مجلة الرسالة/العدد 543/العلم في روسيا
→ أوزان الشعر | مجلة الرسالة - العدد 543 العلم في روسيا [[مؤلف:|]] |
عبقرية الإمام ← |
بتاريخ: 29 - 11 - 1943 |
للأستاذ خليل السالم
كان العالم في السنة الماضية يعجب ببسالة الروس واستماتتهم في الدفاع عن وطنهم؛ وهو اليوم يقف مشدوهاً أمام عظمة الجيش الروسي وقدرته على سحق قوى الألمان الهائلة وتدمير آلتهم الحربية الجبارة وإيقاع الهزائم المنكرة بهم في كل ميدان
ولنحاول رد تلك المقاومة الرائعة إلى أسبابها الأساسية وتفسير هذه الانتصارات الحاسمة، نجدنا مسوقين حتما إلى الحكم بأن انتشار الثقافة العلمية وتقدم معاهد العلم وتطبيق النواميس العلمية في دور الصناعة ووفرة الابتكار والاختراع كانت بين الأسباب القوية والعوامل الفعالة التي يسرت للجيوش الروسية أن تحرز هذا النصر الباهر وتطرد الغازي الغاشم من أراضيها
كان العلم في روسيا حتى ظهور النظام السوفيتي وتوليه الأمور زينة رسمية تنصيها الحكومة وتغدق عليها الأموال الطائلة دون أمل في الربح ودون تكليف العلماء جهداً مرهقاً لخدمة الناس ونفع المجتمع. وكانت البلاد منذ أيام بطرس الأكبر الذي أسس أكاديمية العلوم الروسية على النسق الفرنسي تعتمد في نشر النظريات العلمية الجديدة وشرحها على العلماء الذين يفدون من أوربا الغربية
فدعا بطرس الأكبر مثلاً دانيال برنيولي وليونارد يولر. وحذا خلفاؤه حذوه في استيفاد العلماء الموهوبين؛ إلا أن تخلف العامة وتكبيلهم بقيود الجهل لم يتيحا للثقافة العلمية أن تشيع وتزدهر. وقصرت أكاديمية العلوم في أداء واجباتها وتبليغ رسالتها فلم يكن على العضو الذي انتخب لمقدرته وكفاءته والشهادة له بالذكاء والنبوغ إلا أن يقبض الرواتب الباهظة ويتبع وحيه الخاص في البحث سواء كان مبتكراً مجدداً أو مزوقاً وجه المعرفة بشروح وذيول للنظريات العلمية الشائعة. فعجز العلم لذلك عن أن يغير من حياة الناس ويسمو بمستوى معيشتهم، ولم يظهر في سماء العلم إلا عدد ضئيل من النجوم المتألقة من أمثال مندلييف ولومونوسوف ولوباتشفسكي. . .
وبين عشية وضحاها أصبحت روسيا بلداً عامراً بالعلم والعلماء وركناً أساسياً في بناء العلم الخالد؛ فهي تقدم اليوم لفروع المعرفة أيادي بيضاء لا تقل أثراً عن غيرها من الأمم إن تزد
ومع أنها لا تستطيع في بعض الموضوعات اللحاق بالأمم التي يسر لها الحظ أن تعنى بالكشف والتحقيق قبلها إلا أن ما تسعى له من ترويج الثقافة العلمية وتشجيع البحث سيهيئ لها أن تبلغ الشأو العالي وتتربع على عرش القيادة العلمية من إنكلترا وأمريكا وألمانيا مثلاً: فقد فرضت الحكومة سلطتها في نشر الفكر المنظم بين طبقات الشعب، وهي تعمل على خلق البيئة العلمية الصالحة لأن يترعرع فيها العلم وينمو
وتنشر الصحف الكبيرة مقالات مسهبة في مواضع علمية وصناعية وفنية، كما تحتل أخبار البحث وتقدم الهندسة الآلية الصفحات الأولى منها. وتكثر المكتبات بشكل عجيب ويعم تداول الكتب؛ فقد بلغ ما بيع من طبعة روسية لأحد كتب الفيلسوف (كانت) سنة 1936 مائة ألف نسخة. وبكلمة موجزة نقول إن العلم في روسيا لقي من التشجيع أكثر مما لقي في أي قطر آخر سواء في تأسيس المعاهد أو تمويل المحترفين
لا يزيد عدد العلماء اللامعين الذين يحتلون مقاماً عالمياً على الأربعين، تثقف معظمهم على عهد القيصرية. فمما لا شك فيه أن الوضع القياسي الذي وجد علماء الروس الناشئون أنفسهم فيه قد أجبرهم على التهام الحقائق الجديدة والنظريات الواسعة بسرعة، فأعوزهم الاختبار الحصيف والنقد العنيف، نذكر من مشاهيرهم الأستاذ جوف مدير المعهد الطبيعي التكنيكي في ليننغراد، ومؤسس هذا المعهد تحت إشراف أكاديمية العلوم، ويكاد تكون بحق باني النهضة العلمية الحديثة؛ فمن معهده تخرج الأساتذة الذين يديرون المعاهد الأخرى في بقية البلدان الروسية. وميدان بحثه خواص الأجسام الموصلة توصيلاً جزئياً. وقد ألقت دراسته ضوءاً ساطعاً على كسر الأجسام العازلة. ويدرس أيضاً مقاومة الأجسام الصلبة، وكيف تزيد إمكانية الحد أو قوة المادة
ومن تلاميذه ستيبانو الذي ارتأى أن الاحتكاك بين سطوح البلورات المتجاورة الواقعة تحت ضغط عال يعقب ميوعة وقتية تفسر كيف تلتوي قطعة معدنية بسرعة ثم تبقى محافظة على الشكل الجديد الذي تأخذه
ومن تلاميذ جوف أيضاً برزلر وفينو جينوف اللذان
استخدما لأول مرة كرات الصلب الدقيقة الميكروسكوبية أخاديد في المكائن، وانتهيا إلى أن كرات قطرها (101) من
المليمتر ممزوجة بالزيت تنقص قوة الاحتكاك مرتين ونصف
المرة عما تكون عليه لو استعمل الزيت وحده
ومن الأعلام سكوبلتزن الذي اكتشف الدقائق السريعة في الأشعة الكونية. ففي سنة 1926 ابتدأ قياس سرعة الكهارب المنطلقة من مادة مشعة باستخدام غرفة ولسن القائمة المحاطة بمجال مغنطيسي. وفي سنة 1927 نشر صوراً فوتوغرافية لدقائق انبعثت بسرعة عجيبة حتى أن مساراتها لم تتضح وتظهر. وحصل سكوبلتزن على صور للبوزيترونات وكان حسن الحظ في سبقه كل العلماء في التعرف إلى طبيعتها
ودرس سيمنوف وجارتون التفاعلات السلسلية، وقدمت مدرستها معلومات هامة عن المتفجرات، وخصائص بعض الآلات
وقد بنيت مؤسسة (للمسائل الطبيعية) في موسكو ليشتغل فيها العالم الفذ كابتزا وهو مبتكر مسيلة هواء جديدة تستخدم ضغطاً جوياً ضئيلاً لتشغيل الهواء حتى يفقد طاقته ويبرد بنفسه
ومن العلماء الناشئين ليسنكو الذي استطاع أن يكسب لنفسه شهرة عالمية بالرغم من حداثة سنه. وقد نشر أول أبحاثه سنة 1928 وهو يبحث في الحياة النباتية ويدرس العلاقة بين الزرع والبيئة، والشروط الصحية التي يحيا فيه النبات ويسرع نموه، وساعد رازوموف وليبمنكو في أن يجعلوا سهول أكرانيا الفسيحة تنتج أضعاف ما كانت تنتج بانتخاب أنسب الأوقات لبذر الحبوب. وهو عالم نظري بالإضافة إلى أبحاثه الزراعية الحيوية. ويقول في مناسبة ما: (إن الشعب في روسيا المتحدة لا يولد؛ إن هي إلا أجسام حية تلك التي تولد؛ أما سائقوا الجرارات، وميكانيكو المحركات، والعلماء والباحثون فإنهم هنا يصنعون. إنني من أولئك الرجال الذين صنعوا ولم يولدوا. ويسعد المرء جداً أن ينتسب إلى مجتمع كهذا)
ومن العلماء النابهي الذكر رهبايندر درس خواص السطوح سواء الطبيعية والكيميائية منها. وله آراء جليلة حول وظيفة العلم في المجتمع، وهو يرى أن العلم لا يخدم الصناعة وإنما يسودها بخلق صناعات جديدة وإفساح مجالات أرحب للتطبيق العملي. وله مكتشفات رائعة عن قوة المعادن وتأثير الصفائح الرقيقة في قساوة الأجسام ومنهم فافيلوف وقد عني بدرس أصل الزراعة وتزاوج النباتات في أنحاء الاتحاد السوفياتي. وقد وجد أن هناك عشرين نوعاً من قمح الخبز في أوربا، واثنين وخمسين نوعاً في إيران، ولا أقل من ستين نوعاً في أفغانستان. ومنهم أيضاً العالم مسفسكي وقد درس قوة الأشعة الكونية في النفاذ من طبقات مائية كثيفة. وأجرى تجاربه في نهر نيفا قرب لننغراد في شمال روسيا، وأسفرت تجاربه عن نتائج أيدت نتائج ملكن العالم المشهور بدراسة هذه الأشعة
وعلى وجه العموم نرى أن علماء روسيا معنيون أول ما يكون بدرس المسائل العلمية المتعلقة بالصناعة والتطبيق والحياة. فقد فرضت السلطة سطرتها على العلم، ووجهت أكاديمية العلوم وجهة تقصد التجديد في الصناعة واستغلال القوى الكامنة في البلاد والعمل لرخاء الشعب، فنقلها إلى موسكو لتكون مؤسساتها في موقع حربي أمين، وتكون قريبة من الإدارة الحكومية. وجرى تبادل رجال العلم بين الجامعات ودور الصناعة، فأستاذ الجامعة يقضي وقتاً كبيراً في المصنع مشرفاً عليه محاولاً تحسينه وجودة إنتاجه. ويحاضر رجال الصناعة في الجامعة في مدى تطبيق العلم النظري، وعن المشاكل الراهنة التي تجابهها الصناعة والتي يتوقع من المختبر حلها. وكان لهذا التعاون الفريد نتائج باهرة في الناحيتين المهنية والتطبيقية.
ويقضي التنظيم الحديث أن يعني العالم بتطبيق ما يكتشف قبل أن يسير وراء نتائجه إلى ابعد الحدود النظرية. ولا يجوز له أن يصرف جهوده في بحث توفر عليه أحد علماء الآخرين. ويجب نشر آخر ما ينتهي إليه عالم ليوفر على آخر جهداً يقصد منه الوصول إلى تلك النتائج عينها. فيتوزع بذلك الاهتمام العلمي بين الأبحاث على وجه المستقيم، ولا يفر العلماء إلى ميادين كلاسيكية نظرية.
ولا يجوز للعالم أن يغير اختصاصه المقرر له إلا بعد مداولات طويلة مع رؤساء المعهد الذي ينتسب إليه، وندر ما لقيت رغبة العالم فيما يود الخوض فيه من أسرار الكون والحياة أدنى اعتبار.
وعند النظر في قيمة هذا التنظيم وانسجامه مع روح العلم ونجاحه في خلق العلماء والمبتكرين، نرى أن علماء أوربا الغربية وأمريكا لا يتفقون على وجهة نظر واحدة. فمنهم من يحبذ رسم الخطط العلمية، لأن غرض العلم الأساسي، كما يجب أن يكون، خدمة المجتمع وسعادة الناس. ويرى هذا الفريق أن إرشاد العلماء وحشدهم في فئات مستقلة تدرس كل فئة منها موضوعاً بعينه يتقدم بالعلم خطوات فسيحة، ويحول دون أن تضيع جهود كثيرة عبثاً.
والذين ينكرون هذه الطريقة يعتقدون أن ضغط السلطة وفرضها أوامر متحكمة على العلماء يؤذي العبقريات ويخمد جذوتها المشتعلة، ويحرمهم من اختصاصهم الذي يلذ لهم ويشفعون به، وحجتهم أن التاريخ العلمي يوضح بجلاء أن العلماء الذين أفادوا البشر وخدموا الصناعة لم يقصدوا ذلك قبل أن يقصدوا لذتهم الخاصة وكشف الحقيقة قبل أي شيء آخر. وقد انتقل هؤلاء من بحث إلى آخر، كما تنتقل النحلة بين أزهار الرياض. فيجب أن يكون لكل عالم تفرده في البحث وحريته في اختياره كحريته في النشر والكلام.
وتدور اليوم معركة حامية في الكتب والمجلات بين كبار العلماء من أنصار الرأيين. ولا ينكر أن العلم المنظم قد نجح في روسيا نجاحاً باهراً؛ فهل يعني هذا أن تنظيم العلم ضروري؟ لعلنا نعود للجواب على هذا السؤال في بحث قريب.
(السلط - شرق الأردن)
خليل السالم
ب. ع من الدرجة الأولى في الرياضيات