مجلة الرسالة/العدد 54/جائزة الأدب الكبرى
→ يقظة الهوى | مجلة الرسالة - العدد 54 جائزة الأدب الكبرى [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 16 - 07 - 1934 |
هنري دو منترلان
بقلم علي كامل
لمحة عن أدبه وفنه
منحت الأكاديمية الفرنسية جائزة الأدب الكبرى للكاتب الشاب هنري دو منترلان، فارتفع بذلك اسمه إلى مصاف أكبر الكتاب الفرنسيين المعاصرين، وتنبهت الأذهان إلى الطابع المخصوص الذي يمتاز به أدبه كفن من فنون القصة الفرنسية الحديثة:
وهنري دو منترلان كاتب من كتاب الشباب الذين تفتحت عيونهم على ضوء هذا القرن العشرين. ولد عام 1896، ودخل مدرسة سانت كروا دو نوبيي. ولما شبت الحرب الكبرى خرج من المدرسة ليشترك فيها وجرح جروحا بليغة. وكان طبيعياً أن يعود منترلان وقد ملأت نفسه نزعة التشاؤم والثورة، فقد هجر مدرسته ليخوض غمار المجزرة البشرية الكبرى وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، فعانى فيها أشهرا من الحرمان والتضحية لم يجد لهما مبرراً أمام عقله الذي يفكر وقلبه الذي يحس، كما يفكر ويحس كل أديب فنان ينزع نحو مثل عليا في الحب والرحمة والأخاء
عاد منترلان من الحرب ضائع العزم محطم الآمال. وكان استعداده الأدبي قد ابتدأ يتفتح على ضوء تجاربه ومحنه السابقة، فانصبت آلامه وثورته في أدبه تلمسها من بين خفايا السطور، وكانت إنسانيته الحزينة تدفعه - كغيره من كتاب الشباب الذين خاضوا غمار الحرب - لوصف أهوالها وما جرته وراءها من التدهور الأخلاقي والفكري. كذلك فان (أنانية الفنان) التي تغمره كانت تأبى عليه أن يضحي بشيء دون أن ينال على تضحيته جزاء يبررها ويلتمس منه العزاء. لذا لم يغفر منترلان لأمته وللمجتمع تضحيته الكبيرة حين جرفته العاطفة الوطنية كغيره دون وعي إلى ميدان القتال ليتعذب شر عذاب وبعود جريحاً بين الحياة والموت فاقد الأمل في إتمام حياته المدرسية.
ولقد كان هذا الشباب المعذب دافعاً لهنري دو منترلان إلى أن يهيم بتلك السن التي ضحى وتألم فيها، فأصبح يمجد سن الشباب (تلك السن - كما يقول - التي لا تعترف بجميل. سن القلب والنفس. نجم الحياة المتألق). ولقد تدرج منترلان من ذلك إلى الغرام بالألعاب الرياضية لأنها المظهر الذي تتمثل فيه حيوية الشباب وجبروته، ولأنها الوسيلة لإطالة عهد الشباب إلى أبعد مدى مستطاع
و (أدب الألعاب الرياضية) فن حديث جداً في الأدب الفرنسي. وترستان برنار هو صاحب الفضل الأول في تغذية القصة الفرنسية بالأفكار الرياضية ومعالجة شئونها ووصف أبطالها، وكان يحب الكتابة عن ألعاب الملاكمة وأبطالها كما في قصته على أن هذه الحركة ظلت بطيئة الخطر، ولم يتعد نشاط قادتها القليلين الكتابة في الصحف والمجلات، وإخراج عدد قليل من الأعمال الأدبية التي لم تكن ذات قيمة تذكر. . إلى أن كانت الألعاب الأولمبية عام 1924 فنشط أنصار (أدب الألعاب الرياضية) وأرادوا أن يدخلوا الفنون الرياضية في القصة الطويلة والقصيرة وفي الشعر أيضاً، وكثر عددهم واتسعت مدرستهم وأصبح كل منهم متخصصاً في الكتابة عن فن من فنون الالعاب الرياضية، فمنهم من هام بالسيارات مثل هنري كستماكرز في قصته وميشل كورداي في قصته ' واكتاف ميربو في قصته الشهيرة 628 - التي تعتبر في نظر النقاد أروع قصة في (أدب السيارات)
ومنهم من ولع بألعاب كرة القدم مثل جان برنييه في قصته ولوي هنري دستل في قصته وتعتبر قصة , لمارسيل برجيه خير ما كتب في (أدب كرة القدم)
وهناك غير هؤلاء الكتاب عدد كبير من أنصار هذه المدرسة جعلوا من شخصيات قصصهم أبطالاً لفنون رياضية أخرى مثل سباق الخيل والطيران وغيرهما.
وهنري دومنترلان يعتبر اليوم زعيم الأدباء الشبان على الإطلاق، وأدب الألعاب الرياضية على الخصوص. وقد برع في الكتابة عن المصارعة. وسافر خصيصاً إلى أسبانيا وتعلم طريقة مصارعة الثيران ودروس نفسية أبطالها وأخلاقهم ثم عالج ذلك في قصته
كان أول أعمال منرلان كتابه كتبه عام 1916 وظهر عام 1920 وهو قطع من الشعر المنثور يصف فيها ذكرياته عن الحرب والمدرسة التي كان يتعلم فيها. وفي عام 1922 ظهرت قصته وفيها يمجد الألعاب الرياضية والصداقة التي بين الأبطال الرياضيين. تلك الصداقة التي يضعها (البان) بطل القصة فوق الحب. وفكرة (البان) عن الحب هي فكرة الكثرة العظمى من أبطال الرياضة الذين يقعون فريسة النزاع الدائم بين نداءين: نداء القلب ونداء الواجب الرياضي الذي يطالبهم بالابتعاد عن النساء كيما يحتفظوا بعناصر القوة فيهم. وينتهي بهم الأمر إلى انتصار النزعة الرياضية وعبادة القوة والمجد فيتضاءل مركز المرأة في نظرهم. وهو لذلك لا يؤمنون بالحب العاطفي. فالحب في نظرهم ميل جسدي إذا ما تحقق مات ما يسميه الناس بالحب، ولذا نرى (البان) يرفض حب القلب بقسوة
ولألبان هذا رأي غريب إلى حد ما. فهو يقول إن العالم خاضع لفلسفتين: فلسفة النساء وفلسفة الرجال. فالأولى تتمسك بالديمقراطية، أما الثانية - وهي التي يؤمن بها بعناد - فهي تتشبث بالماضي المجيد وبالقومية.
وفي قصة , (1924) نرى منترلان يبرر اهتمامه بالألعاب الرياضية إذ يعتبرها مرحلة من مراحل تحقيق الشخصية، على أن فكرته في علاقة الرياضة بتكوين الشخصية تتكرر بشكل أقوى بروزاً في قصة (مصارعي الوحوش) (1926). إذ يعرض لنا منترلان نوعاً من أنواع المخاطرة الجريئة، تلك التي يستهدف لها مصارعو الثيران بعرضها مصاغة في قالب بارع يدفعنا لاحترام أولئك المصارعين البواسل الذين يغامرون بحياتهم حباً في السيطرة وإظهاراً للقوة وامتحاناً لشخصياتهم التي لا تعتبر كاملة في نظرهم إذا عرفت للوجل معنى!
وقد كتب منترلان في هذه الفترة القصيرة من حياته الأدبية عدداً كبيراً من القصص أهمها عدا ما ذكرنا قصة (1927) (1928) (1929). وكانت آخر قصصه قصة (العزاب)
والآن قد يتساءل القارئ. كيف يبشر منترلان بقيمة الألعاب الرياضية ويخصص أدبه لخدمتها والدعوة لنشرها وهو الناقم على مظاهر العنف، الثائر على نظام الجندية والحرب، الداعي إلى الأخاء والمحبة والتعاون؟ ومنترلان نفسه يحس بالتناقض الظاهر بين طبيعته الثائرة المتمردة وبين نظام الألعاب الرياضية الذي يدعو إليه وما فيه من معاني الترف البرجوازي. على أنه يقبل ذلك كارهاً غير مرتاح الضمير. يقبله كوسيلة لتحقيق فلسفته التي ترى في الألعاب الرياضية - كما ذكرنا - وسيلة لإبراز الشخصية والسمو بها على سائر الشخصيات التي تحيط بها. والواقع أن منترلان قد أجاد تصوير فكرته بطريقة غاية في الإبداع. فأنت تلمح من خلال شخصيات قصصه كيف تتفتح الشخصية وتسود حين يصبح صاحبها بطلاً من أبطال الرياضة. وكيف يغمر صاحبها النشاط والحيوية وعبادة البطولة التي تدفعه للاستهداف للموت راضي النفس مرتاح الضمير
وأدب منترلان اقرب إلى الرومانتيكية منه إلى الواقعية وهو في ذلك يقول (إن الواقع والحقيقة تقع عندي في المرتبة الثانية) وإذا كان كل كاتب لابد أن يتأثر بروح بعض من سلفه من الكتاب، فان بلزاك وشاتو بريان يطبعان أدب منترلان بطابع لا يمكن إنكاره وتناسيه
ويمتاز هنري دو منترلان بأسلوبه الرائع، فثروة الألفاظ وحسن اختيارها وأدائها، والموسيقى السامية التي تلبس عباراته فتعبر عنا يدوي بين أرجاء نفسه من النزعات والعواطف هي أظهر ما يميز فنه وشخصيته بين الكتاب الفرنسيين المعاصرين.
على كامل