مجلة الرسالة/العدد 54/من رائع عصر الأحياء
→ مجهولو الأبطال | مجلة الرسالة - العدد 54 من رائع عصر الأحياء [[مؤلف:|]] |
الامتيازات الأجنبية والضرائب ← |
بتاريخ: 16 - 07 - 1934 |
2 - من رائع عصر الأحياء
حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه
مثل أعلى للترجمة الشخصية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم ينعم بنفونوتو تشلليني بالسكينة طويلاً بعد الحوادث العاصفة التي خاضها، وبعد أن فقد عطف البابا وحمايته. وفي ذات يوم وقعت مشادة بينه وبين صديق قديم من مواطنيه كان برومة وكان يدينه بشيء من المال، وسبه ذلك الصديق بألفاظ جارحة، فغلب عليه عنفه المعهود وضربه في رأسه بحجر فسقط مغشياً عليه. وأبلغ الحادث إلى البابا، فأمر بالقبض على تشلليني وشنقه في مكان الجريمة. ولكن تشلليني شعر بالخطر الذي يهدده، واستطاع أن يفر من رومة في الوقت المناسب. وقصد إلى نابولي، وأقام بها حيناً، واتصل بدوقها وحظي بعطفه ورعايته؛ والتقى هناك بحبيبته انجليكا الصقلية. ثم وصله خطاب من الكردينال دي مديتشي حاميه القديم يأمره فيه بالعودة سريعاً إلى رومة؛ فسافر إليها في الحال ومعه انجليكا؛ واستقبله الكردنيال بترحاب وطمأنه على نفسه وحريته؛ وبعد أيام قلائل استطاع أن يزور البابا كلمنضوس، وأن يقدم إليه (مدالية) بديعة من صنعه، ثم سأله الصفح والرعاية بكلمات رقيقة؛ فأعجب البابا بهذه التحفة، وأمره أن يصنع له تحفاً أخرى تمثل بعض مناظر التاريخ المقدس، ووعده بالعفو والرعاية. ولكن البابا لم يعش طويلاً ليحقق وعده، ومرض وتوفي بعد أيام قلائل؛ وحدث على أثر موته ذلك الاضطراب الذي يحدث عادة قبيل انتخاب البابا الجديد؛ ولبث بنفونوتو يرقب الفرص؛ ولكنه ارتكب في تلك الأثناء جرماً جديداً، وقتل رجلاً آخر من رجال البطانة يدعى بومبيو تحرش به ذات يوم بكنيسة القديس بطرس، فسار إليه ولقيه على مقربة من منزله وطعنه بخنجره بين أصدقائه وأعوانه فألقاه صريعا. ويقص علينا تشلليتي هذا الحادث الدموي وأمثاله في عبارات صريحة هادئة، كأنها حوادث عادية لا خطورة فيها، ويصور لنا بذلك مبلغ اضطرام نفسه، ومبلغ استهتاره بالحياة البشرية
وانتخب الكردينال فارنيسي لكرسي البابوية باسم بولس الثالث، وعهد إلى تشلليني ب نماذج نقوده، وأعطاه عهداً بالأمان. ولكن جماعة من خصومه وأصدقاء بومبيو القتيل لبثوا يدسون له لدى السينور بير لويجي ولد البابا حتى اعتزم القبض عليه، ولكن بنفونوتو علم بهذه المؤامرة في الوقت المناسب ففر إلى فلورنس، وأقام بها حيناً يخدم أميرها الدوق الساندرو دي مديتشي. وهنالك أصابه حمى شديدة كادت تقضي عليه؛ فلما برئ من مرضه، عاد إلى رومة بعد أن استيقن أنه لم يبق ثمة ما يخشاه من كيد خصومه. وكان البابا يستعد في ذلك الحين لاستقبال الإمبراطور شارلكان، فعهد إلى تشلليني بعمل صليب بديع من الذهب المرصع بالجواهر ليهدى إلى الامبراطور، وتحلية كتاب للصلاة ليهدى إلى الإمبراطورة. ويصف لنا تشلليني هذه الزيارة التاريخية، وكيف شهد استقبال البابا لإمبراطور، وقدم إليه الكتاب المرصع وخاطب جلالته بفصاحة وجنان ثابت، وكيف عكف بعد زيارة الإمبراطور على صقل جوهرة بديعة أهداها الإمبراطور للبابا وتركيبها في خاتم بديع الصنع. وكان تشلليني دائماً هائم الذهن والخيال، يهوي التنقل والمخاطرة، فما كاد ينتهي من صنع التحف البابوية حتى اعتزم تنفيذ مشروع قديم عنده، هو السفر إلى فرنسا
وسرعان ما نفذ عزمه، وسافر إلى فرنسا بطريق سويسرا وألمانيا، مع خادم فتي يدعى اسكانيو. ولما وصل إلى باريس سعى لرؤية فرنسوا الأول ملك فرنسا، فاستقبله بترحاب في فونتنبلو؛ وسافر بنفوتوتو في ركبه إلى ليون؛ وهنالك مرض ولزم فراشه، وأصابت الحمى فتاة اسكانيو؛ فكره المقام في فرنسا، وعول على الرجوع إلى رومة، وغادر فرنسا في أول فرصة، فوصل إلى رومة بعد رحلة شاقة؛ وافتتح له حانوتاً كبيراً فخما، واستأنف عمله، واتسعت موارده؛ ولكنه لم يكن يتمتع بذلك العطف البابوي القديم الذي كان يستظل برعايته وحمايته؛ وكان القدر من جهة أخرى يهيئ له أروع مفاجأة عرفها في حياته. ذلك أنه كان يستخدم عاملاً من بروجيا، وكان يدينه ببعض المال؛ ففر الرجل من حانوته ولم يؤد ما عليه، فطالبه بنفونوتو بواسطة القضاء وحصل على حكم بحبسه؛ فاستشاط الرجل غيظاً واتصل ببعض أتباع السينور بير لويجي ولد البابا وكان يعرف عندئذ بالدوق كاسترو، وأفضى إليه أن تشلليني يملك ثروة طائلة من الجواهر، وأن هذه الجواهر إنما هي من جواهر الكنيسة، سرقها تشلليني وقت الحصار حينما كان في حصن سانت انجيلو؛ وإنه يجب القبض عليه قبل أن يفر مرة أخرى. فأثمرت هذه السعاية ثمرها؛ وفي ذات صباح جاء ضابط الشرطة مع سرية من الجند إلى حانوت تشلليني، ونبأه الضابط بأنه أضحى سجين البابا، وأنه مكلف بأخذه إلى حصن سانت انجليو حيث يعتقل الأكابر والرجال الممتازون؛ ثم أحاط به عدة من الجند، وجردوه من سلاحه، ثم اقتادوه إلى الحصن، وهنالك ألقي إلى غرفة في البرج الأعلى؛ وكانت هذه أول مرة يذوق فيها مرارة السجن، وكان يومئذ في السابعة والثلاثين
كان حصن سانت انجيلو في ذلك العصر أمنع معاقل رومة؛ ولا يزال الحصن الشهير قائماً على مقربة من قصر الفاتيكان وميدان القديس بطرس، على ضفة نهر تفيري؛ يشهد بطرازه العجيب ومناعته الخارقة بما انتهت إليه هندسة القلاع في العصور الوسطى من الأحكام والتقدم. ولقد أتيح لكاتب هذه السطور أن يزور حصن سانت انجيلو مراراً وأن يتجول في أقبيته ومخادعه المظلمة، وأن يرقى إلى أبراجه الشاهقة، وأن يتأمل طويلاً في جنبات ذلك الأثر المدهش، وهو اليوم يستعمل متحفاً حربياً تعرض في طابقه الأول أسلحة العصور المختلفة، ولكن طبقاته العليا لا زالت خالية تعرض لنا بعض الآثار الغربية، وأخصها الجناح الذي كان يسكنه البابوات كلما التجئوا إلى الحصن، وغرفة نوم البابا بولس الثالث وسريره وكرسيه. على أن أروع ما في الحصن مخادعه المنيعة الواقعة في الجهة الخلفية، وهاوياته السحيقة التي تنساب إلى أعماق مظلمة لا يدرك غورها. وهنالك مخادع معينة، اشتهرت على كر العصور بمن زج إليها من العظماء والسادة؛ فهذا مخدع تقول الرواية إنه هو الذي سجن فيه بنفونوتو تشلليني؛ وهذا مخدع تقول انه هو الذي زج إليه جاليليو، وآخر زج إليه جوردانو برونو وهكذا؛ ولقد لبث هذا الحصن المروع عصورا سجنا لمحاكم التحقيق (التفتيش)، وكان مقبرة لكثير من العلماء والأحبار الذين قضوا نحبهم فيه ضحية المطاردة الدينية؛ ولا يزال السائح المتفرج يشعر فيه برهبة تلك العصور وروعتها
زج بنفونوتو تشلليني إلى مخدع في البرج الأعلى، لا تزال تعينه لنا الرواية حتى اليوم؛ ولبث ثمانية أيام منسياً لا يفاتحه أحد بشيء، وفي اليوم التاسع قدمت إلى السجن لجنة من ثلاثة على رأسها حاكم رومة، ووجهت إلى تشلليني تهمة اختلاس مقدار من الحلي الرسولية وقت أن كان يعمل أيام الحصار بمدفعية الحصن، وأسر إليه البابا كليمنضوس أن ينتزع الحلي الرسولية من اطاراتها؛ وأن قيمة هذه الحلي قدرت بمبلغ ثمانين ألف جنيه (كرونا)، وأن عليه أن يردها أو يرد قيمتها، وإلا فانه يترك ليرسف في سجنه. وعبثاً حاول تشلليني أن يقنع اللجنة ببراءته، وأن الحلي الرسولية مرصودة في دفاترها فلتراجع فيها، وأن دفاتره رهن تصرف اللجنة لترى أنها في منتهى الدقة، وأنه قد خدم الكرسي الرسولي بفنه وإخلاصه مدى أعوام طويلة، فلا يحق أن يجزي ذلك القصاص. ولما نقل دفاعه إلى البابا أمر بمراجعة الحلي على قوائمها فوجدت تامة لا ينقصها شيء. ومع ذلك ترك تشلليني يرسف في سجنه؛ وكان البابا يحمله سعي بطانته، قد أصبح يرى في تشلليني رجلاً شريراً يجب التنكيل به؛ وزاد حنقه عليه أن رسولا جاء إلى رومة من قبل فرانسوا الأول ملك فرنسا يسعى في إطلاق سراح تشلليني، ورد على السفير بأن تشلليني رجل شرير، لا يستحق اهتمام جلالته. وكان محافظ الحصن رجلا طيب القلب فلورنسياً من مواطني تشلليني، فعمل على تخفيف وطأة سجنه، وتركه في الحصن حراً طليقاً يتجول فيه كيفما شاء مكتفياً بعهده ألا يحاول الفرار؛ وكان تشلليني ينفق وقته في التجوال بالحصن وصنع بعض الحلي التي يأتيه بها فتاه المخلص اسكانيو، وكان يسمح له بزيارته وبأن يحمل إليه ما شاء. ويقول لنا تشلليني أنه لم يشأ أن يفكر في الفرار لولا أن حادثاً وقع في السجن وحمل تبعته، وهو أن قساً زميلاً له سرق منه قطعة من الشمع الذي يتخذ منه نماذج للحلي، وطبع عليها مفتاح غرفته ليحاول صنعه ثم الفرار فيما بعد، ولكنه ضبط واعتقد المحافظ أن تشلليني شريك في هذا العمل، فأمر باعتقاله في غرفته وألا يبرحها بعد، وشدد عليه الخناق، ولم يحله من هذه القيود إلا بعد أن أقنعه تشلليني ببراءته؛ وهنا أدرك تشلليني خطورة موقفه، وأيقن أنه سيبقى عرضة لهذه المفاجآت الخطرة؛ إذا قضي عليه بالبقاء في هذا الأسر؛ ونمى إليه أيضاً أن البابا يصر على اعتقاله، وأن مساعي الملك فرانسوا في سبيله لم تثمر شيئاً، فأخذ يفكر في مصيره ويرى ألا نجاة له من تلك المحنة إلا بالفرار
وزاده عزماً على الفرار حادث جديد وقع بينه وبين المحافظ. ذلك أن المحافظ كانت تنتابه في بعض الأحيان أعراض جنون غريب فيتصور أنه ضفدعة أو وطواط، أو يتصور أنه ميت يجب أن يدفن، ففي ذات يوم من أيام جنونه سأل بنفونوتو هل بفر ويطير إذا استطاع، فأجابه بنفونوتو، إنه إذا أطلقت له الحرية، فانه يصنع لنفسه أجنحة يطير بها؛ وعندئذ أقسم المحافظ أنه سيعتقله كرة أخرى ويشدد عليه الحراسة؛ وفي الحال نفذ وعيده، وزج بنفونوتو إلى غرفته، ووضع تحت الرقابة الصارمة. ومن تلك الساعة أخذ بنفونوتو يدبر وسائل الفرار، وكان خادمه اسكانيو قد حمل إليه أغطية جديدة لفراشه، فمزقها شرائح وجعل منها حبلا طويلا، وكان لديه أيضاً خنجر، ومقبض حديدي كبير سرقه من نجار الحصن، فخبأ هذه الأشياء في مرتبته؛ وبدأ يعمل لانتزاع المسامير الغليظة التي تثبت بها مفاصل الباب، ويغطي مكانها بشمع قاتم حتى لا يكتشف أمره؛ وأنفق في هذا العمل جهداً كبير حتى انتهى منه. وفي ذات ليلة اشتدت فيها النوية على محافظ الحصن واجتمع حوله معظم الحرس، اعتزم أمره. ويصف لنا تشلليني فراره في عدة صحف ساحرة رائعة كنا نحب أن ننقلها بنصها لولا ضيق المقام. وقد بدأ بأن دعا الله بحرارة أن يرعاه وينقذه. ثم رفع مفاصل الباب وعالجه حتى استطاع الخروج، وثبت الحبل المصنوع من شرائح الأغطية بنتوء في سور البرج وأدلاه، وعاد فرفع بصره إلى السماء قائلا: (رباه، إنك تعلم عدالة قضيتي، فاشملني برعايتك)؛ ثم أمسك بحبله وتدلى حتى وصل إلى الأرض من ذلك العلو الشاهق؛ وظن أنه غداً حراً طليقا، ولكنه كان في الساحة الداخلية يفصله عن الخارج سوران كبيرا. بيد أنه لم ييأس، ورفع قطعة كبيرة من الخشب كانت ملقاة هنالك على السور الأول وتسلقها حتى القمة، ثم تدلى بحبل صغير كان معه إلى الساحة الأخرى؛ وهنالك رأى أحد الحراس على مقربة منه فاعتزم أن يسحقه، وقصده شاهرا خنجره، ولكن الحارس ولاه ظهره؛ ثم تسلق السور الآخر؛ وهنا خانته قواه قبل أن يصل إلى الأرض فسقط من ارتفاع، واصطدمت رأسه بالأرض وأغمي عليه، ولكنه كان عندئذ خارج الحصن.
يقول تشلليني (وقد كان النهار يسفر، فهب على الهواء الصبوح الذي يسبق بزوغ الشمس، ورد إلى حواسي؛ ولكن صوابي لم يعد تماماً، وخيل لي أن رأسي قد فصل، وأنني انحدرت إلى عالم العدم، ثم عادت إلى قواي شيئاً فشيئا، وأيقنت أني غدوت خارج الحصن، وتذكرت في الحال كل ما وقع، وشعرت بجرح رأسي قبل أن أشعر بكسر رجلي، وذلك حينما مسستها، ورأيت يدي قد خضبتا بالدماء، بيد أني رأيت بعد فحصها أن الجرح لم يكن خطيرا. ثم أردت النهوض، وعندئذ رأيت ساقي قد كسرت مما يلي الركبة؛ ولكني لم أيأس، واستخرجت خنجري من غمده وألقيت الغمد، لأنه كان ينتهي بكرة كبيرة، وهي التي اصطدمت بساقي وكسرتها، وقطعت بخنجري قطعة من القماش وضمدت ساقي؛ وأمسكت خنجري بيدي وزحفت على أربع نحو باب المدينة؛ وكان الباب مغلقاً، ولكني رأيت تحته حجراً، فأزحته فتحرك، فدفعته ونفذت من الخرق إلى داخل المدينة. وكان بين الحصن والمدينة نحو خمسمائة خطوة؛ ولما دخلت المدينة هجم علي عدة من الكلاب، وأخذت تلاحقني وتعضني عضاً أليما، فسحبت خنجري وطعنت أحدها طعنة نجلاء جعلته يصيح محتضرا، فالتف باقي الكلاب حوله؛ وأسرعت زاحفاً على اليدين والركبتين نحو طريق (القديس بطرس) (الكنيسة)؛ وكان النهار قد أسفر، وشعرت بالخطر الذي يهددني. وهنا قابلت سقاء وراء حماره المحمل بالقرب؛ فناديته، ورجوته أن يحملني إلى شرفة سلم القديس بطرس، وقلت له إنني شاب فررت من نافذة صاحبتي، فكسرت ساقي؛ ولما كان المنزل الذي اقتحمته منزل أسرة كبيرة، فإني في خطر القتل؛ ووعدته بأن أعطيه ديناراً من الذهب وأريته كيسي المنتفخ؛ فحملني في الحال على ظهره وسار بي إلى ميدان القديس بطرس ووضعني عند الشرفة، وعاد مسرعاً إلى حماره)
واستمر تشلليني في زحفه قاصداً إلى منزل قريب لأميرة يعرف أنه يستطيع الالتجاء إلى حمايتها هي زوجة الدوق الساندرو مديتشي؛ ولكن رآه عندئذ أحد حشم الكردينال كرنارو الذي يقع قصره في ذلك المكان وعرفه، فهرول إلى الكردينال ونبأه، فأمره بحمله. فلما رآه هدأ روعه وطمأنه، واستدعى الطبيب لعلاجه. وذاع نبأ الحادث في روما، فاهتز الشعب الروماني دهشة وإعجاباً لهذه الجرأة. وذهب الكردينال كرنارو مع بعض زملائه إلى البابا وسألوه الصفح عن ذلك الرجل الموهوب، فأجاب بالعفو ووعد الإثابة. ولكنه طلب إلى كرنارو فيما بعد أن يسلمه تشلليني ليقيم عنده في أحد الغرف السرية، فاضطر كرنارو إلى تحقيق رغبته لكي يحقق له بعض مصالحه، وكانت نيات البابا نحو تشلليني غامضة؛ وحمل تشلليني إلى القصر البابوي، واعتقل هنالك عدة أيام؛ وفي ذات مساء قدمت إلى غرفته سرية من الجند وحملته إلى حصن سانت انجلو، وألقته في مخدع صغير يطل على إحدى الساحات الداخلية؛ وبذا رد إلى سجنه المروع كرة أخرى، وغاضت كل آماله في الخلاص، وغلبت عليه الروعة والاستكانة. يقول تشلليني: (وكان قبس ضئيل من النور ينفذ إلى غرفتي التعسة من ثقب صغير مدى ساعة ونصف في كل يوم، فلا أستطيع القراءة إلا في هذه الفترة؛ أما باقي النهار والليل فكنت أمكث صابراً في الظلام، لا يفارقني التفكير في الله وفي ضعفنا الإنساني. وكنت على يقين من أنه لن تمضي أيام قلائل حتى أقضي نحبي في هذا المكان وفي هذه الظروف. بيد أنني كنت أروح عن نفسي ما استطعت ذاكرا أن الموت بضربة من سيف الجلاد أشنع من ذلك وأفظع، هذا بينما أستطيع الموت هنا هادئاً كأنني في غفوة النوم. وشعرت شيئاً فشيئاً أن لهب حياتي يخبو، حتى اعتاد جسمي البديع على ذلك الانحلال، وحتى شعرت أنه اطمأن إلى تلك الظروف التعسة؛ واعتزمت أن أحتمل آلامي المروعة في سكينة وجلد ما بقي لي شيء من قوة الاحتمال). وكان ذلك لعام ونصف من اعتقاله الأول، أعني في منتصف سنة 1539.
(الخاتمة تأتي)
محمد عبد الله عنان المحامي