مجلة الرسالة/العدد 542/بمناسبة افتتاح العام المدرسي
→ حكاية الوفد الكسروي | مجلة الرسالة - العدد 542 بمناسبة افتتاح العام المدرسي [[مؤلف:|]] |
مداعبات ← |
بتاريخ: 22 - 11 - 1943 |
أمين سامي باشا ناظر ومدرسة
للأستاذ راشد رستم
(الخطبة التي ألقاها الأستاذ راشد رستم في الاحتفال بعيد
مدرسة الناصرية عن المتخرجين من أبنائها)
لأول مرة وفي أول يوم من أول حياتهم المدرسية صغار، لا يعرف بعضهم بعضاً ولم يجتمعوا في مثل هذا الحشد أبداً، ما تعودوا غير الحرية والانطلاق، واللعب على الدوام - إذا بهم وقوف في صفوف، مجمعين على مواعيد، مفرقين في مواقيت؛ وإذا بهم في فصول وفرق، وإذا بهم في غرف لا يؤذن لهم أن يجلسوا فيها كما يشاءون، وإذا ببعضهم في (عنابر الداخلية) يقضي لياليه بعيداً عن الأهل والإخوان، بعيداً عن الآباء والأمهات
هكذا تنتقل الحياة بهؤلاء الصغار بين ليل ونهار، من حال إلى حال، من فوضى محبوبة إلى تدقيق ونظام
ثم إذا بهم مطلب منهم ألا يلعبوا دون أن يعملوا، بل أن يعملوا دائبين، فسيحملون الأمانة من جيل ويحملونها إلى جيل. . .
تلك حال يواجهها كل تلميذ في سنيه الأولى إذا هو سلم منها في أولها سلست له إلى آخرها، وسار على بركة الله وسبحان الفتاح
وإن هو تعب منها في مبدئها، أتعبته طول وقتها، وهو إذن متبرم منها قلق بها وسبحان الحنان.
فما قولكم في ذلك الصغير الذي يواجه هذه العقبة، ولكنه يمر منها على ضوء طلعة صبوح، وفي صحبة روح يشع منها الاطمئنان إليها! وفي رحاب نفس طيبة تشعرك الرضا بها والسكون إليها!
سادتي
ذلك كان حالنا يوم أن اجتمعنا لأول مرة في رحاب الناصرية
لم يكن (أمين سامي) نبياً ولا ولياً، وما كان رسولاً ولا مبعوثاً إلهياً، ولكنه كان رجلاً، عاملاً، وطنياً. وكان أميناً وكان سامياً. . .
كان أمين سامي طبيعياً، يسير مع الطبيعة في بساطتها، كما يقف معها في دقتها، فلم يكن مرغماً ولا متعسفاً
لم يرغم تلاميذه على غير ما تسمح به طبيعتهم، بل يدرس تلاميذه ويدرس طبيعتهم، ثم يسوسهم ويرشدهم ثم يلقنهم ويوجههم
كان يهيئ لتلاميذه جواً مدرسياً محبوباً، يهيئ لهم نخبة من كرام الضباط والمدرسين، هم في مقام الآباء والمرشدين، يعرفون الفرق العظيم بين (ملف) من شهادات، وكنز من أخلاق
يعرفون أن الخلق مخلوق قبل العلم، وأن التلميذ أخلاق قبل أن يكون علوماً، وأن مصر في حاجة إلى أخلاق
يعرفون أن هؤلاء الشبان الصغار هم هؤلاء الرجال الكبار
يعرفون أن لهم نحو الوطن رسالة وأن عليهم واجباً
وإننا لنفخر إلى اليوم والى الغد والى الأبد بأننا تلاميذ لأولئك السادة الكرام - رحم الله الأولين الذاهبين وأطال الله حياة الحاضرين.
إن (المعهد) أمين سامي كان مخلص النية لتخريج الأبناء أعياناً لمصر، ورجالاً لمصر، ونجوماً في سماء مصر
هكذا كان الغرض وكان الإخلاص، فكان المطلوب وكان المراد
الواقع أننا كنا في مدرسة تشعرنا بأنها تهيئ لنا جميع وسائل العناية بنا
مدرسة نظيفة معنى ومبنى، لطيفة بكل من فيها وما فيها
مدرسة محترمة، تفرض علينا أن نتحلى بكل ما يجعلنا محترمين، تبث فينا الشجاعة والوطنية والإقدام، تشعرنا بأن لنا مستقبلاً وأن علينا واجباً، بل أن المستقبل لنا، وأنه مسؤول منا وأن البلاد تنتظرنا وتنتظر الخير منا.
كان أمين سامي (الرجل) مثالاً لنا بل ولغيرنا في هذا وذاك. كان نبيل الطبع نبيه التطبع، رجولة في أبوة، دقة في رحمة، مهابة في سماحة
كنا نترقبه ونتمنى أن نراه، ونغار منه (دار العلوم) إذا أطال هناك بقاه. . .
كان مثالاً لنا ولغيرنا في معنى النشاط ومداه لم يفارقه النشاط أبداً، فقد كان به مؤمناً؛ بل هو نشاط المؤمن
لم يفقد نشاطه برغم ما شدت عليه الحادثات من فقد العزيز وطول العمر
وكان كلما تقدم في السن سير النشاط وفق السن، فهو لم ينزل عنه وإن سلم بالدرجات فيه
فخره أنه لم يكن عجوزاً ولا عاجزاً، بل كان دائما قادراً ماهراً، ولقد جمعنا حوله في حياته؛ وهاهو اليوم يدعونا فيجمعنا لتخليد ذكراه مثالاً لنا لا ننساه.
هانحن أولاء، أبناء الناصرية، نجتمع اليوم من عهود مختلفات، وسنين متباعدات، ولكن ألا يجمعنا جميعاً ذلك اليوم الذي يرجع بنا إلى عهد جدول الضرب وحصة المحفوظات!
ألا عودوا بنا لحظة إلى تلك العهود
ألسنا نتمناها جميعاً برغم ما كان فيها من رجفات الامتحانات!
السنا نحيا بذكراها اليوم سعداء، وسط هذا العالم المضطرب، وسط هذه الألوان من حياة الانفعالات!
نعم
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
إنما
من عنده لي عهدٌ لا يُضيِّعه ... كما له عهد صدق لا أُضيِّعه
نعم. إننا هنا اليوم مع أبناء اليوم ولكننا هناك في ذلك اليوم
أليس كذلك يا زميل التختة الواحدة؟
أليس كذلك يا زملاء المائدة الواحدة؟
أليس كذلك يا زملاء (العنبر) الواحد؟
أليس كذلك يا زميل (العيش الحاف، والحبس بعد الانصراف)؟
إن للناصرية طابعاً على كل من ورد عليها
وإن لنا لحنيناً إلى تلك الأيام الحلوة برغم (زنزانة) الحبس بالانفراد
إلى تلك الأيام الناضرة، وإن كانت قد ذهبت مع التاريخ في سجل الماضي البعيد، وإن كانت كذلك تنم لنا على ما دارت به معنا عجلات السنين من عدد السنين
وهل في الوجود معنى هو أحب إلى الرجل من عهد الصبا، ولا أسرع بالنفس ذهاباً إليه مهما بعد الحاضر عنه
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا. . .
وأما أنتم يا أولادنا الصغار بل يا اخوتنا الصغار، يا أبناء الناصرية فهي أمنا جميعاً، الآباء والأبناء سواء. أنتم أملها الجديد، ارتبطوا بها وحافظوا عليها
إنكم مخلوقون لزمان غير زماننا، وقد تهيأت لكم ظروف غير ظروفنا، نرجو أن تكون خيراً وأبعد أثراً
على أنه وإن كان لكل زمان ملابساته فإن جواهر الحقائق والفضائل باقية لم تتغير، فالاجتهاد لا يزال محموداً، والإخلاص لا يزال منشوداً، والجهاد لا يزال مفروضاً
أنتِ الغراس ومنك الخير ينتظر ... ما طاب أصل وخاب الفرع والثمر
احملوا الأمانة من جيل وسلموها إلى جيل
سادتي:
هذه هي الناصرية وهذا هو أمين سامي، وهذا هو المورد، وقد كنا ممن استسقى وورد، فشرب وارتوى وحمد
راشد رستم