الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 55/ليلة الزورق

مجلة الرسالة/العدد 55/ليلة الزورق

بتاريخ: 23 - 07 - 1934


لعبد العزيز أفندي عتيق

حينما ذَهَّب الأصيلُ مياه الني ... ل، واختال في الرياض جميلا

أبصرتني أطوف حول حِماها ... سادرَ الخطوِ، حائراً، مخبولا

هتفتْ بي: إليّ يا صاح أقبلْ ... أنا مَن قد بحثت عنها طويلا

ذاك وكرُ الهوى، ألستَ تراه ... مثلما كان شاعرياً ظليلا؟

ذاك روضي، فقرَّ عيناً ونفساً=يا حبيبي، واجلسْ إليَّ قليلا

واسقني بالجمال والسحر شعراً ... شفقياً يُميت مني الغليلا

كيف جانيتَ روضكَ الفينانا ... أتسلّيتَ؟ أم نسيت المكانا؟

كلما طفتُ بالمكان أثارتْ=وقفاتُ الوداع مّني الحنانا

وأرى القلب في غيابك أمسى ... يا حبيبي موزّعاً حيرانا

أيها الغائب الذي خالط القل ... ب هواه، تعال نحي هوانا

خُذْ ذراعي إلى ذراعك واصعدْ ... ربوةَ الأمس، واسقني الألحانا

رُبَّ ليلٍ سهرتُه أتقّلى ... فيه وحدي، وأشتكي الحرمانا!

ها هو النايُ حالماً بالأغاني ... فأعِدْها سحرّيةَ الأنغام

ها هو الناي يا حبيب فؤادي ... غنّ للحِب، للنفوس الظوامي

فاذا ما شُغلتُ عنكَ بنفسي ... وبما هاج من هوى وضرام

فدعِ النايَ جانباً، وأدِرهْا ... قُبُلاتٍ من ثغركَ البسّام

ودع الربوةَ السحيقة تخفي ... أثرينا عن أعين الأقوام

ولنعش ها هنا كما نتمنى ... للأغاني، للحب، للالهام

وانظر الشمس! هل شجتك اختلاجاً ... وهي تخطو إلى الفناء السريع؟

كم أضاءت وجددت من الحياة ... وتجلت في كل أفق وسيع

ثم همَّتْ فليس في الكون إلا ... نائحٌ في مواكب التشيع

يا حبيبي خلِّ الوقارَ وهيا ... نوقظ اللهو بعد طول هجوع

بالأغاني، وبالحديث، وبالشع ... ر، وبالسحر، والهوى والدموع فغداً تذهب الحياة بشمسْي ... نا وتمضي بنا لغير رجوع!

وانظر البدر في الفضاء سَبوحاً ... يغمر الكونَ وجهُه بالنور

أطَلق السحرَ في السماء وفي الأر ... ض، فبتنا في عالم مسحور!

لا نرى فيه غير ليلٍ وضئٍ ... يبعث الشوق والهوى في الصدور

يا حبيبي خذني إليك وأنعِشْ ... شفتينا بثغركَ المخمور. .

قرَّب البدر بيننا ورعانا ... فتمَّتعْ بساعة من سرور

ما غناء الساعات، تمضي خُواء ... من لقاء، أو رحلة، أو سمير؟

وارقب الزورق المقدسَ يبدو ... من بعيدٍ كالطائفِ الجّوالِ

كم عبرنا به الخَضمَّ وقد أغ ... فى وجُلْنا به كل مجال

نوقظُ الموجةَ الصغيرة بالهم ... سِ، فتبدِي تثاؤب الأطفال

وأغاني المجداف تُضِفي على اليمِّ (م) ... رداءً من رهبةٍ وجلال

يا حبيبي حان الوداع فهيا ... جئتَ نقضي حقَّ الليالي الخوالي

كم حبتنا بصفوها ورعتنا ... نضّر الله وجهَها من ليال

ورسا الزورق المقدسُ للشطْ ... طِ فيا للصفاءِ يخطو الينا

ودعانا الملاّحُ بالنغم العذْ ... ب، فأروى بصوته مهجتينا

أيهذا الملاحُ أيَّةَ ذكرى ... فوق هذا الخضمِ هجتَ لدينا؟

قرّب الزورقَ المقدس كالأم ... سِ، وهيئ لنا به مجلسْينا

وامض في اليمّ حيث تسعد بالصف ... و، ونُحيي في ظلّه أملينا

طال شوقي إلى المطاف بدنيا ... كم شجتنا وأطلقتْ خاطرينا!

قلتُ والبدرُ، والدراري ... حالماتٌ، والكون وسنان صاح

يا رجاَء القلبِ الجريح - ومازا ... ل - أمَا آن أن تداوي جراحي؟

بي ظِماءٌ إلى حديثكِ عذباً ... واشتياقٌ لوجهكِ الوضاح

قد سَهوْنا عن الحياة وبتنا ... في محيطٍ من الطلاقة ضاح

فابعثي النور في جوانب نفسي ... وارحميني من وحشة الأرواح

شدّ ما ضقتُ بانفرادي وسُهدي ... واغترابي، في غُدوتي ورواحي! أنا لولاكِ لم أعشْ في حياةٍ ... ثقلَتْ محملاً وساءت مَقرّا

ليس تصفو لنا، وهيهات تصفو ... للذي ازداد بالحقائق خِبْرا

أنتِ جَمَّلِتها لعيني ونفسي ... وفؤادي، فلست ألوكِ شكرا

فتعالَيْ نعِشْ هنا في حمى اليمّ (م) ... وننسى ما ساءنا، أو سرّا

نتناغى كالطير في كنَف الدو ... ح ونطوي الساعات أنساً وبشرا

ذاك لبُّ الحياة، بل ذاك أندى ... ما حوته الحياة برّا وبحرا

وصحا الشوقُ عارماً فإذا هِي ... في جنونٍ ورعشةٍ قبلتني

ثم ألقتْ برأسها فوق صدري ... كالذي نام من مَلاٍل وأيْنِ

وسرى الريح ليناً فاطمأنت ... واستراحتْ في جانبي المطمئن

وشجاها الهوِى فألقت بأذني: ... يا حبيبي طاب المكان فغَنِ

غنّ لى غنوةَالربيع على اليمّ (م) =ورَوِّ الفؤاد من كل لحنِ

فاختضنتُ العود الحبيب إلى النف ... س، وأيقظته ورحت أُغني:

حينما يشرق الربيعْ ... في سماء الحدائق

ونرى حسنَه البديع ... في وجوه الشقائق

سوف ألقاكِ ها هنا ... فوق ذا الزورق السبوحْ

حيث تصفو لنا المنى ... ويَقرُّ الهوى الجموحْ

يا مُحياً عبدْته ... مثلما يُعبدُ الآلهْ

وجمالاً عشِقتُه ... عِشق من لا يَرى سواه

كم تمنيت لو نكونْ ... في حمى اليمّ مفردْين

في وقاءٍ عن العيونْ ... حيث نحيا كطائرين!

قدَّر الله يا حبيبْ ... للغريبين بالتلاقْ

فمتى تسعدُ القلوب ... بلقاءٍ بلا افتراق؟!

ورسا الزورق المقدس للشطْ ... طِ، فصاح الملاح: هيا، فقمنا

ومشينا على بساط من العُش ... ب نديٍ، يهتز في حيث سرْنا

ووقفنا في كل مجلس حُبٍ ... وادَّكرْنا من سحره ما ادكرنا ثم ودَّعتها وعدْتُ وأحلا_مي إلى عالمي الشقيِّ مُعنّى

ثم ودَّعتها وعدْتُ وأحلا ... مي إلى عالمي الشقيّ مُعّنى

أسأل القلب: كيف يا قلب مرَّت ... ليلةُ الزورق الحبيب، وأينا؟

وأراني مُردّداً في حنين: ... ليت أنا نعيدها! ليت أنا!!

ميت غمر

عبد العزيز عتيق