مجلة الرسالة/العدد 54/وفاء الطائر
→ نقابة للأدباء الشبان | مجلة الرسالة - العدد 54 وفاء الطائر [[مؤلف:|]] |
من الشعر المنثور ← |
بتاريخ: 16 - 07 - 1934 |
للآنسة أسماء فهمي
درجة شرف في الآداب
امتقع وجه الشمس، وخبَت أشعتها، وعلاها اصفرار، وأصابتها رعشة، وغشي الأفق حمرة الوجد في ساعة الغروب، ثم وجمت الطبيعة، واطمأن الجدول في سيره، ورق النسيم واستولى على الكائنات شعور منقبض حزين. . .
ثم حالت نضرة الحقول في الأصيل؛ ونظر الناس إلى الشمس الغاربة فآثروا الرواح، وتململت الماشية، وقلق الصغار، فسارع القرويون إلى جمع شتات أدواتهم من فؤوس وسلاّت، وامتطوا دوابهم فصارت تعدو بهم يدفعها الحنين والشوق إلى الدار بعد نصب النهار؛ وسرعان ما ازدحمت بالعائدين الطرق والمسالك الموصلة إلى القرية. وكلهم مفتون بروعة المساء، الإنسان والحيوان في ذلك سواء. . .
وأمام الدور في القرية تجمهرت النساء والأطفال، وسرت الحياة في الأرجاء، وتطاولت الأعناق لإجتلاء طلعة القادمين كما لو أن أمد الشوق والفراق قد طال. . .
والطير لمحت بدورها احتضار الشمس من بين الأغصان، فتبادلت النظرات، وتجاوبت بالأغاريد كأنها تذكرت أمراً ذا بال، وسرعان ما جمعت جموعها وغادرت أسرّة الأغصان، وحلقت في الفضاء أسراباً تندفع اندفاعاً نحو العش بقوة الحنين وعزم الجناح. . والحق ليس هناك أروع من منظر الطير، يدفعها الحنان نحو العش فلا تعود تأبه بتدليل الغصن ولا بجمال الزهر ولا بوفرة الحَب، ولا بالمرح والتغريد. . .
ولكن طائراً جميلاً يمتاز بقوة تغريده وشدة جرأته، وتدفق مرحه وحيويته، أغرته أكوام القمح الذهبية فترك أفنان الشجر وكاد يقع في شراك الفلاح لولا أن أنقذته سرعة قفزه، فنجا بأعجوبة بعد أن أصابه خدش في الجناح. ولم يدر الطائر لشدة فرحه بالنجاة حقيقة ما أصابه إلاّ عندما حان ميعاد الرحيل للعش، وناداه الرفاق فرفرف بجناحيه وفاضت نفسه بنشوة الحنين، ودفع جناحيه محاولاً أن يأخذ مكانه في مقدمة السرب، ويكون كعادته أول من تضمه أحضان الوكر. . . وصاح صيحة الطرب، واندفع إلى الأمام كالسهم، ولكن لم يلبث أن أخذ منه الجهد، إذ اتسعت شقة الجرح. فترنح في سيره، وأخذ يدور حول نفسه ثم استسلم لجاذبية الأرض. . وسرعان ما استحال طيرانه إلى قفز. . ونظر أمامه فوجد السرب قد توغل في الفضاء فداخله الهم، ولكن بقي لديه شيء من الأمل الذي كانت تحمله إليه بقايا أسلاك الشمس الغاربة، فصار يتعلق بها كما بتعلق الغريق بالأعشاب الطافية على وجه اليم. . على أن شعاع الأمل سرعان ما انطفأ مع أشعة الشمس، وانتشر الظلام في الأرجاء، وتسربل الكون بحلة سوداء. . والطائر المسكين لا يزال بعيداً عن العش، بينما الطيور الأخرى كانت في تلك الآونة تنعم بدفء الوكر وحنان الأهل، وتستقبل الظلام في هدوء واطمئنان؛ والناس والماشية بلغوا مستقرهم، والليل يهمس حولها: نعم عقبى الدار. . .
أخذ الطائر الشريد يسير على غير هدى في دياجير الظلام واليأس - يرتطم بالحوائط والجدران والأشجار، ويتعسر في الوحل والشوك، وقد كان في وسعه لو أراد أن ينزوي في ركن من الأركان، أو يقضي الليل فوق غصن من الأغصان، ولكنه لم يشأ أن يتخذ عن عشه بديلاً، بل آثر الجهد والنصب آملاً أن تسوقه الأقدار بعد طول السهاد إلى العش الوثير المحبوب. . . واستحالت في نظره حرية الفضاء إلى سجن قاتم، وجمال الشجر إلى قبح دميم، ونفح النسيم إلى شواظ من نار، وأنسى الطائر فقد العش كل ما كان ينعم به من لذة ومتعة وشدو، طليقاً في سماء الصفاء والجمال. . .
وبقي على تلك الحال من القلق والاضطراب إلى أن قاده الحظ العاثر إلى كوخ فلاح ينبعث منه نور ضئيل، فاندفع إليه في ساعة يأسه وحيرته دون تفكير. وهاجت الأطفال وماجت عند ما رأت وسطها الطائر الجميل، واجتهدت في حصاره وإلقاء القبض عليه، فاشتد هلع الطائر وقاوم مقاومة الأبطال، ولكن آلام جرحه اشتدت، وازداد تخبطه وتكرر سقوطه، وأخيراً وقع في الميدان صريعاً، فهجمت عليه الأعداء، ولكن سرعان ما تراجعت ووقفت مبهوتة صامتة مأخوذة برهبة الموت. . .
ولم يعلم الأطفال والكبار شيئاً عن سر دخول الطائر في ظلام الليل، ولو علموا سبب حيرته واضطرابه، وأنه قاوم القدر وأبى أن يهجع في غير العش الرؤوم إخلاصاً منه وولاء، لنثرت عليه الزهور والرياحين، ولشغل مكاناً من القلب أسمى من المكان الذي يشغله آلاف الناس - الذين لا يتعصبون في الحياة لأمر، ولا يتطرفون في الغرام بشيء، ولا يفضلون داراً على دار. . بل قد لا يعبأون أن تضحّي سعادة أوطان بأكملها. . . بينما يموت طائر صغير شهيد الوفاء للعش. . .
أسماء فهمي