مجلة الرسالة/العدد 550/عبقرية الإسلام
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 550 عبقرية الإسلام [[مؤلف:|]] |
الروحانية بين الأنبياء الثلاثة ← |
بتاريخ: 17 - 01 - 1944 |
عبقرية الإسلام عنوان وضعته لكتاب اشتغلت بإعداده منذ اشتغل العالم بهذه الحرب. وكان الذي وجه فكري إلى هذا الموضوع ما وقع فيه الناس كافة من هذا التفاني الذريع لأسباب لا يصعب حسمها على العقل الأصيل. وبداهة الرأي أن نرجع إلى ما شرع فاطر الأرض وواهب الحياة ومنزل الوحي، بعد أن عجز الذين طاولوه في ملكه من دهاقين الحكم واساطين العلم عن قسم رزقه بين أشتات خلقه. وما كان لبشر سليم الفطرة ليرتاب في أن الذي برأ الخلق على اختلاف في القدرة والحيلة، وأنشأ الغرائز على اتفاق في الطمع والغيلة، هو أعلم بما سينشأ في كونه من تصادم القوى وتعارض الأهواء؛ فلا جرم أن يكون شرعه دستوراً كاملاً تصلح عليه شؤون الفرد وأحول الجماعة من كل جنس وفي كل عصر وعلى كل أرض
ولقد كانت إدامتي النظر والفكر مدى هذه السنين الأربع في مصادر الإسلام الصافية مصداقاً لهذه الفكرة؛ فإن غير الله لا يملك أن يضع في الإسلام هذه الأسس والقواعد التي تضمن نظام العالم وسلامه. وهل كان - لولا وحي الله - في مقدور رجل أمي نشأ ربيب اليتم والعدم في قرية جاهلة من قرى الحجاز الجديب أن يعلن في أوائل القرن السابع حقوق الإنسان وحرياته، وهي التي أعلنت بعضها بالأمس فرنسا نتيجة لتلك الثورة، وتمنت بعضها اليوم أمريكا غاية لهذه الحرب؟!
عبقرية الإسلام هي ذلك الإشراق الإلهي الذي انبثق من غار حراء فكشف للرسول عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب فدعا دعوته الخالدة إلى تكريم الإنسان وتنظيم العمران وتعميم الخير وتحقيق السعادة، من طريق التوحيد، والمؤاخاة، والمساواة، والحرية، والسلام. فالتوحيد سبيل القوة، والمؤاخاة سبيل التعاون، والمساواة سبيل العدل، والحرية سبيل الكرامة، والسلام سبيل الرخاء. وتلك هي الغايات التي ترجو الإنسانية بلوغها عن طريق العلم والمدنية فلا تتكشف أماليها بعد طول السري وفرط اللغوب إلا عن سحاب خلب وسراب خادع
هذه المبادئ المثالية التي تضمنتها دعوة الإسلام معلومة من القرآن بالنصوص الصريحة، فلا موضع فيها لتأويل أو تحميل أرتعسف. فالتوحيد ركن من أركان الدين وعنوان من عناوينه وهو من الكلم الجوامع التي وعت جوهر الإصلاح وسر النجاح لكل مجتمع وأمة.
هو توحيد الله، وتوحيد العقيدة، وتوحيد الغاية، وتوحيد اللغة، وتوحيد الحكم، وتوحيد التشريع، وتوحيد الدين والدنيا. وشواهد التوحيد في أشتات معانيه مذكورة في كتاب الله لا يختلف في مدلولها أحد
وفكرة الوحدة الإنسانية هي مزية الدعوة المحمدية على كل دعوة. وفي سبيلها صدق الإسلام بكل دين أنزل، وبكل نبي أرسل، ودعا الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً إلى خطة واحدة وكلمة سواء. ثم وصل الدين بالدنيا، وكانت اليهودية والنصرانية تفصل بينهما؛ فالأولى كان همها الصفق والاجتراح، والأخرى كان سبيلها الرهبانية والتنسك. ولكن الإسلام جعل الدين للدنيا كالروح للجسد، فلا تعمل إلا بوحيه، ولا تسير إلا بهديه. ثم آخى بين المؤمنين ليجتمعوا على صدق المودة، ويتعاونوا على لأواء العيش، فلا يبغي قوي، ولا يبخل غني، ولا يظلم متسلط. بدأ ذلك بالتأليف بين الأوس والخزرج، والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين؛ ثم توثقت عرى الإخاء بين المجاهدين في سبيل الله حتى صار المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأصبح هؤلاء الإخوان القلال الضعاف في بضع سنين أئمة للناس وورثة لكسرى وقيصر!
كذلك في سبيل الوحدة الإنسانية والأخوة الإسلامية فرض الإسلام الزكاة، وشرع الحج، وأمر بالإحسان والبر، ثم سوى بين الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في الحقوق والواجبات، بمحو العصبية الوطنية، وقتل النعرة الجنسية، وجعل التقديم والتكريم للتقوى، فقال الرسول الكريم في خطبة الوداع: (إن ربكم واحد، وأن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)
في هذه الأصول الإسلامية كما ترى أفضل ما في الديمقراطية، وأعدل ما في الاشتراكية، وأجمل ما في المدنية، فهي حرية أن تصلح ما فسد من أمور الناس، وتقيم ما اعوج من نظام الدنيا. ولقد كانت كذلك يوم كان لحماتها دولة ولدعاتها صوت ولمعتقديها يقين. فلما دالت الدولة، وخشع الصوت، وأراب اليقين، تمزق المسلمون قطعاناً في فدافد الأرض لا مرعى يجود، ولا راع يذود، ولا حظيرة تؤوي. ثم كانوا بتخلفهم عن ركب الحياة حجة على الإسلام في رأي السفهاء من مرضى الهوى أو الجهل، فصموا عن دعائه، وعموا عن ضيائه. فليت شعري متى يتاح لدعوة محمد من يجدد حبلها، وينشر فضلها، ويقول لأولئك الذين يحاولون أن يرفعوا قواعد العالم على أساس جديد: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)
احمد حسن الزيات