الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 543/مسابقة الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 543/مسابقة الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 543
مسابقة الأدب العربي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 11 - 1943


البهاء زهير

للدكتور زكي مبارك

تمهيد

ينص منشور وزارة المعارف على أن المتسابقين يمتحنون تحريريا في الكتب الآتية:

1 - ديوان البهاء زهير وديوان علم الدين المحيوي

2 - كتاب أخبار أبي تمام للصولي

ومعنى هذا أن الديوانين الأولين جعلا في حكم الكتاب الواحد، لأنهما لشاعرين عاشا في عصرٍ واحد وفي بيئة واحدة، ولأنهما يقتربان في المنازع الشعرية بعض الاقتراب، وسنعرف هذه الشؤون حين نوازن بينهما في الأحاديث المقبلات

حياة البهاء زهير

للأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق بحث جيد عن (البهاء زهير)، وفي ذلك البحث كلام مفصل في حياة الشاعر، فمن الواجب أن يرجع الطلبة إليه، وهو يوجد في مكتبات المدارس الأميرية. وإنما أشير بالرجوع إلى هذا البحث، لأنه أوفى ما كتب في ترجمة البهاء زهير، ولأن الاطلاع عليه يقدم إلى الطلبة فوائد أدبية وتاريخية لا يظفرون بمثلها إلا بعد عناء

ومن طريف الحوادث أن وزارة المعارف كانت رأت توزيع هذا البحث على تلاميذ المدارس الثانوية، ولكن ناساً من أهل الإسكندرية ثاروا وطالبوا بسحه من مدارس البنات، بسبب قطعة وردت فيه، وهي أبيات من شعر البهاء تشبه ما يسمونه الأدب المكشوف، مع أنها لا تستوجب العنت في اللجاج، ومع أنه في كتاب عرف مؤلفه بالحرص على مراعاة الذوق في الكتابة والحديث

رأى الدكتور طه حسين

حين أظهر الشيخ مصطفى بحثه عن البهاء تفضل وأهداني نسخة، فحدثت الدكتور طه في تلك الهدية فقال: لقد أتعب الشيخ مصطفى نفسه في غير طائل، لأنه البهاء زه يستحق هذا المجهود، ولن يكون من أعلام الشعر بأي حال، فمن الظلم أن نحله ذلك المكان

قلت: ولكن البهاء زهير تفرد بالرقة بالتعبير، وتلك ظاهرة أدبية تستحق الالتفات

فقال لدكتور طه: الشعر العربي مظلوم من هذه الناحية، فالوعورة لا تغلب إلا على الشعر الجاهلي والشعر الأموي، ثم غلبت السهولة بعد ذلك على أكثر الشعراء

القول الفصل

هو القول الذي نطق به التاريخ الأدبي، فقد ثبت أن ديوان البهاء زهير ظفر بقبول لم يظفر به ديوان، فقد طبع عشرات المرات في مصر وفي غير مصر، وترجم شعراً إلى اللغة الإنجليزية منذ زمان، وقال مترجمه إنه قريب الروح من شعراء الإنجليز في القرن السابع عشر، ومعنى ذلك أنه انتقل من الصبغة المحلية إلى الصبغة الدولية، وهذا مغنم ليس بالقليل

والواقع أن في شعر البهاء نفحة عطرية لا نجدها عند أكثر الشعراء، فقد كان مرهف الإحساس إلى ابعد الحدود، وكانت قدرته على التعبير قدرة عاتية، لأنه استطاع أن يعبر عن جلائل المعاني بعبارات هي غاية في اللطف والإيناس

مشكلة المشكلات

هي مشكلة التعبير، ويعز على أن أقرر أن هذه المشكلة سيطرت على تأريخ الأدب العربي، ولم تظفر إلى اليوم بما تستحق من الحلول

ومرجع هذه المشكلة إلى اعتبار الجزالة أساس البلاغة في لغة العرب، فالكلام الجزل هو الكلام البليغ، الكلام الجدير بالانتساب إلى العرب الصرحاء

أما الكلام الرقيق فهو من أفانين المولدين، لأن الحضارة هي التي أوحت بالرقة واللطف، ولهذا استباح الدكتور طه أن يرتاب في كل شعر رقيق ينسب إلى العصر الجاهلي، كما تشهد نصوص كتابه الذي أثار الناس قبل سنين

وأقول بأن الدكتور طه لم يفطن إلى مقامات الكلام عند شعراء الجاهلية، وهي مقامات لا تعترف بوحدة الأسلوب، وإنما تلون الأساليب وفقاً لما توحي به شجون الأحاديث، فترى الجزالة هنا وترى الرقة هناك وفي القرآن شواهد على صحة هذا القول، فهو يؤثر الرقة في مقام الوعد، ويؤثر الجزالة في مقام الوعيد، ونثر القرآن نثر جاهلي، كما بينت ذلك في كتاب (النثر الفني)، لأنه نزل على العرب وهم جاهليون لا إسلاميون

لحظة مع الشيخ مصطفى عبد الرازق

هي لحظة قصيرة أتعالم فيها عليه، لأزعم أني أعرف من أسرار البلاغة أكثر مما يعرف، وهيهات ثم هيهات!

هذا الشيخ صورة من أدب النفس، والتحامل عليه لا يليق،. لأنه يرحب بهجومي عليه، ويسره أن أسجله في أي ميدان، وأنا سأشرح صدره فأقدم إليه فائدة بلاغية لم تخطر في باله عند تأليف الكتاب

لقد نص في كتابه على أن الرقة في شعر البهاء زهير هي الطبع، وأن الجزالة هي التطبع، وأن البهاء لم يؤثر الجزالة إلا في الظروف التي يحاول فيها منافسة خصومه من أعيان الشعراء

وأقول بأن الجزالة في شعر البهاء قضى بها الطبع لا التطبع لأنه من وحي المقام لا من وحي التكلف، وإلا فما الذي يريد الشيخ مصطفى أن يقول البهاء وهو يذكر انتصار الملك الكامل، وإجلاءه الإفرنج عن ثغر دمياط؟

هل كان ينتظر أن يصطنع لغته في الغزل، اللغة التي يرق بها فيقول:

سِّلمْ عليّ إذا مرر ... تَ فلا أقلّ من السلامِ

الغدر في كل الطبا ... ع فلا أخصّك بالملام

ما أكثر العذّال في ... ولهي عليك وفي غرامي

هَبْني كتمتهمُ هوا ... كَ فكيف أكتمهم سقامي

هذه لغة في رقة الخد الأسيل، وهي هنا مقبولة لأنها أشبه بمناغاة الحبيب للمحبوب، ولكنها لا تصلح للتعبير عن اصطخاب القلوب عند انتزاع ثغر دمياط من أوشاب المغيرين

أمن التكلف أن يقول البهاء في مدح الملك الكامل:

بك أهتز عِطف الِّدين في حُلَل النصر ... ورُدَّت على أعقابها مِلّة الكفرِ

وليلةِ غزوٍ للعدو كأنها ... بكثرة من أرديته ليلة النحر فيا ليلة قد شرَّف الله قدرها ... ولا غرو إن سميتها ليلة القدر

سدَدْتَ سبيل البر والبحر عنهمُ ... بسابحةٍ دُهْمٍ وسانحةٍ غُرِّي

أساطيل ليست في أساطير من مضى ... بكل غرابٍ راح أفتك من صقر

وجيش كمثل الليل هولاً وهيبةٌ ... وإن زانه ما فيه من أنجم زُهرِ

وكل جوادٍ لم يكن قطّ مثله ... لآل زهير، لا، ولا لبني بدر

وباتت جنود الله فوق ضوامر ... بأوضاحها تُغنِي السُّراة عن الفجر

كفى الله دِمياط المكاره إنها ... لَمِن قبلة الإسلام في موضع النحر

وما طاب ماء النيل إلاّ لأنه ... يحلّ محل الريق من ذلك الثغر

فهذا الشعر يراه مصطفى باشا مجاراة للقدماء، لغلبة الجزالة عليه. ولكن الواقع أن الجزالة هنا ضرورية، لأن المقام لا يسمح بالرقيق

وعند مراجعة القصائد الموسومة بالجزالة نرى مقامات الكلام هي التي فرضت على الشاعر أن يختار الجزل، وهذا من دقائق الصناعة الشعرية، فلا موجب للحكم بأنه يخرج على الطبع ليساير القدماء

ولنذكر مثالاً ثانياً من الجزل هو قوله في مدح الملك الصالح نجم الدين أيوب:

ولقد سعيت إلى العلاء بهمةٍ ... تقضي لسعي أنه لا يُخفق

وسريتْ في ليلٍ كأنّ نجومهُ ... من فرط غيرتها إليَّ تحدَّق

متى وصلتُ سرادق الملِك الذي ... تقف الملوك ببابه تسترزق

فإليك يا نجم السماء فإنني ... قد لاح نجم الدين لي يتألق

الصالح الملِك الذي لزمانه ... حُسْنٌ يتيه به الزمان ورونق

ملأ القلوب مخافةً ومحبةً ... فالبأس يُرهَب والمكارم تعشق

فعدلت حتى ما بها متظَّلمٌ ... وأنلت حتى ما بها مسترزقُ

يا من رفضتُ الناس حين لقيتهُ ... حتى ظننت بأنهم لم يُخلقوا

قيدتُ في مصرٍ إليك ركائبي ... غيري يغرِّب تارةً ويشرِّق

وحللت عندك إذ حللت بمعقلٍ ... يُلقى إليه ماردٌ والأبلق

وتيقّنَ الأقوام أنيَ بعدها ... أبداً إلى رُتب العلا لا أُسبق فرُزقت ما لم يُرزقوا، ونطقت ما ... لم ينطقوا، ولحقت ما لم يلحقوا

فما عيب هذا المديح حتى يقال أنه دون سائر فنون البهاء في الطرافة والإبداع؟

وحب أن أذكر مثالاً ثالثاً يؤكد ما قصدت إليه من أن الجزالة في شعر البهاء طبع لا تطبع، لأن المقام يوجبها كل الإيجاب.

قال في مدح الملك الناصر يوسف:

ومذ كنت لم ترضَ النقيصةَ شيمتي ... ومثلُك يأباها لمثلي ويأنف

ولا أبتغي إلا إقامة حرمتي ... ولست بشيء غيرها أتأسف

ونفسي بحمد الله نفسٌ أبيةٌ ... فها هي لا تهفو ولا تتلهف

ولكنَّ أطفالاً صغاراً ونسوةً ... ولا أحدٌ غيري بهم يتلطف

أغار إذا هبّ النسيمُ عليهمُ ... وقلبي لهم من رحمة يترجّفُ

سروريُ أن يبدو عليهم تنعُّمٌ ... وحزنيُ أن يبدو عليهم تقشف

ذُخرت لهم لطف الإله ويوسفاً ... ووالله لا ضاعوا ويوسف يوسف

أكلِّف شعري حين أشكو مشقةً ... كأني أدعوه لما ليس يُؤْلَف

وقد كان معتاداً لكل تغزّلٍ ... تهيم به الألبابُ حسنا وتُشغف

يلوح عليه في التغزل رونقٌ ... ويظهر في الشكوى عليه تكلف

وما زال شعري فيه للروح راحةٌ ... وللقلب مُسلاةٌ واللهمْ مصرف

يناغيك فيه الظبي والَّظبي أحورٌ ... ويُلهيك فيه الغصن والغصن أهيف

شكوت وما الشكوى إليك مذلةٌ ... وإن كنت منها دائماً أتأنف

هذا أيضاً شعر جزل، وهو مع ذلك برئ من التكلف، وإن زعم الشاعر أنه تكلف!

وهل كان يمكن في مثل هذا المقام أن يرق على نحو ما يتفق له في شكوى الصدود؟

لكل مقام مقال، وقد كان البهاء من أعرف الناس بمقامات الكلام.

ولكن ما هي ذاتية البهاء؟ وما حياته في مصر والحجاز؟ وما مركزه بين معاصريه؟ وما وزنه الصحيح في تاريخ الشعر العربي؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في الحديث المقبل والله بالتوفيق كفيل

زكي مبارك