوم ميعادها، ولقد مضى من الليل أكثره وما بقى منه إلا حشاشة هالك!
ووجم الرجل واعتراني من الهم ما حبب إلى الحمى أن تكون خامرتني وساورتني قضت علي، وطفقت أنظر بعيني في بقايا الليل نظرة الثكلى ترى في حواشي الدجى طيف ولدها وواحدها. وتمضي الساعات علي كأنما تطأني بأقدم غلاظ شداد لم تدع لي عضواً إلا رضته. وابن أبي عتيق يذهب ويجئ كأنما أصابه مس فهو يرميني بعينه صامتاً يتحزن لما يرهب من فجاءات القدر بي وبها. ثم أقبل على يقول: خبرني يا عمر أين واعدتها من دارك هذه؟ فوالله لكأنما ألقى في سمعي لهباً يتضرم، فلم أسمع ولم أبصر ودارت بي الأرض، فما أدري بم أجيب، فلقد واعدتها منزلاً كنت أحتفي به لميعادها، قد استودعته سري وسرها، فما أدري ما فعل به أهل الدار، وقد ربضت بي الحمى بمنأى عنه. ولا والله ما شعرت أن الفجر قد صدع حتى سمعت الأذان كأنه ينعى إلي بعض نفسي فما تماسكت أن أنتحب، وابتدر إلى صاحبي يكفكف غرب أحزاني. وقال: خفض عليك يا عمر، فإن هذا يهيضك إلى ما بك. وما تدري لعل الله يحدث بعد عسر يسرا. قم إلى وضوئك أيها الرجل، واستقبل بوجهك هذه البنية، وادع الله جاهداً أن يستر ما هتكت، فإنهن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه فما كدت أفرغ من صلاتي حتى جاءت جارية صغيرة تعدو قد أنزفها الجري، ورمت إلي كتاباً في سدقة من حرير يفوح منها العطر، وقالت: سيدتي تقول لك: في هذه شفاء من داء. واستدارت وانطلقت تسعى. فنظرت وشممت ونشرت الحريرة المطوية عن كتاب المطوي طي العجلة، وإذا فيه: (جئنا لميعادك، فإذا شبح نائم في بردك فرميت نفسي عليه أقبله فانتبه وجعل يقول: اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله. ودفعني فعدوت أقر بنفسي من فضيحة تنالني فيك. وما شعرت أنك محموم حتى أنبأتني بذلك أختي، فويلي عليك وويلي منك يا عمر!). فألقيت الكتاب إلى ابن أبي عتيق واستعفى به أن يدبر منذ اليوم ما أتقي به خبء الليالي، فنظر إلي بعينين زائغتين من سهر وسهاد وقال: والله يا عمر لكأني بك قد ركبت إلى بلائك وبلاء الثريا حين قلت:
تشكَّي الكميت الجَرْيَ لمّا جهدته ... وبّين لو يستطيع أن يتكلما
وما أدري كيف أحتال لك في أمر قد انفلتت من يديك أعنته، فدع الأمر لله يدبره، ووطن نفسك على الثقة، ولا تجزع لبنية إن جاءتك، والق من يلقاك بالفضيحة كأتم ما كنت بشاشة ورضى وسكينة؛ فأنت خليق أن تنقذها مما ورطتها فيه. وإياك والتردد، فإنه مدرجة النكبات. ولقد عهدتك صنع اللسان فإن لم ينفعك اليوم لسانك فلا والله لا نفعك. قلت: جزاك الله عني خيراً يا ابن أبي عتيق، ما ضرني كتماني دونك ما أكتم إلا اليوم، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. ويلي من نفسي ثم ويلي منها! واعلم أنه ما يكربني أن يلقاني من أحتال له وأصرفه، وإنما يكربني أمر الثريا وهي تقضي الساعات قد ألقى الهم في دمها ناره وفي فكرها ظلمته، ولا والله ما أستطيع أن أحتال لرسول يلم بها فيقول لها بعض ما تسكن إليه
قال ابن أبي عتيق: فهلا حدثتني عنها يا عمر؟ فلقد صحبتك ما صحبتك وما أدري من خبر الثريا وأمرها إلا ما أتسقطه من حديث الناس. قلت: وما تبغي إلى ذلك؟ أما كفاك ما تعرف من أمر سائرهن. وإني لأراك كالمهوم الذي لا يشبع؛ فلو كنت مثلي لقلت عسى أن تكون لك في نفسك حاجة، ولكن الله عافاك مما ابتلاني به، فدع عنك الثريا وأخبارها. فورب السموات والأرض وما فيهن ما أمنت على سرها نفسي، فكيف بي إذا بحت لك؟ قال: إذن فصفها لي كيف تراها؟ قلت: أما إنك على ذلك، لشديد الحرص شديد الطمع. وما تبغي إلى امرأة من النساء تسمع من نعتها وحليتها وصفاتها؟ لولا أن كنت اليوم شاهدي لما حدثتك بحرف. يقول الناس: ما فعل الله بابن أبي ربيعه؟ ما زال يمد عينيه إلى كل غادية ورائحة حتى أفضى إلى الثريا، فتعلق منها بنجم لا يناله وإن جهد. وإنها لعرضة ذلك جمالاً وتماماً، وإني لخليق أن أفنى فيها نور عيني وقلبي. ويقول الناس: ما الثريا؟ إن هي إلا امرأة دون من نعرف من النساء حسناً وبهاء. وقد والله كذبتهم أعينهم، وإني لبصير بالنساء خبير بما فيهن، ولئن كنت قد عشت تبيعاً للنساء أنقدهن نقد الصيرفي للدينار والدرهم فأنا أهل المعرفة أحقق جيادها وزيوفها بأنامل كالميزان لا يكذب عليها ناقص ولا وافٍ
ما يضيرك يا ابن أبي عتيق أن ترى الثريا أو ولا تراها، فإنك لا تراها بعيني، وإنما أنت من الناس تضل عن جمالها حيث أهتدي إليه، وتسألني كيف أراها؟ فوالله إن رأيتها إلا ظنت أني لم أرها من قبل، فهي تتجدد في عيني وفي قلبي مع كل طرفة عين، ولئن نعتها لك فما أنعت منها إلا الذي أنت واجده حيث سرت عن النساء: غادة كالفنن الغض يميد بها الصبا وسكر الشباب، لم ترب ربوة الفارعات، ولم تدف جفوة البدينات، ولم تضمر ضمور الهزولات، ولم تمسح مسحة الضئيلات، ولم تقبض قبضة القصار القميئات، فتم تمامها بضة هيفاء أملوداً خفاقة الحشا هضيمة الكشحين مهفمفة الخصر، تتثنى من اللين كأنها سكرى تترنح. فلو ذهبت تمسها لمست منها نعمة ولياناً وامتلاء قد جدلت كلها جدل العصب، فهي على بنانك لدنة ترعد من لطفها واعتدالها. وانظر بعيني يا ابن أبي عتيق، تبصر لها نحراً كذوب الفضة البيضاء قد مسها الذهب؛ فلا والله ما ملكت نفسي أن أعب من هذا الينبوع المتفجر. إلا تقي لله أن أدنسه بشفتين ظامئتين قد طالما جرى عليهما الكذب والشعر. أما وجهها فكالدرة المصقولة لا يترقرق فيه ماء الشباب إلا حائراً لا يدري أين ينسكب إلا على نحرها الوضاء، يزينه أنف أشم دقيق العرنين لطيف المارن؛ فإذا دنوت إليها فإنما تتنفس عليك من روضة معطار أو خمر معتقة، فاذهب بنفسك أيها الرجل أن تزول عن مكانك كما يقول صاحبنا جميل:
فقام يجرُّ عطفيه خُماراً ... وكان قريب عهد بالممات
ودع عنك عينيها يا رجل، فلو نظرت إليك نظرة لوجدتها تنفذ في عينيك تضئ لقلبك في أكنته مسارب الدم في أغوار جوفك، ولتركتك كما تركتني أسير بعينين مغمضتين ذاهلتين إلا عما أضاءت لك في الحياة عيناها. فإذا دنت إليك فكن ما شئت إلا أن تكون حيا ذا إرادة تطيق أن تتصرف، وذر كل شيء إلا عطر أنفاسها وضياء وجهها، وغمامة تظلل روحك النشوى طائفة عليك بأطراف شعرها المتهدل كحواشي الليل على جبين الفجر، وخذ بناناً رخصاً مطرفاً كثمار العناب تغذوها يد بضة بيضاء يحار فيها مثل ماء الصفا، فلقد قبلتها يوماً ظننت أن قد أطفأت بها غليلي فزادتني غلة وصدى، فما نفعني في نار هذه الحمى إلا ما لم أزل أجد من بردها وطيبها وعذوبتها على شفتي حتى اليوم. ولا والله إن رأيت كمثلها امرأة إذا حدثت، فكأنما تسكب في روحي سر الحياة يهمس عن شفتين رقيقتين ضامرتين كأن الدم فيها مكفوف وراء غلالة من النعمة والشباب. فآه من الثريا! لقد حجبت عني كل نجم كان يلوح لي في الدياجي يلهمني أو يغويني. . . وي، ما دهاك أيها الرجل؟
ورأيت ابن أبي عتيق يتخطاني بعينيه ينظر إلى الباب من ورائي، قد انتسف وجهه وغاض من الدم كأنما يرى هؤلاًء هائلاً قد أوشك أن ينقض عليه، وما كدت أرد الطرف حتى سمعت من يقول: السلام عليكما يا عمر! وأنت يا ابن أبي عتيق مالك تنظر إلي كالمغشي عليه لا ترف منك عاملة ولا ساكنة؟ وما بك يا أبا الخطاب! أترى الحمى كانت منك على ميعاد؟ لقد أقبلت أمس من سفري، وكان الليل قد أوغل فتلقاني ولدك جوان فأنباني أن الحمى قد وردتك فأردعت عليك أياماً فنهكتك حتى خيفت عليك برحاؤها. وأن ابن أبي عتيق جزاه الله عنا وعنك خيراً أبي إلا أن يتعهدك بمرضك حتى تبرأ وتستفيق، وإني لأراك بارئاً يا أبا الخطاب.
فوالله لقد سكنت نفسي لما أتم كلامه وسكت، وأدنى يده يجسني جس المشفق. ورأيت ابن أبي عتيق يثوب كأنما كان في كرب يغته ويعصره ثم أرسله فعاد إليه الدم. فهذا أخي الحارث (هو الحارث بن أبي ربيعة أخو عمر) سيد من سادات قريش شريف كريم عفيف دين، ما رآه امرؤ إلا دخلته الرهبة له حتى تتعاظمه. فما زاده أن كانت أمه سوداء من حبش إلا رفعة ومكاناً. ولقد كان عبد الملك بن مروان ينازع عبد الله ابن الزبير أمر الخلافة، وكان ابن الزبير قد ولى الحارث بعض الولايات، فلما جاءه النبأ بولاية الحارث قال: أرسل عوفاً وقعد! ولا حر بوادي عوف. فابتدر من المجلس يحيى بن الحكم وقال: ومن الحارث يا أمير المؤمنين؟ ابن السوداء! فقال له عبد الملك: خسأت، فوالله ما ولدت أمة خيراً مما ولدت أمه!
ثم صرف الحارث وجهه إلى ابن أبي عتيق وهو يبتسم له وقال: أما زلت يا ابن أبي عتيق بحيث قال صاحبك فيما بلغني من شعره إذ يقول لك؟
لا تلمني عتيقُ حسبي الذي بي ... إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني
إنَّ بي داخلاً من الحب قد أب ... لى عظامي مكنونُه وبراني
لا تلمني وأنت زيَّنتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال ابن أبي عتيق: هديت الخير، فوالله إن أخاك لشاعر يقذف بباطله، ولقد وقعت في لسانه ولقيت من دواهيه. ثم نظر إلي الحارث وقال: أما وقد لقيتك بخير يا عمر، فإني منصرف إلى وجهي، وبالله إلا ما تقدمت إلى أهل بيتك أن يعدوا لي المنزل الذي نزلته بالأمس حتى أعود، وإني أرى الريحان قد ذبل فمرهم أن يستبدلوا به، وأن يطيبوا الفراش ويجمروه. وقل لطائف الليل أن لا يلم بنا؛ فلسنا من حاجته ولا هو من حاجتنا. فما تمالكت أن قلت له: ويحك! أفهو أنت؟ قال: أجل هو أنا أيها الفاسق! قلت: إذن فوالله لا تمسك النار أبداً وقد ألقت نفسها عليك وقبلتك. فقام مغضباً يفور وقال: أعزب، عليك وعليها لعنة الله!
وانطلق الحارث واستفقت من غشية الحب وما نزل بي من الغم لما فاتني من الثريا وقال ابن أبي عتيق: قد والله أسأت فما تراني كنت أحدثك من جوف الليل أنهاك أن تجزع لبغتة إن جاءتك، فوالله لشد ما جزعت وخانتك نفسك وأرداك لسانك! ولبئسما استقبلت به أخاك! ولقد كنت أقول لك إن التردد مدرجة النكبات فإذا جرأة لسانك مدرجة إلى كل بلاء، وإلا والله لا تفلح أبداً أيها الرجل
فلقد اضطرب علي أمري حتى ما أدري ما أقول، ثم سكنت نفسي وقلت له: أفرخ روعك يا ابن أبي عتيق، ولتعلمن اليوم دهاء عمر، فأرسل في طلب ابنتي (أمة الوهاب) والحق أنت الحارث فرده علي. وانطلق ابن أبي عتيق، ولم ألبث حتى جاءتني أمة الوهاب فقلت لها: يا بنية! أشعرت أن عمك الحارث قد نزل بنا الليلة؟ قالت: كلا يا أبه! قلت إذن فانطلقي إلى هذه الغرفة التي إلى جواري وتباكي وانتحبي ما استطعت حتى أنهاك. ففعلت، وجاء الحارث وابن أبي عتيق فقلت له: جعلت فداءك! مالك ولأمة الوهاب ابنتك؟ أتتك مسلمة عليك فلعنتها وزجرتها وتهددتها، وها هي تيك باكية فقال: وإنها لهي! قال: ومن تراها تكون؟
فأنكر الحارث كأنما اقترف ذنباً لا يعفو الله عنه إلا رحمة من عنده، وقال: فما بالك وما كنت تقول؟ فقال ابن أبي عتيق: ذاك هذيان المحموم يا ابن أخي، ولو أنت كنت الليلة إلى جانبه لسمعت من بوائق لسانه ما تصطك منه المسامع. وإني لأظن الحمى هي التي خيلت له حتى أنطقته ببعض تكاذيبه. قال الحارث: والله لشد ما يغمني أن يدع عمر كل خير في الدنيا، وكل ثواب في الآخرة، وأن يحبط أعماله بما يسول له شيطان نفسه وشيطان شعره، فيهتك عن الحرائر ما ستر الله. ولقد طالما نهيتك يا عمر عن قول الشعر فما زلت تأبى أن تقبل مني، أتراك فاعلاً لو أعطيتك الساعة ألف دينار ذهباً على ألا تقول شعراً أبداً. قلت: قد رضيت! قال: فهي منذ الساعة في ملكك
قال عمر بن أبي ربيعه: فما أخذتها منه إلا لأهديها إلى الثريا عطراً ولؤلؤاً وثياباً من تحف اليمن. أما الشعر فوالله لا أتركه لأحد، رضى الحارث عني أو غضب.
محمود محمد شاكر