مجلة الرسالة/العدد 540/حكاية الوفد الكسروي
→ من ليالي الفردوس | مجلة الرسالة - العدد 540 حكاية الوفد الكسروي [[مؤلف:|]] |
الشعر المرسل وشعراؤنا الذين حاولوه ← |
بتاريخ: 08 - 11 - 1943 |
6 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
يقول عامر بن الطفيل: (وبالحري إن أدالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث لنا أمور لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر. . .)
فمن يعني منشئ (المقامة) بما سطر؟ ومن ذا الذي ستلف الأحياء عليه، وتنقاد له؟
أغلب الظن أنه أومأ إلي ما أعلنه سطيح الذئبي وشق الأنماري وسيف بن ذي يزن. وإن قصد الصائغ عامر بن الطفيل استناداً إلى الروايات من نوع خبرة رويت فقد أبعد في ضلاله. وهذه نبذ مما زخرفوه لعامر تملى طرفا وأفاكيه:
(كان أبو علي عامر بن الطفيل من أشهر فرسان العرب بأساً ونجدة وأبعدها اسما حتى بلغ أن قيصر ملك الروم كان إذا قدم عليه قادم من العرب قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإن ذكر نسبا عظم عنده، حتى وفد عليه علقمة بن علاثة، فانتسب له، فقال: أنت ابن عم عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة وقال: ألا أراني أعرف إلا بعامر؟ فكان ذلك مما أوغر صدره عليه وهيجه إلى أن دعاه إلى المنافرة. . .)
(قدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله (ﷺ) وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم. قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي. أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش. . .)
(قدم عامر بن الطفيل على النبي ﷺ، وقدم معه أربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة العامري الشاعر لأمه، فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال: دعه، فإن يرد الله به خيراً يهده. فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد، مالي إن أسلمت؟
قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم
قال: تجعل لي الأمر بعدك
قال: لا، ليس ذاك إلي، إنما ذلك إلى الله (تعالى) يجعله حيث يشاء
قال: فتجعلني على الوبر، وأنت على الم قال: لا
قال: فماذا تجعل لي؟
قال ﷺ: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها
قال: أو ليس ذلك إلى اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن قيس: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف. فجعل عامر يخاصم رسول الله ويراجعه، فدار أربد خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله (تعالى) فلم يقدر على سله. وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: اللهم، اكفنيها بما شئت. فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هارباً، وقال: يا محمد: دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتيانا مرداً. فقال رسول الله: يمنعك الله من ذلك وابنا قيله، يريد الأوس والخزرج، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضم عليه سلاحه، وخرج وهو يقول: واللات لئن أصحر إلى محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي. فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه. . .
ذلك مما زخرفوه لعامر. ولقد كبر الرواة ابن الطفيل كثيراً، وأقعدوه فوق مرتبة عالية، وتنوقوا في صبغه وتلوينه ولكن الحق ينزله، التحقيق يزيل عن وجهه كل صبغ وتزويق، فقد أخبروا أن سبب المنافرة إنما هو مهاترة كانت بين عامر وعلقمة لا أن قيصر قال ما قال. ولما ذهبا إلى هرم بن قطبة بن سنان الفزاري ليقضي بينهما؛ قال هرم لعامر: (أتفاخر رجلاً لا تفخر أنت ولا قومك إلا بآبائه؟ فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: ناشدتك الله والرحم ألا تفضل علي علقمة، فوالله إن فعلت لا أفلح بعدها. هذه ناصيتي جزها واحتكم في مالي، فإن كنت ولابد فاعلاً فسو بيني وبينه)
وعلقمة إنما ذهب إلى الروم ودخل على ملكهم - إن صح الخبر - في زمن عمر (وقد كان شرب الخمر فضربه (رضى الله عنه) الحد، فلحق بالروم فارتد، ثم رجع فأسلم)، وعامر هلك في أيام النبي (صلوات الله وسلامه عليه)
وكان عامر فاجراً جائراً، وسماه مسهر بن زيد الحارثي (مبير قومه) وأراد يوم (فيف الريح) قتله، وأراحتهم منه، فوجأه بالرمح في وجهه، ففلق الوجنة، وانشقت عين عامر ففقأها، وترك مسهر الرمح في عينه. وقيل: إن عامراً وثب عن فرسه، ونجا على رجليه، وأخذ مسهر رمح عامر. وفي رائية عامر - وهي مفضلية -:
لعمري وما عمري عليَّ بهيّن ... لقد شان حرَّ الوجه طعنة مسهر
ولمسهر شعر في طعنته هذه رواه (العقد) في (يوم فيف الريح) وقد قال مسهر فيه: إنهم أخذوا امرأة عامر بن طفيل
(وقد كان بنو عامر أخذوا امرأة من بني عبس، فما لبثت عندهم إلا يوماً واحداً حتى استنقذها قومها، وفخر عامر بن الطفيل بذلك، وذكر أخذه إياها)
أبمثل هذه (البطولة) يفخر الفاخر، وهل لعامر أن يقول يقظان أو وسنان: (والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش) كما قص ابن إسحاق ونقل ابن هشام وابن جرير تقول (السيرة) لأبن هشام:
(. . . بعث رسول الله (ﷺ) المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين. إلى أهل نجد فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم - فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله،. . . واستصرخ عليهم قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان. . . فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قبلوا من عند آخرهم يرحمهم الله. . .)
فإذا صح ما نقل ابن هشام فكيف تجاسر عامر بن الطفيل أن يفد على رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) كافراً، لم يسلم، سافكاً دماء من سفك دماءهم من المسلمين، وقد دانت العرب للنبي، وقد ملك (الجزيرة) ثم يريد أن يقدم هو وأربد على ما نوياه، وحول رسول الله من هم حوله من أبطال الإسلام، ثم يطمع ذاك المطمع، ويغضب ويهدد، ثم يرجع وصاحبه في ذلك اليوم سالمين
لقد بالغ الصواغون في تزويق عامر وتلوينه وتشكيله وتكبيره، والتلوين حائل، والباطل زائل 5 - بعث منشئ المقامة الحارث بن عباد من مرقده، وأصحبه الوفد، وقد درج الرجل قبل أن يؤمر النعمان قومه ويعمله سلطانه بخمسة عشر حولاً كما تحقق ذلك المحققون، فلم يقل الحارث لكسرى: (العرب تعلم أني أبعث الحرب قدما. . . حتى إذا جاشت نارها. . . جعلت مقادها رمحي وبرقها سيفي ورعدها زئيري، فأستمطرها دماً وأترك حماتها (جزر السيوف وكل نسر قشعم)) وجزر السيوف الخ مقتبس من الطويلة المنسوبة إلى عنترة بن شداد وقد استبدلت (السيوف) في (المقامة) بالسباع. وكانت وفاة الحارث المقتبس قبل وفاة عنترة بثلاثين سنة. وإن كانت تلك الطويلة الميمية إسلامية حمادية فبين الوفاتين دهر طويل. . .
(ن)