- ترجمات أخرى صديق همام (تشيخوف)
مجلة الرسالة/العدد 545/القصص
→ من الشعر الحر | مجلة الرسالة - العدد 545 القصص المؤلف: أنطون تشيخوف المترجم: صلاح الدين التهامي |
صديق همام Знакомый мужчина هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 545 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ: 13 ديسمبر 1943 |
صديق همام. . .
لأنطون تشيكوف
وجدت (فاندا) الساحرة، أو كما جاء وصفها في جواز السفر (المواطنة الشريفة ناستاسيا كانافكن) وجدت نفسها بعد خروجها من المستشفى في حال لم تصادفها في حياتها من قبل، لا مأوى لها ولا مال عندها؛ فماذا يمكن أن تفعل؟
كان أول شيء عملته هو ذهابها إلى مصرف الرهائن، حيث أودعت خاتمها الفيروزي، الحلية الوحيدة التي كانت تملكها، وأخذت جزاء ذلك روبلاً واحداً
ولكن ماذا يفيدها هذا الروبل؟ إنها لا تستطيع أن تشتري بهذا المبلغ معطفاً أنيقاً، أو قبعة واسعة، أو حذاء من ذي اللون الفضي اللامع وهي - بدون هذه الثياب - تشعر بأنها عريانة. يخيل إليها أن كل من حولها حتى الكلاب والحمير ترمقها وتضحك من بساطة ثيابها. وكانت الثياب كل ما يشغل تفكيرها. لم يثر اهتمامها قط التفكير في ماذا تأكله ولا أين تنام؟
(آه لو أتيح لي لقاء صديق همام! إذن لحصلت على بعض المال. ما من صديق يمكنه أن يرفض لي طلباً كهذا. إني واثقة)
كان هذا اتجاه تفكيرها، ولكنها لم تلق هذا الصديق المنشود. إن من الأيسر أن تلقي أمثاله في المساء في ملهى، (الرينيسانس) ولكنهم لن يسمحوا لها بالدخول في هذا الملهى، وهي ترتدي هذه الثياب الحقيرة، ورأسها عار. ماذا يمكن أن تفعل؟
وبعد تردد طويل، وبعد أن أنهكها طول السير والجلوس والتفكير، استقر رأي فاندا على أن تلتمس ملجأ فتذهب لتوها إلى منزل صديق همام وتطلب مقداراً من المال
وأخذت تفكر فيمن تقصد. (لا يمكنني أن أذهب إلى ميشا، إنه رجل متزوج. . . والرجل العجوز ذو الشعر الأحمر سيكون في مكتبه في مثل هذا الوقت من النهار)، وتذكرت فاندا طبيب أسنان يدعى فينكل، هو يهودي اعتنق المسيحية وكان قد أهدى إليها سواراً منذ ستة أشهر. وكانت في يوم من الأيام قد صبت كأساً من الخمر فوق رأسه وقت العشاء في النادي الألماني. عمها السرور إذ فكرت في فينكل وقالت: (لابد أنه سيمنحني مقداراً من المال إذا وجدته في المنزل؛ وإذا لم أجده فسأحطم كل مصابيح الكهرباء التي في منزله)
كان هذا اتجاه تفكيرها وهي في طريقها إليه
وقبل أن تصل إلى منزل طبيب الأسنان رسمت خطتها للعمل. إنها ستصعد السلم قفزاً وهي تضحك عابثة، ثم تندفع إلى حجرة الطبيب وتطلب منه خمسة وعشرين روبلا. ولكنها ما كادت تلمس الجرس حتى أحست بهذه الفكرة تتبخر من ذهنها. وبدأت فاندا تحس بالرهبة والضيق، مما لم تعهده من قبل. لقد كانت دائماً جريئة في حلقات الشراب، ولكنها الآن وهي تلبس هذه الثياب الحقيرة تشعر كأنها شخص يطلب إحساناً؛ وقد لا يسمح لها حتى بالدخول. وشعرت فجأة بالذلة والمسكنة، وأحست بالخجل والاضطراب
أخذت تفكر وهي لا تجد من نفسها الشجاعة الكافية لأن تغمز الجرس وقالت في نفسها: (ربما يكون قد نسيني. كيف يمكنني أن ألقاه في هذه الثياب وأنا أبدو كمتسولة حقيرة أو عاملة فقيرة؟) ودقت الجرس في ضعف. وسمعت وقع أقدام تقترب: إنه البواب. (هل الطبيب موجود؟) وجهت السؤال وهي ترجو أن يكون الرد (كلا) ولكن البواب بدلاً من أن يجيب صحبها إلى القاعة وساعدها على خلع معطفها
وبهرتها القاعة بفخامة مظهرها وروعته، ولكن نظرها علق بمرآة ضخمة، فواجهتها لترى فتاة رثة الثياب، لا تلبس معطفاً أنيقاً، ولا تضع فوق رأسها قبعة واسعة، ولا تنتعل الحذاء ذا اللون الفضي
ورأت فاندا أنها في ثيابها البسيطة هذه، تبدو كحائكة
أو غاسلة ثياب؛ واستغربت أنها تحس بالخجل ولا تجد في نفسها أثراً لتلك الشجاعة، بل الوقاحة التي اعتادتها. بل إنها لم تعد تفكر في نفسها أنها فاندا (الساحرة) فما هي إلا ناستاسيا كانافكين كما كانت في الأيام الخالية
وتقدمتها الخادم إلى حجرة الكشف قائلة لها: (تفضلي بالدخول. سيأتي الطبيب بعد دقيقة واحدة. اجلسي)
وجلست فاندا على مقعد مريح وأخذت تفكر: (سأطلب منه أن يعيرني هذا المبلغ. ليس في هذا أقل حرج. إن معرفتي إياه قديمة. آه لو أن هذه الخادم تخرج. إني لا أميل إلى مصارحته أمامها. ما الذي يدعوها للبقاء هنا؟)
وبعد خمس دقائق انفرج الباب عن فينكل. كان يهودياً طويلاً، أسمر اللون، ذا خدين متهدلين وعينين منتفختين. كان منظر عينيه، وخديه، وصدره، وجسمه، بل منظره كله يمجه الذوق ويثير الكراهية. كان في ملهى (رينيسانس) والنادي الألماني يبدو ثملاً، ويبذل نقوده للنساء عن سعة. وكان واسع الصدر، صبوراً على ألاعيبهن (فمثلاً عندما صبت فاندا كأس الخمر فوق رأسه، لم يزد على أن ابتسم ورفع أصبعه في وجهها منذراً)، أما الآن فهو يبدو جامد الحس، جاداً، ثقيل الدم كرئيس الشرطة، وهو يفتأ يلوك شيئاً بين شدقيه
قال مخاطباً فاندا دون أن ينظر إليها: (هل من خدمة أستطيع أن أقدمها إليك؟). ونظرت فاندا في وجه الخادم الصارم ومظهر فينكل، الذي كان من الواضح أنه لم يعرفها، واحمرت وجنتا فاندا
- (هل من خدمة أستطيع أن أقدمها إليك؟) ردد الطبيب سؤاله في ضيق مكتوم، فهمست فاندا: (أحس ألماً في أسناني)
- (حسن. . . أين موضع الألم؟)
وتذكرت فاندا أن بإحدى أسنانها تجويفاً، فقالت:
- (في الفك الأسفل. . . على اليمين. . .)
- (هيه! افتحي فمك). وقطب فينكل جبينه، وأمسك أنفاسه، ثم أخذ يكشف عن السن. وسأل فاندا: (هل تؤلمك؟). ثم وضع آلة معدنية فوقها. وأجابت فاندا كذباً: (نعم)، وهي تتساءل في نفسها: (هل أذكره؟ إنه من المؤكد سيذكرني. ولكن هذه الخادم! ما الذي يدعوها للبقاء هنا؟)
وفجأة انطلق فينكل قائلاً (لا أنصحك بمعالجة هذه السن. إنها لا تستحق العلاج). وبعد فحص السن مرة أخرى ملوثاً شفتي فاندا ولثتها بأصابعه الملوثة بلفائف التبغ، أمسك أنفاسه مرة أخرى، ثم وضع شيئاً بارداً في فمها. وأحست فاندا فجأة بألم حاد، فصرخت، وقبضت على يد فينكل
فقال الطبيب: (كل شيء على ما يرام. لا تنزعجي. ليس لهذه السن فائدة. . . يجب أن تكوني شجاعة)، وأخرج أصابعه من فمها ملوثة بالدماء وممسكة بالسن. . . وتقدمت الخادم ووضعت إناء تحت فم فاندا. وقال فينكل: (عليك أن تغسلي فمك بالماء البارد عند عودتك إلى المنزل، فإن هذا سيمنع النزيف)
ثم واجهها في مظهر الرجل الذي ينتظر انصرافها لتدعه في سلام. فقالت: (نهارك سعيد. ثم اتجهت إلى الباب منصرفه. وتساءل فينكل في لهجة ضاحكة: (هم! وما رأيك في أجري؟)
(آه! حقاً!) وتذكرت فاندا فمدت يدها إلى اليهودي بالروبل الذي أخذته رهناً على خاتمها
وعندما خرجت فاندا إلى الطريق تضاعف إحساسها بالخجل، ولكنه في هذه المرة لم يكن الفقر سبب خجلها. إنها لم تعد تجد الحاجة إلى قبعة واسعة أو معطف أنيق، وإنما أخذت تجوب الطرقات والدم ينزف من فمها، وهي تفكر في حياتها الكريهة، حياتها المؤلمة، والإهانات التي عانتها والتي سوف تعانيها في الغد، وفي الأسبوع القادم، بل طول عمرها حتى نهاية أجلها
(آه! كم هذا مؤلم! رباه كم هذا مخيف!)
وعلى كل حال ففي اليوم التالي، عادت فاندا الساحرة إلى ملهى (رينيسانس) لترقص هناك، وكانت ترتدي قبعة حمراء واسعة، ومعطفاً أنيقاً، وحذاء ذا لون فضي لامع. وقد صحبها للعشاء تاجر شاب جاء أخيراً من قازان.
صلاح الدين التهامي