مجلة الرسالة/العدد 549/خلاف يستحق الاختلاف
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 549 خلاف يستحق الاختلاف [[مؤلف:|]] |
أغنية الرياح الأربع ← |
بتاريخ: 10 - 01 - 1944 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
ذلك هو الخلاف الذي أشار إليه الفاضلان: الأستاذ عبد المتعال الصعيدي، والأستاذ حسن الأمين حاكم النبطية في العدد الأخير من (الرسالة): أولهما فيما يرجع إلى كتابي عن (الصديقة بنت الصديق)، والثاني فيما يرجع إلى كتابي (عبقرية الإمام)
فالعالم الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي يقول: إنني حكمت العقل قبل النقل في مسائل التاريخ إلا في موضعين: أولهما ما ذكرته من قول عائشة للنبي ﷺ، وقد حمل إليها ابنه إبراهيم لترى ما بينهما من عظيم الشبه، فأنطقتها الغيرة بما أشرت إليه، ومقام السيدة عائشة ينبو عن تكذيب النبي ﷺ في شيء من الأشياء
وثانيهما ما ذكرته من قول النبي ﷺ لعائشة في حديث الإفك: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. ومثل هذا - كما يرى الأستاذ الصعيدي - لا يصح أن يقوله النبي ﷺ، لأنه كان يعرض لمن أقر بالزنا عنده أن يرجع عن إقراره فكيف يخالف ذلك مع عائشة؟. . . إلى آخر ما ورد في كلمة الأستاذ
ورأيي كما قال الأستاذ أن العقل مقدم على النقل، ولكن النقل لا يبطل إلا بالبرهان أو باستحالة القبول
وليس فيما لاحظه الأستاذ الصعيدي موضع لبرهان، ولا لاستحالة عقلية تقوم مقام البرهان
فالصحيح أن السيدة عائشة لا تكذب النبي عليه السلام في شيء من الأشياء، ولكن الذي حدث في أمر إبراهيم ليس فيه من تكذيب ينبو عنه مقام السيدة عائشة
رأى النبي عليه السلام شبهاً بينه وبين ولده إبراهيم وسأل السيدة عائشة في ذلك فقالت: إنها لا ترى شبهاً
فالتكذيب هنا إنما يكون إذا قالت: (إنك يا رسول الله لا ترى شبهاً بينك وبين إبراهيم)
أما أن تقول عن نفسها إنها ترى الشبه - وهي لا تراه - فذلك هو الكذب الذي ينبو عنه مقامه ومن السهل جداً أن تفشي الغيرة عين المرأة المحبة فلا ترى في ابن ضرتها المحاسن التي تحبب تلك الضرة إلى رجلها العزيز عليها، فإذا غاب هذا الشبه عن عين عائشة فلا غرابة في الأمر ولا مخالفة فيه للطبائع الإنسانية والطبائع النسوية على التخصيص، وإذا قالت إنها لا ترى الشبه - وهي لم تره فعلاً - فقد صدقت في مقالها ونطق لسانها بما تادى إلى نظرها ولم تزد عليه
وقد ورد في الخبر أن السيدة عائشة كانت تغاضب النبي وتقول له (اقصد) في مقالك أمام أبيها، فيلطمها أبوها عقاباً لها. وليس كلام المغضبة أو الغيور بالكلام الذي يصدر عن تكذيب أو بغضاء.
أما أن النبي عليه السلام لا يصح أن يقول للسيدة عائشة: إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه)
فهذا ما نخالف الأستاذ فيه كل المخالفة
إذ هذا المقال هو الذي يصح أن يقوله النبي عليه السلام في هذا المقام. وماذا فيه إلا أنه عليه السلام يدعو من ألم بذنب إلى الاستغفار؟ وأي عجب في ذلك وقد صحت فيه آيات من القرآن فضلاً عن الأحاديث النبوية؟
ويلاحظ أن النبي عليه السلام قال للسيدة عائشة: (إن كنت ألممت ولم يقل لها إن كنت اقترفت ذنباً) ولا يخفى أن الإلمام يناسب اللمم الذي هو دون كبائر الإثم والفواحش، وفيه يقول القرآن الكريم: (ولله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين حسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة)
وفي كلام النبي موافقة لهذه الآيات. وفي القرآن الكريم أن نبياً هم بأمر وعدل عنه. والهم والإلمام قريبان: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)
فدعوة النبي للسيدة عائشة أن تستغفر عن لمم ليست بالدعوة التي ينكرها العقل ويجزم باستحالتها، وليس فيها ما يناقض الآيات ولا الأحاديث. ومقطع القول بعد هذا كله في حديث الإفك أنه كما قلنا في كتاب الصديقة بنت الصديق (سخف لا يقبله إلا من يفتري بوشاية أو بغير وشاية، وسواء فيه منافقو المدينة ومن يصنع صنيعهم من المؤرخين في العصر الحاضر لأنهم لا يؤمنون بنبي الإسلام. بل هؤلاء أنذل وأغفل لأنهم يؤمنون بمريم والمسيح وكان عليهم أن يعصمهم عاصم من هذا الإيمان)
أما الأستاذ حسن الأمين حاكم النبطية فقد عقب على قولنا في عبقرية الإمام أن أنصاره من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة وبين بني هاشم على الأخص وبين قبائل العرب جميعاً على التعميم)
فأحصى في تعقيبه أسماء القبائل العربية التي كان منها أناس في جيش الإمام، ثم قال: (بقى أن يكون ما عناه المؤلف اتباع الإمام بعد وفاته وانقضاء زمانه، والإمام وغيره سواء في هذا الشأن، فإذا كان في اتباعه الفرس وغير الفرس ففي اتباع غيره الترك وغير الترك مثلاً، وإذا شايعه غير العرب فقد شايعته كثرة من لباب العرب)
والقول الأخير هو الذي نخالف فيه الأستاذ الفاضل، مع شكرنا إياه على جميل تحيته وكريم ثنائه
فالمقصود بالأنصار هم شيعة الإمام الذين يشايعونه خاصة ولا يشايعون غيره
إذ العرب الترك والأمم الأخرى التي شايعت كل خليفة في زمانه ليسوا بأشياع ذلك الخليفة على التخصيص، ولكنهم أشياع الدولة ومن يقوم عليها من الخلفاء واحداً بعد واحد، وليسوا مع ذلك بأعداء لعلي كعداوة بعض الشيعة لمن ينازعهم الرأي في حق الإمام وتقديمه على جميع الحقوق
ومتى كان هذا هو شرط الأنصار الذين يختص بهم الإمام ولا يختص بهم غيره فلا جدال في كثرتهم بين العرب والشعوب الأخرى، ورجحانهم على شيعة الإمام من العرب ولا سيما أقرب الناس إليه من بني هاشم ومن قريش
وهذا موضع العبرة في تلك الملاحظة:
موضعها أن الإمام قد ظفر بهؤلاء الأنصار ممن لا يشايعونه عصبيته، لأنه قام بالأمر على الخلافة الدينية، ولم يقم به على العصبية الجنسية أو النزعة الوطنية
وهذه هي الخصلة التي ينفرد بها الإمام بين الخلفاء من قديم وحديث، فليس في الأئمة جميعاً من كان الانتصار له مذهباً في الدين، وكان الدائنون بهذا المذهب أرجح عدداً من الدائنين به في الشعوب العربية على اختلاف الأقطار، فيما خلا الإمام وليس بين الأئمة جميعاً من له نصراء في الشعوب الأخرى يساوون نصراء علي بين المسلمين من غير العرب، سواء في الزمن القديم أو الزمن الحديث
وهذا الذي عنيناه، وهو جدير بالتقدير والتعليل
وربما استتبع الكلام في هذه الكتب أن نشير إلى الذين ذكروها فقالوا عنها إنها لم تأت في التاريخ الإسلامي بجديد
فإن كان الذي يعنونه بهذا القول أن موضوع الكتب ليس بجديد، وأننا لم نخلق حوادث العصر النبوي ولا حوادث عصر الخلفاء، فنحن معهم فيما يقولون
ولكن على هذا الاعتبار لا يوجد في الدنيا ولن يوجد فيها أبداً كتاب جديد أو رأي جديد أو علم جديد
فالكيمياء الحديثة ليست بالجديدة، لأن الأجسام التي هي موضوع الكيمياء اليوم وموضوعها بالأمس لم تخلق في هذا العصر، ولم تزل على وصفها الذي رآه الأقدمون
والجغرافية الحديثة كذلك ليست بالجديدة، لأن القارات والبحار والأنهار والكواكب والرياح والأمطار ليست من صفة الجغرافيين المتأخرين، وليس أحد منهم بأقدر على خلقها من الجغرافيين السابقين
وقل مثل ذلك في علم الفلك وعلم الطبيعة وعلم الطب وعلم القانون وسائر العلوم والفنون
أما إن كان الذي يعنونه بقولهم إننا كررنا في كتبنا ما تقدم في كلام المؤرخين قبلنا فدون ذلك وتقصر الألسنة، ودون ذلك ويفتح الله ثم يفتح الله. . . إنهم يقولون إذا أراحهم القول، ولكن لن يريحهم يوماً أنهم مسموعون أو مصدقون!
عباس محمود العقاد