الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 547/الأدب العربي واللغة العربية

مجلة الرسالة/العدد 547/الأدب العربي واللغة العربية

مجلة الرسالة - العدد 547
الأدب العربي واللغة العربية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 12 - 1943


في كتاب (زهرة العمر)

للأستاذ دريني خشبة

غرق الأستاذ توفيق الحكيم في الأدب العربي - على حد تعبيره - بعد عودته من فرنسا ليدرس قضيته من أساسها، محاولاً أن يعيد النظر في أمر اللغة العربية، وأن يكشف أسرارها ويضع إصبعه على مواطن ضعفها وقوتها. . . وهو قد شرع يفعل هذا بعد أن أخذ من مختلف الآداب العالمية بنصيب، فهو يقرأ نصوص الأدب العربي في عصوره المتعاقبة بعين جديدة، عين عامرة بالصور، حافلة بالمقارنات، وبنفس رحيمة عادلة. . .

هذه لمحة من المقدمة التي مهد بها الأستاذ الحكيم لفصله أو لفصوله، التي كتبها عن اللغة العربية، وتعليم اللغة العربية، ومعلمي اللغة العربية، وأساليب الكتابة العربية، وعن ماهية الشعر، ثم عن الأدب العربي، ونقص تكوينه من حيث هو خلق فني، وعن العلاقة بين الفنون الكبرى والآداب الكبرى، وعدم محاولة الأدب العربي أن يزيد في نثره بالرغم من ازدهار الفنون الإسلامية، وما ابتلعته المدنية الإسلامية في جوفها من المدنيات الكثيرة، وعناية الأدب العربي الإنشائي باللفظ أكثر مما يجب، وأنه لم يشأ أن ينزل عن تكلفه الذي يعتبره فصاحة وبلاغة. . . وما حدث من جراء ذلك من: (أن روح الشعب قد تعطش للون جديد من الأدب غير لون البداوة الأولى. لون من الأدب مستمد من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة. . . أدب جديد قائم على فن مشابه ومسايرة للفنون الزاهرة المعاصرة، التي يراها بعينه ويهيم في مراميها بخياله. . . فلما لم يشأ أدباء الفصحى أن يمدوا الناس بحاجتهم، لجأ الناس إلى أدباء من بينهم لا يملكون أداة اللغة ولا جمال الشكل، ولكن يملكون السليقة الفنية وروح الخلق. . . وهنا ظهر الأدب الشعبي. . . فما ظهور الأدب الشعبي أحياناً إلا علامة قصور أو تقصير من الأدب الرسمي، أو صرخة احتجاج على جمود الفصحاء. . . هكذا ظهر القصص الشعبي في صورة عنترة ومجنون ليلى وكثير عزة. . . وسارت الحضارة الإسلامية، فسار معها الأدب الخيالي الاجتماعي الشعبي، فإذا نحن أمام عمل فني رائع هو (ألف ليلة وليلة)، ثم نبت في كل شعب من شعوب الإسلام قصصه الذي يطبعه بطابع عصره. فكان في مصر قصة أبى زيد الهلالي، وسيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس. . . ومن الغريب أنك إذا تأملت (التصميم) الفني والبناء الروائي لهذا الأدب الشعبي وجدته من حيث الفن لا اللغة هو السائر في الطريق الصحيح. . . فلقد كان من المستغرب حقاً للباحث أن يرى حضارة إسلامية عظيمة ذات فنون زاهرة وعلوم راقية، ولا يجد في أدبها أثراً إنشائياً مثل (الشاهنامه) أو (الرمايانه) أو (الإلياذة) أو (كليلة ودمنة) حتى كادت تتهم العقلية الإسلامية بعقمها. ولكن الأدب الشعبي الإسلامي صحح الوضع أمام التاريخ العلمي. . .)

وبعد، فما أريد أن ألفق مقالاً من كلمات الأستاذ الحكيم، وإن كنت أتمنى أن يكون كل متأدب في مصر، بل كل أديب في الشرق العربي، قد قرأ هذه الفصول القيمة التي دبجها قلم فنان، أديب فنان لا يرى حرجاً في أن يقول إنه أخذ من مختلف الآداب العالمية بنصيب، ثم غرق في الأدب العربي فوجده أدباً فقيراً شاحباً؛ أدباً يعني بالزخرف اللفظي، ولا يمتاز بأثر خالد مما امتازت به اليونانية أو اللاتينية أو الفارسية، أو لغات أوربا الحية من آثارها الأدبية الخوالد. . . أدباً غير مستمد من روح الشعب المتعطش إلى ألوان جديدة غير ألوان البداوة الأولى. . . ألوان مستمدة من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة

هذا كلام نوافق الحكيم عليه، لأننا رددناه، ولسوف نردده، ولن نسأم من ترديده، حتى نحيله رجاء إلى أدبائنا بل توسلاً، إن كان لا بد من الرجاء أو التوسل لكي يخلقوا لنا أدباً جديداً صادراً عن روح الشعب المتعطش إلى ألوان جديدة مستمدة من إحساسه بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة

نحن نوافق على هذا كله لأنه أمنية كل رجل يحب الخير للأدب العربي، وكل رجل شدا شيئاً - ولو قليلاً - من الآداب الأوربية، واستطاع أن يقارن بينها وبين هذا الأدب العربي الذي لم يعد يصلح بحالته التي هو عليها لشفاء روح العصر الجديد ومجاوبة الحياة الجديدة التي تغمر العلم بأسره. على أننا مع ذاك نريد أن نناقش بعض ما جاء من الآراء في زهرة العمر عن أساليب الكتابة العربية، وعن الفنون الكبرى والآداب الكبرى، وعدم محاولة الأدب العربي أن يزيد في نثره بالرغم من ازدهار الفنون الإسلامية، وعن تاريخ القصص العربي. . . ثم هذه السخرية التي صبها الأستاذ الحكيم على رؤوس معلمي اللغة العربية أولئك المعلمون الذين نظلمهم بتوجيه نقدنا إليهم وهم لا جريرة عليهم ولا ذنب لهم، فهم يعلمون كما أعدوا لهذه الطريقة من التعليم، وقد صبوا في قوالب من صنع الدولة لم يصنعوها بأنفسهم بل صنعت لهم ثم خرجوا على غرارها، وقد أصبح معلم اللغة العربية كالقاطرة التي لا تستغني عن شريط السكة الحديدية، وهي تجر ورائها جميع العربات - أبناءنا التلاميذ - على الشريط نفسه والى المحطة نفسها، والويل للمعلم الذي تحدثه نفسه بالخروج عن هذا الشريط! الويل للمعلم الذي يخالف عن سنة المنهج. . . تلك الشريعة المنزلة التي ترتبط بحسن تنفيذها التقريرات والعلاوات والدرجات. . . والفصل من الوظيفة والبقاء فيها أحياناً. . . الويل للمعلم الذي لا يجيد أن يعلم تلاميذه أن (نون) العاقلون هي نيابة عن التنوين في الاسم المفرد! وما إلى ذلك من اللغو الذي تركنا المدارس ونحن لا نحسن أن نفهمه، بله أن نعلله. . . لا نحن ولا معلمونا المساكين. . . ماذا يصنع المعلم يا أخانا الجليل مؤلف كتاب زهرة العمر بعد أن صبته وزارة المعارف في هذا القالب الشاذ؟ هل قرأت ما كتبه عنه صديقك طه حسين وشريكك في القصر المسحور؟ لقد كتب طه حسين فصولاً قيمة في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عن تعليم اللغة العربية ومعلم اللغة العربية والمعاهد التي تعد هذا المعلم في مصر. . . ذلك المعلم الذي تقول عنه إنه كان، سواء في المدارس الابتدائية أو المدارس الثانوية يجهل، لا معنى اللغة العربية وحدها، بل معنى اللغة على الإطلاق! ترى من كان معلمك في المدارس الابتدائية، ومن كان معلمك في المدارس الثانوية ليسمعا إلى هذا الكلام الجريء الذي ترسل به لسانك فيهما الآن بعد أن أصبحت كاتباً نابهاً من كتاب العربية؟ أكبر الظن أنهما كانا يفهمان معنى اللغة العربية، بل معنى اللغات جميعاً إنما أسطورة القاطرة العربات وشريط السكة الحديدية هي التي أظهرتهما في نظرك على هذا النحو من الجهل. . . بل من العمى. . . أسطورة المنهج، وشريعة وزارة المعارف المنزلة التي لا يحيد عنها إلا كل مجازف. . . وأرجو أن أتحدث إليك حين نلتقي كيف كان صديقك الزيات يجعل من مادة اللغة العربية التي كان يعلمنا إياها أحب مواد التعليم إلى نفوسنا. على أن أستاذاً جليلاً قد نشر في هذه المجلة فصولاً عظيمة عن تعليم اللغة العربية فأرجو أن تراجعها إن لم تكن قد فعلت

أما أساليب الكتابة العربية وعناية معظم الكتاب المنشئين باللفظ دون المعنى، فهذا لم يحدث إلا في عصور انحطاط اللغة العربية. على أن الكتاب الذين عنوا باللفظ أكثر مما عنوا بما ورائه قد خدموا اللغة خدمة جليلة بانتخالهم الألفاظ انتخالاً، وبتجويدهم استعمالها على النحو الذي قربها إلى أفهامنا وجعلها ذخيرة لنا نرجع إليها كل ما أعوزتنا الكلمات أو التعابير، فكان عمل كتاب المقامات والرسائل مثل عمل أصحاب المعجمات والقواميس من حيث تنظيم تلك الثورة اللفظية الهائلة تنظيماً قصصياً أو تنظيماً استعمالياً أفدنا منه في استحداث تعبيرات جديدة لا حصر لها. . . وأنا ألاحظ أن انصراف الأستاذ الحكيم إلى دراسة الأدب العربي وإكبابه على قراءة نصوصه كما ذكر قد أفاده فائدة كبيرة، فقد جود أسلوبه وصقل لغته وأسلس له عنان البيان العربي، آية ذلك هذا الفرق الكبير بين أسلوبه القديم في أهل الكهف وشهرزاد وعودة الروح وبين أسلوبه الحديث في بجماليون وسليمان الحكيم وزهرة العمر. . . على أنني لا أرى أن العناية بالأسلوب وصقله وتجويده تكون سبباً في الانصراف عن تجويد الموضوع والسمو بأهدافه ما دامت للكاتب القدرة على أن يجود عبارته عفواً وطبيعة من غير تعمل ولا إعانات. وقد استحدث جون للي أسلوب (اليوفوزم) في الكتابة الإنجليزية فبهر ألباب القراء الإنجليز بعنايته بتجويد عباراته مما كان له صدى كبير في أساليب الكثيرين من الكتاب الإنجليز وفي روائع شتى من النثر الإنجليزي نفسه

ولست أقصد أن أدافع عن أسلوب الحريري أو البديع أو عبد الحميد أو أبي العلا الكتابي، بل لا أطيق أن أرى الناس يكتبون بأسلوب الجاحظ الذي أعجب به الأستاذ الحكيم وأثنى عليه ووضعه في رأس الثائرين من كتاب العربية على أوضاع الكتابة المتعارفة. وصديقي الأستاذ الدكتور زكي مبارك هو المسئول الأول عن رأي الأستاذ الحكيم في أسلوب الجاحظ العظيم، فلو أنه أهدى نسخة من كتابه الخالد (النثر الفني) إلى الأستاذ الحكيم لما رأى في الجاحظ هذا الرأي. ويحسن أن أثبت هنا رأي الدكتور زكي، وإن كنت ألح على الأستاذ الحكيم أن يراجع (النثر الفني) كله، وإن لم يكن قد فعل إلى الآن:

(وقد شاع هذا الأسلوب في القرن الثاني والثالث (أسلوب الإطناب وبسط المعاني وتأكيدها بتكرير الجمل المتقاربة في مغزاها ومدلولها لدرجة الأثقال) واتخذه الجاحظ خاصة اسلوباً مختاراً له لا يحيد عنه. . . وفي رأيي أن الجاحظ وصل إلى درجة من الغلو والإملال، ولولا أنه كان يخلط في كتابته بين الهزل والجد والحلو والمر لانصرف الناس عنه) إنما أريد أن أذكر أن النثر العربي، وخصوصاً النثر القصصي وهو الذي يهمنا هنا، كان نثراً زاهياً مزدهراً، وذلك منذ صدر الإسلام، وكان الفضل في إيجاد للقرآن أولاً، ثم للأحاديث الطوال ثانياً، ثم للقصاص (الذين كانوا يجلسون إلى الناس في المساجد، يفصلون ما في كتاب الله من قصص الأنبياء، ويسرفون في تهويل هذه الأنباء، ابتغاء للعبرة والتماساً للموعظة. ولما ازداد إقبال الناس على هذا الضرب من القصص، وكثر إفك القصاص فيه، طردهم أمير المؤمنين علي من المساجد ما خلا الحسن البصري). . . وقد كان أشهر القصاص الذين فرغوا لتفصيل قصص القرآن تميم الداري ووهب ابن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام وغيرهم. . . وبغض النظر عن قيمة قصصهم من حيث التحقيق العلمي، فقد كانت أساليبهم شائقة، وعباراتهم سليمة لا تعمل فيها ولا التواء. وفي كتاب (أصول الأدب) أن معاوية عرف للقصص قيمته في الدعاوة السياسية فولى عليه رجلاً كان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله ورسوله، ثم دعا للخليفة وحزبه، ودعا على أهل خصومته وحربه، وكان هو (أي معاوية) إذا انفتل من صلاة الفجر جلس إلى القاص حتى يفرغ من قصصه، وكان ولاته وقواده يقدمون القصاص في بعض حروبهم ليقصوا على المقاتلة أخبار الشهداء وما وعدوا به من حسن الجزاء، فعل ذلك الحجاج في العراق، وجاراه فيه من حاربهم من زعماء الفرق

وفيه أيضاً (أن أول من تولى القصص الرسمي في مصر سليمان بن عنتر التجيبي سنة 38هـ تولاه مع القضاء، ثم تعاقبت القصاص من بعده في مصر.) وقد اشتد الإقبال على القصص في عهد الفاطميين)، فقد كان يعقوب بن كلس وزير المعز يعتمد على المناظرات في فقه الشيعة، وعلى القصص في جذب القلوب لأهل البيت، وكان مقتل الإمام (علي) ومأساة الإمام (الحسين) موضوع المنابر والسوامر في شهر رمضان والمحرم. . .)

وقد صدق الأستاذ الحكيم في استنتاجه من حيث نشأة الأدب الشعبي في مصر، إذ (حدثت ريبة في قصر العزيز فتناقلتها الأفواه، ورددتها الأندية، فطلب إلى شيخ القصاص يومئذ يوسف بن إسماعيل أن يلهي الناس عنها بما هو أروع منها، فوضع قصة عنترة ونشرها تباعاً في اثنين وسبعين جزءاً)

أما في العراق، في القرن الرابع الهجري أيضاً؛ فقد جمع فن القصص بين روعة الأسلوب وجمال الفن. . .) فما جمعه ووضعه الجهشياري وابن دلان وابن العطار من الأقاصيص في الحب الطروب والترف المسرف، وما وضعه من قبل هؤلاء سهل بن هرون وعلي بن داود وأبان بن عبد الحميد من الأسمار. . . وما صنعه من قبل هؤلاء عيسى بن دأب وهشام الكلبي والهيثم ابن عدي من الأخبار في الهوى العذري والسخاء العربي في الإسلام والجاهلية)

وهكذا نرى أن هذا اللون من ألوان الأدب الرسمي، أو أدب العربية الفصحى قد ساير نهضة الفنون الكبرى في العراق، كما سايرها في مصر إلى أيام الفاطميين. وإن كنا نعترف أنها مسايرة ليست من نوع ما حدث في اليونان أو الرومان أو أوربا، وموضع الأسف هنا هو انقطاع القصصيين: العربي الفصيح في العراق، والشعبي الراقي في مصر، بعد غزوة التتار والحروب الصليبية، ونشوء صنف من القصص الوضيع في مصر في عصر المماليك هو اضعف ما نجد من القصص التي تغازل الشهوات في كتاب ألف ليلة وليلة

أما رأي الأستاذ الحكيم في الشعر شكلاً وموضوعاً، فهو رأينا الذي جاهرنا به، والذي لا نزال نجاهر به وندعو شعراءنا إليه. . . (فما من فن عظيم بغير شعر، أي بغير تلك المادة السحرية التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني ما لا يدركون بحواسهم وملكاتهم. . .)

وأما التمثيل والروايات التمثيلية، وانعدام ذلك كله في الأدب العربي، فماذا أقول فيه؟! وعلى كل فما بح صوتي بعد، ولن أتعب أبداً من مناشدة الأستاذ الحكيم أن يؤلف للمسرح المصري، لأنه كاتب الحوار الأول في مصر، بل في الشرق العربي كله

وبعد. . . فها هو توفيق الحكيم يفرغ لما خلقه الله له. فماذا هو صانع؟ وهاهو ذا يكتب في زهرة العمر آراء، فهل دري أنها تصلح أن تكون برنامجاً مفصلاً لحركة إنهاض واسعة النطاق؟

متى يضيء المصباح في شاطئنا ويشع كما يضيء في الشاطئ الآخر ويشع؟

متى يكون لنا أدب مصري وفن مصري ومسرح مصري وشعر مصري وشخصية مصرية؟

متى يعود توفيق الحكيم من فرنسا إلى مصر فلا يقول إني عدت إلى الصحراء؟! إن في عنق توفيق الحكيم ديناً للوطن فليؤده كاملاً. . . وإني أختم كلماتي فيه بما قلته عنه من قبل من أنه أحد بناة مصر الحديثة فليرهف قلمه وليتوكل على الله. . .

دريني خشبة