الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 540/في المسجد الأقصى

مجلة الرسالة/العدد 540/في المسجد الأقصى

مجلة الرسالة - العدد 540
في المسجد الأقصى
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 11 - 1943

2 - في المسجد الأقصى

للدكتور عبد الوهاب عزام

وقفت على شاطئ هذا السيل البشري حيناً ثم رجعت أدراجي إلى صاحبي الكريم في مصلاه، ودخلنا الحجرة التي تواعدنا اللقاء بها فرأيت على بعد خطيب المسجد الأقصى يمر إلى حجرته وهو في حلة خضراء وعمامة صلاحية، وهو زي يتوارثه خطباء المسجد الأقصى من عهد صلاح الدين؛ وهم من بني جماعة الكنانيين توارثوا هذا المنصب منذ القرن السادس إلى يومنا هذا، وإنه لشرف عظيم. كانت خطابة الجوامع الكبيرة منصباً مشرفاً في تاريخ المسلمين. وكثير من علمائنا يلقبون بالخطيب. وكانت هذه المناصب متوارثة يخلف فيها الأبناء الآباء وتحرص الأسر على شرفها، كما كانت في تاريخنا بيوت تعرف بالقضاء وأخرى بالفقه وهكذا. ذهبت إلى حجرة الخطيب فزرته وشرفت بمجالسته قليلاً ثم رجعت إلى حجرة الموعد ووافانا في موعدنا من الزمان والمكان الأستاذ المخلص فسرنا نطوف في أرجاء الحرم. بدأنا بقبة الصخرة ننظر ما كستها الصناعة والتاريخ من حلى أحدثها الرخام المجزع الذي فرغ منه المهندسون المصريون منذ سنوات قليلة. ولست أستطيع أن أحدث عن تاريخ هذه القبة العظيمة منذ شادها عبد الملك بن مروان إلى عصرنا هذا ولا أن أصف هندستها وجمالها وحلاها وأبهتها فقد ضمنت هذا كتب وصور كثيرة. وحسبي أن المقدسي يقول فيها بعد وصفها: (فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت ورئيت شيئاً عجيباً. وعلى الجملة لم أرى في الإسلام ولا سمعت أن في الشرك مثل هذه القبة) وكذلك أقول ما رأيت فيما رأيت من عجائب الأبنية في البلاد الإسلامية أجمل من قبة الصخرة. ويستطيع القارئ أن يرى مثالاً صغيراً ضئيلاً منها في القبة التي على ضريح السلطان قلاوون في القاهرة. ومن عجيب ما رأيت على جدران القبة من الخارج حجة وقف للسلطان برسباي وقف فيها بعض القرى على عمارة بعض الأبنية في الحرم. ولقد سجل وقفه في أطهر الصحف وأبقاها

وبجانب القبة قبة صغيرة ثمينة على مثالها غير أنها لا يحوط أعمدتها جدار. وقد قيل إن عبد الملك طلب أن يبني مثال للقبة قبل أن يشرع في هذا البناء الرائع العظيم النفقة، فبنى له هذا المثال فأعجبه، وبنيت القبة الكبرى على صورته. وقيل بل بنيت القبة الصغيرة من بعد

وهذه القبة الصغيرة مصلى رأيت النساء يصلين فيه يوم الجمعة. وعلى صحن الصخرة وهو الدكة العالية الواسعة التي تتوسط ساحة الحرم الفسيحة قبة أخرى صغيرة جميلة تحتها قبة صغيرة تسمى قبة المعراج. وهناك حجرات أخرى متفرقة في أطراف الصحن

هبطنا إلى الساحة المحيطة بصحن القبة على أحد السلالم المحيطة به. ولهذه الدكة تسع سلالم ذوات درج طويل على كل منها عمد تنتظمه عقود فوقه، ومشينا ذات اليمين نساير السور الغربي من أسوار الحرم وقد توالت بجانبه أبنية تنميها عصور مختلفة، وتخلد عليها ذكرى كثير من سلاطين المسلمين. وحول أسوار الحرم من الداخل والخارج أبنية كثيرة كانت مدارس عمرت بالأستاذين والطلاب زمناً طويلاً، ودرت على المعلمين والمتعلمين بها خيرات كثيرة. وما أحراها اليوم أن تكون مأوى لعلماء من المسلمين يؤمونها من أقطار الأرض فيتداولون الإقامة بها والتدريس بالحرم حيناً! وما أجدر هذا التاريخ بأن يحفظ، وما أخلق هذه الذكريات بأن توعى! وكم اتصلت بهذه المدارس من تواريخ العلماء والأدباء

رأينا فيما رأينا هناك المدرسة الأشرفية التي شادها السلطان الصالح المعمر الذي تشهد له اليوم آثاره في بيت المقدس ومكة والمدينة ومواضع كثيرة في القاهرة - ذلكم السلطان أبو النصر قايتباي رحمه الله. وقد عجبت إذ قرأت فيما قرأت من ألقاب السلطان المنقوشة على البناء لقب (الإمام الأعظم) وما عرفته قبل اليوم لأحد من السلاطين

وقد صعدنا منارة المدرسة على قدمها ونيل الإعصار منها فأشرفنا على مرأى جليل من الجبال والأبنية القديمة والحديثة كأنما أشرفنا على عصور من التاريخ. وعلى مقربة من المدرسة سبيل جميل للأشراف برسباي من سلاطين المماليك. وقد جدده السلطان قايتباي سنة ثمان وسبعين وثمانمائة، ثم السلطان عبد الحميد العثماني وقد سمي في الكتابة التي على السبيل بالخليفة الأعظم. وفي ساحة الحرم كثير من السبل والآبار الجميلة

وانتهى بنا السير مع هذه الآثار والذكر إلى التكية البخارية وهي التي اتخذت متحفاً إسلامياً، بعد أن ضم إليها قسم من مسجد النساء الذي يأتي ذكره. صفت في مدخل المتحف، وبداخل التكية، رءوس من العمد القديم التي كانت بالمسجد الأقصى ونقوش وحلى وكتابة من آثار العصور الماضية. وفي البهو الواسع الذي اقتطع من المسجد آثار قليلة جليلة صغيرة في العين كبيرة في القلب، هي كسلاح البطل المجاهد؛ عدة قليلة تحدث أخبار طويلة، وسيوف ورماح وهي عنوان لتاريخ من الكفاح. رأينا فيما رأينا المصحف الذي كتبه بخطه السلطان عبد الحق من سلاطين بني مرين بالمغرب. وقد كتب هذا السلطان التقي بيده ثلاثة مصاحف أهداها إلى المساجد الثلاثة في مكة والمدينة وبيت المقدس.

ورأينا في المتحف سيف الشيخ شامل المجاهد الذي أبلى أحسن البلاء في الدفاع عن البلاد الإسلامية في القوقاز. كما رأينا على الجدار عباءة بها خروق. فأما العباءة فعباءة البطل المقدام، والعربي الحر الأبي سلطان باشا الأطرش. وأما الخروق فآثار الرصاص من دبابة فرنسية هجم عليها هذا الأسد في إحدى ثوراته. فليت شعري أي خلة أشرف من هذه العباءة، وأي وسام أجل من هذه الثقوب. لقد أحسن الذي حفظوا سيف شامل وعباءة الأطرش في المتحف الإسلامي من المسجد الأقصى، وإنها لعبرة. ورأينا بعد مصابيح من الآثار الأيوبيين، وقدوراً عظيمة من آثار العثمانيين، ونفائس أخرى لا يتسع لذكرها هذا المقال

ثم اطلعنا على دفتر الزيارة فرأينا توقيعات كثير من الزوار بينها خط الملك فيصل رحمه الله، وقد كتب هذه الآية الكريمة (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله). وقد رأينا الآية نفسها على باب السكينة من آثار السلطان قايتباي.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام