مجلة الرسالة/العدد 550/فقه عمر
→ الروحانية بين الأنبياء الثلاثة | مجلة الرسالة - العدد 550 فقه عمر [[مؤلف:|]] |
عظة العيد وعبرة الذكرى ← |
بتاريخ: 17 - 01 - 1944 |
للأستاذ محمود شلتوت
(عمر بن الخطاب هو أول من كتب التاريخ بالهجرة، فأحيا
بذلك مجدها، وخلد على الزمان ذكرها، فحق على الذين
يحتفلون بهذا العيد أن يذكروا عمر!)
للرسالة المحمدية جانبان: جانب التلقي عن الله رب العالمين، وهو خاص بمحمد ﷺ لا يشاركه فيه أحد من أمته، وجانب الفهم والبيان، والدعوة والإرشاد، والعمل على توسيع نطاق الإسلام ومد رواقه، وتنظيم الشئون بأحكامها، وإلى هذا الجانب ترجع عزة الإسلام وبقاؤه على الدهر فتياً لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه الأحداث. ويشارك الرسول من أمته في هذا الجانب من آتاه الله العلم والحكمة، وقذف في قلبه النور والهداية، وكشف له عن سر تشريعه، وبصره بمواقع الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، ووهبه غيرة تحمله على الجهاد في ذلك كله، وعلى الصدق والإخلاص في هذا الجهاد!
وإذا كانت عزة الإسلام ترجع إلى الجانب الثاني، وإلى قيمة ما يتصل به من جهود موفقة مخلصة صادرة عن الإيمان واليقين، فإن من يقرأ سيرة عمر، ويقف على جهاد عمر، ويعرف مواقفه المجيدة أثناء خلافته وقبلها، وأفكاره السديدة في حياة الرسول وبعدها، يدرك بوضوح: لماذا كان عمر على رأس الذين أعز الله بهم شريعة الإسلام، وركز أصوله، وأرسى قواعده، كما كان على رأس الذين أعلى بهم كلمته، وأعز سلطانه، ووسع ملكه، ويدرك سر هذه الدعوة النبوية التي توجه بها محمد ﷺ إلى ربه حين أنكره الناس، وتألبوا عليه، وتحالفوا على الكيد له ولرسالته: (اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك) وقد ضمن الله لنبيه إعزاز دينه، ونصرة شريعته، فأجاب دعوته وهدى أحب الرجلين إليه، فكان إسلام عمر تنفيذاً للإرادة الإلهية، وتحقيقاً للدعوة النبوية، وكان إعزازاً لدين الله برجل العزة والسلطان، ونصراً لشريعة الله برجل الفهم والبيان!
لعمر رضي الله عنه نواح كثيرة: فهو رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وسلطان، ورجل تقى وإيمان، ورجل عدل ونصفة، ورجل إشراق ونور، ورجل فقه وقانون، ولسنا بمستطيعين في مثل هذا المقال أن نلم بشواهد تلك النواحي من عظمة عمر، فحسبنا أن نلم ببعض تلك الشواهد في ناحيته الفقهية التي هي أبرز نواحيه، وأخص ميزاته، فقد كان عمر في هذه الناحية نسيج وحده: شهد له بذلك رسول الله ﷺ، وعرفها فيه أصحابه رضي الله عنهم:
قال ﷺ: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) وقال: (بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) قيل: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم!
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله) (ولو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم. ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم!)
وقد سئلت عنه عائشة فقالت: (كان والله أحوذياً نسيج وحده)
لم يكن فقه عمر من هذا النوع الذي أودعه الناس بطون الكتب. لم يكن من هذا النوع الذي تجلت فيه روح العصبية الحادة، ولوته الاتجاهات الطائفية، والنزعات المذهبية، لم يكن من النوع الذي جافى الحياة الواقعية في كثير من صوره ومسائله، ولا من النوع الغامض الذي التوت مسالكه، وتعقدت أساليبه، فصار بعيد المنال على من يريده أو يلتمس الانتفاع به من غير أهله. لم يكن من هذه الأنواع التي زعم الناس أنها فقه، بل التي اغتصبوا لها كلمة الفقه لتدل عليها، وإنما كان فقهاً ناصعاً واضحاً صافياً تستريح إليه النفوس، وتطمئن إليه القلوب، وتقضي به روح هذه الشريعة السمحة!
إن الفقه هو الفهم والفطنة والإدراك لما يريده الله تحقيقاً لمصالح عباده، وتنظيماً لشئونهم، وتيسيراً عليهم، وإسعاداً لهم برغد العيش وطيبات الحياة
هذا هو الفقه، هذا هو فقه عمر!
كان أساس الفقه عنده هو المصلحة، يقدرها قلب امتلأ بالإيمان والإخلاص، ويزنها عقل راجح منصف لا يميل به الهوى، ولا يفسده الغرض؛ ذلك بأنه رأى الكتاب الكريم يعلل الأحكام بالمصالح، ويربط بينهما وجوداً وعدماً، وبقاء وانتهاء، وأدرك ذلك في جميع تصرفات الرسول ﷺ وقد ظهرت أثار هذا الفقه من عمر في صنفين من الحوادث:
أحدهما: الحوادث التي كانت تنزل بالناس وليس فيها وحي يتبع، فيقول الناس فيها ويقول عمر، فينزل القرآن على نحو ما قال، فكأنما ألهم به إلهاماً، ولذلك يقول النبي ﷺ: (لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر)
وقد ذكر العلماء الوقائع التي وافق فيها الوحي رأي عمر، وأوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين، نذكر منها على سبيل المثال والتطبيق رأيه في أسرى بدر، ورأيه في الحجاب، ورأيه في الصلاة على من مات من المنافقين
فأما رأيه في أسرى بدر فإنه لما تم النصر للمسلمين في هذه الغزوة، ووقع كثير من المشركين أسرى في أيديهم، عرض النبي ﷺ أمرهم على أصحابه، فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار وعسى الله أن يهديهم للإسلام. وقال عمر: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فقال النبي ﷺ (إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة) ثم ضرب إبراهيم وعيسى مثلاً لأبي بكر، وضرب نوحاً وموسى مثلاً لعمر، وأخذ برأي أبي بكر فحكم بالفداء، فأنزل الله قوله: (ما كان لنبي أيكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)
قررت الآية رأي عمر، ونعت عليهم فكرة الفداء مبينة أن سنة الأنبياء الداعين إلى الله، المنشئين للأمم، ألا يأخذوا الأسرى طلباً للفداء إلا بعد أن يكونوا قد أثخنوا في الأرض، وظهرت لهم القوة والغلبة على أعدائهم، وتمكنوا من إبادة جراثيم الشر والعدوان التي من شأنها أن تقف دون نجاح الدعوة وتكوين الدولة. ولا ريب أن هذا هو الفقه الذي يرمي إليه عمر بقوله (إن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) وإنه لخير للمجاهدين قبل أن يتمكنوا من خصومهم أن تجرد نفوسهم من كل غرض مادي، وأن تملأ قلوبهم بالروح المعنوية التي تحملهم على بذل النفس والتضحية بها في سبيل الله ابتغاء لما عنده وإيثاواً لعقبي الدار
ولذلك نهى عن الفداء أولاً، ثم شرع أخيراً بعد أن استقرت دولة المسلمين، وقويت شوكتهم وأما رأيه في الحجاب فأنه يؤخذ من كثير من الروايات أن عمر كان شديد التطلع إلى أن يحتجب نساء النبي ﷺ تمييزاً لهن عن سائر النساء، وحفظاً لجلال الرسالة وتوفيراً للهدوء النفسي على النبي ﷺ، وإبعاداً لأسباب الأذى عنه، فكان يقول: (لو كنت أطاع فيكن لما رأتكن عين) ويقول (يا رسول الله: لو اتخذت حجاباً، فإن نساء لسن كسائر النساء)
فنزل القرآن في ذلك تقريراً لما أشار به عمر، وتأييداً لفقهه الذي بني عليه (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
(إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق) (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)
وأما الصلاة على من مات منافقاً، فقد روى كثير من المحدثين عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: (لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله ﷺ للصلاة عليه، فلما أراد الصلاة قلت: أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا، ورسول الله يبتسم، حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني إني قد خيرت، ثم صلى عليه ومشى حتى قام على قبره، قال عمر فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله ﷺ والله والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فقد وجهت الآية منع الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم بمثل ما وجه به عمر رأيه: قالت (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) وقال عمر (أتصلي على عدو الله القائل كذا وكذا؟)
والصنف الثاني من الحوادث التي تجلى فيها فقه عمر، هو الحوادث التي عرف فيها حكم، واتخذت صورة عملية بين المسلمين، وقد كان عمر يغلب في هذا الجانب أيضاً روح الشريعة وعدالتها وتقديرها للمصالح على الصور التي عرفها الناس من قبل، وكما حفظ له العلماء موافقاته حفظوا له كثيراً من هذه المسائل التي كان له فيها رأي غير ما كان معروفاً، واتخذ رأيه صورة عملية أقرها أصحاب رسول الله ﷺ ثقة منهم بفقهه وعدالته، وأنه لم يحد قيد شعرة عن الحق وحسبنا اليوم لضيق المجال أن نشير إلى رأيه في المؤلفة قلوبهم، وفي صلاة التروايح، وفي الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وفي توزيع العطاء، وفي الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة، وفي متعة الحج ومتعة النكاح، وفي حد شارب الخمر، وفي السرقة عام المجاعة، وفي قتل الجماعة بالواحد، ونحو ذلك من المسائل التي تدل على أن عمر كان فقيهاً بروحه وطبعه، وعلى أن فقهه كان مبنياً على إدراك المصالح التي انبنى عليها التشريع، وأرشد إليها القرآن الكريم، حيث يقول (والله يعلم المفسد من المصلح) (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) إلى غير ذلك من الآيات
أما بعد: فإذا كان هذا المبدأ قد عمل به عمر، ونزل به الكتاب، وأيده الرسول ورضى به الأصحاب، فجدير بالعلماء أن يجعلوه مبدأهم، وأن يبنوا عليه فقههم، فذلك أجدى عليهم وأدعى إلى أن يتقبله الناس عنهم، وأقوى أن يدفعوا به في صدور أعداء الفقه الإسلامي، وأجمع لكلمة المسلمين، وأنفى لهذا التفرق المذهبي الذي جعلنا شيعاً وأحزاباً ونزع هيبتنا من صدور أعدائنا. أسأل الله الكريم أن يهدينا إلى الصواب، ويبصرنا بالرشاد، ويجمع على الحق كلمتنا إنه سميع مجيب.
محمود شلتوت