الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 546/من سير الرجال

مجلة الرسالة/العدد 546/من سير الرجال

بتاريخ: 20 - 12 - 1943


حسن حسني الطويراني

الصحافي الكاتب الشاعر

1850 - 1897 ميلادية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

سأل الأديب على الشوكاني من بغداد في العدد (544) من الرسالة عن الصحافي الشاعر حسن حسني الطويراني، ورجا من قراء الرسالة أن يتفضل أحدهم بأن يروي قصة هذا الشاعر المغمور (في نظر السائل المحترم)

وعجيب جداً أن ينسى أديب عربي مشهور، وصحافي ذائع الصيت، وشاعر قوي العبارة، ولما يمض على وفاته نصف قرن كامل؛ فكيف إذا خب المطى به عشرات القرون؟

ولعل للسائل عذراً في ذلك، فنحن هنا - أعني في الشرق - ننسى ونمعن في النسيان حتى يفتح الله علينا برجل عربي مستشرق ينبهنا ويوقظنا من غفلاتنا الطوال، ويأخذ بأيدينا - أو بيده هو - على مواضع من تاريخنا وسير رجالنا. . . والأمثلة على ذلك كثيرة

على أن للسائل الفاضل فضلاً في سؤاله؛ فقد أتاح لي فرصة للتعريف برجل كاد النسيان يطوي مساحبه على ذكره، لولا أشتات جمعتها من هناك ومن هنا، وتعبت فيها راجعاً أكثر من كتاب ما بين (تاريخ الصحافة العربية) للكونت فيلب طرازي (والأعلام) للزركلي، (وتاريخ آداب اللغة العربية) لجورجي زيدان (وديوان ولي الدين يكن)، (وفارس الشدياق) للشيخ بولس مسعد (ديوان العقد) للشيخ إبراهيم اليازجي وغيرها

والمترجم له مصري بمولده تركي بأصله؛ ويرجع إلى أسرة تركية كريمة تنتهي إلى علي باشا الكبير أحد أمراء الأتراك في مقدونية. ولقد شهدت القاهرة مولده سنة 1850، كما شهدت القسطنطينية وفاته سنة 1897 فعاش في هذه الدنيا سبعة وأربعين عاماً ملأها بالبحث والتحصيل في أول حياته، والتأليف والتصنيف في بقية عمره، وهو فيما بين ذلك يتنقل من أرض إلى أرض وتسلمه بلد إلى بلد؛ لا تثنيه مشقة في سفر، ولا يصده عناء في رحلة. فطاف في كثير من بلاد آسيا وأفريقية وأوربا الشرقية، ويعبر هو نفسه عن تطوافه بقوله:

شرَّق النسر وغرَّبْ ... وتتركْ وتعرَّبْ

فتحرى وتدرب ... وتناءى وتقرب

ولئن أطري وأطرب ... فهو نصاح مجرب

وهو إن أعرب أغرب ... وهو إن أعجم أعرب

وهو في ذلك يذكرنا بالأعشى في قوله:

وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوريشلم

أتيت النجاشي في أرضه ... وزرت النبيط وأرض العجم

وفي سن الثلاثين كانت قد انعقدت له شهرة لا بأس بها في الشعر والأدب والكتابة، فأقام في القسطنطينية وأخذ يحرر في صحفها المشهورة ما بين عربية وتركية؛ فلقد كان بارعاً في اللغتين متفوقاً فيهما حافظاً للكثير من روائع أدبهما

وكان في الرجل نزعة دينية قوية فأنشأ في العاصمة التركية مجلة (الإنسان) سنة 1884، وكانت تصدر في كل شهر مرتين في أربع وعشرين صفحة لخدمة الإسلام أولاً، ولخدمة العلوم والفنون والزراعة والصناعة ثانياً؛ ولكن الحوادث دعتها إلى الاحتجاب بعد أن ظهر منها 19 عدداً؛ ولكنها عادت بعد سنة تقريباً إلى الظهور في شكل جريدة أسبوعية، وظلت إلى سنة 1890، حينما عطلها صاحبها بنفسه مختاراً ليعود إلى مصر مستأنفاً جهاده في سبيل الصحافة العربية

ومن الصحف التي حررها المترجم له في القسطنطينية جريدة (الاعتدال)، وخاصة في أول إنشائها، وجريدة (السلام). والأولى كان يملكها أحمد قدري المترجم العربي للسلطان عبد الحميد؛ والثانية كانت للحاج صالح الصائغي، وهما عربيتان. أما الجرائد التركية التي اشترك في تحريرها، فأهمها (ارتقا) و (زمان)

وكان للمترجم له نشاط عجيب في إصدار الصحف وتحريرها كما كان نشاطه في التأليف أعجب، وما ظنك برجل صحافي يشتغل بالسياسة والتحرير ومشكلات عصره، ويطالع قراءه كل يوم أو كل أسبوع أو أسبوعين بمقال في الصحيفة التي يعمل فيها أو يملكها؛ ثم يجد من الوقت ما يتسع لتأليف ستين كتاباً في اللغة العربية وعشرة في اللغة التركية؟ وبعض هذه الستين مطبوع وبعضها مخطوط، وبعضها في مجلد واحد وبعضها في ستة مجلدات، مثل كتابه (صولة القلم في دولة الحكم)

ومناحي الرجل في التأليف تظهر عليها الروح الإسلامية القوية، فقد كان مستقيم العقيدة متين الدين، وكان فيه حكمة مضيئة ونظرة إصلاحية صحيحة. أليس من كتبه (النصيح العام، في لوازم عالم الإسلام)؛ ثم ألا يذكرنا هذا الكتاب بكتاب الأمير شكيب أرسلان (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم)؟. وله فوق ذلك كتاب (الصدع والالتئام، في أسباب انحطاط وارتقاء الإسلام)، وكتاب (الإخاء العام، بين شعوب أهل الإسلام). ولكن هذه الأخوة التي سعى إليها صاحبنا كانت في ظل الحكم التركي حتى على قساوته وظلامه. فقد كان داعية له في كل ما يكتب مدافعاً عنه في كل مناسبة

فلما قام الشيخ إبراهيم اليازجي اللغوي المشهور في الثورة العربية المصرية داعياً إلى تنقص الترك والإشادة بذكر العرب في قصيدته السينية المشهورة قام حسن حسني الطويراني يرد عليه بقصيدة من البحر والقافية يقول فيها:

دع عنك خائنة الوساوس ... فالذل عاقبة الدسائس

واخش الكلام فكم جنبت ... حرب البسوس وسبق داحس

ماذا تريد بشِّنها ... دهياء توحش كل آنس؟؟

ولكن قصيدة اليازجي كانت قاسية على الترك شديدة اللهجة ففيها يقول:

قوم لقد حكموا بكم ... حكم الجوارح في الفرائس

كم تأملون صلاحهم ... ولهم فساد الطبع سائس

ويغركم برق المنى ... جهلاً وليل اليأس دامس

أو ما ترون الحكم في ... أيدي المصادر والمماكس

وعلى الرشى والزور قد ... شادوا المحاكم والمجالس

وكان اليازجي في أثناء الثورة العرابية واقفاً للترك بالمرصاد يحط من أقدارهم ويصف من أفعالهم ما يبغضهم إلى العرب. ولعل أعنف قصائد اليازجي - والشيء بالشيء يذكر قصيدته البائية التي يقول فيها:

أقداركم في عيون الترك نازلة ... وحقكم بين أيدي الترك مُغتصبُ فليس يدري لكم شأن ولا شرف ... ولا وجود ولا اسم ولا لقب

فيا لقومي؛ وما قومي سواء عرب ... ولن يضيَّع فيهم ذلك النسب

والقصيدتان في ديوان العقد لإبراهيم اليازجي ص 56، 59

وكانت في أخلاق الطويراني شدة وحدة في المزاج؛ ولعله رحمه الله كان قليل البقاء على حال واحدة؛ فكنت تراه اليوم في جريدة وتراه غداً في غيرها؛ لا تقلباً منه في مبدئه، ولكن تعصباً منه في رأيه أو ترفعاً منه في الزلفى لحاكم أو الخضوع لذي جاه؛ ذلك هو السر في تعطيل بعض الصحف التي أصدرها

ولا يزال سجل الصحافة المصرية - إن كان لها سجل! - يذكر لصاحبنا جريدة (النيل) ومجلات (الشمس) و (الزراعة) و (المعارف) والأولى أنشئت في القاهرة في أواخر سنة 1891 أي بعد عودته إلى مصر من القسطنطينية بعام واحد؛ أما الشمس والزراعة فقد أنشأهما سنة 1894 والثانية أسبق من الأولى ببضعة أشهر في الظهور

كان لصاحبنا علاقات طيبة مع أفضل الرجال في زمانه كما كان له صلات ود مع أعظم الأدباء في عصره، ولم يكن في قلمه تلك الصرامة والسلاطة التي امتاز بها رجل كأحمد فارس الشدياق صاحب مجلة الجوائب. إلا أن العلاقة بين الرجلين الكبيرين كانت أمتن ما تكون الصلة، وأحكم ما تكون ارتباطاً. فقد رثى الطويراني أحمد فارس الشدياق حين وفاته سنة 1887م بقصيدة بائية من البحر البسيط وأرخ في الشطر الأخير منها وفاته سنة 1305 من التاريخ الهجري. كما نعاه في مجلة (الإنسان) التي كان يصدرها في القسطنطينية يومئذ في عبارات من السجع الذي كان طابع الكتابة العربية في ذلك الحين. إلا أنه في بعض مواضع من النعي عاد إلى الكلام المرسل (غير المسجوع) كقوله فيه (حكيم السكوت وقور الكلام متواضع الجانب عميق الفكر قوي الحجة كبير الهمة. . . إذا رأيته رأيت علماً متجسما، ومكارم أخلاق قد حلت فاستحالت إنساناً كاملاً)

ولما مات حسن حسني الطويراني باشا رثاه الشعراء، ولم يرثه أمير البيان شكيب أرسلان مع أنه رثى فارس الشدياق قبله ورثاه الشاعر الرقيق ولي الدين بك يكن بقصيدة تبلغ سبعة عشر بيتاً قال فيها:

يا قبر عندي طية عرضت ... لمن استضفت فزحزح السترا قد كنت قبل اليوم أقصده ... أهدي إليه النظم والنثرا

لا تطرحنَّ وإن ثوى (حسن) ... بعد المداغ فوقه الصخرا

أبكيك ما ذكر الورى أثراً ... ووعى الخلود لفاضل ذكرا

أبكيك ما جرت البراعة في ... ميدانها واستطردت سطرا

والقصيدة في ديوان ولي الدين يكن ص 69؛ وفي البيت السابع منها نقص وصحته:

قال النعاة طوى الردى حسنا ... قلت اندبوه فقد طوى الدهرا

وبعد هذا البيت بيت ثامن لم يرد في الديوان؛ والتصويب عن الكونت فيليب طرازي. وهو:

وطوى الطبيعة بعده وطوى ... ما بعدها حتى طوى النشْرا

هذه لمحة خاطفة عن حياة حسن حسني الطويراني باشا، وفي العدد الآتي من الرسالة أرجو أن يتسع المقام لدراسة شعره بشيء من التفصيل.

محمد عبد الغني حسن