الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 54/المغفل المخدوع

مجلة الرسالة/العدد 54/المغفل المخدوع

مجلة الرسالة - العدد 54
المغفل المخدوع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 07 - 1934


(إذا أصيب الرجل بداء الغفلة فقد الثقة من نفسه، وعاد لا ينظر بعينه، ولا يسمع بأذنه، ولا يفكر بعقله)

أولع ملك من الملوك بالجديد من الثياب، فكان يتأنق في لباسه التأنق كله، وأصبح لا يرى اللذة إلا في الأغراب فيه، وكثرة الإنفاق عليه، وما كان يعبأ بعد ذلك بأمر أمته، فترك الجند هملاً، وهم حصن الأمة وسلسلتها الفقرية، واحتقر علماء الدنيا والدين، وهم مصابيح الكون يضيئون الحياة؛ ويبصرون الناس بسبلها المعوجة وطرائقها العجيبة؛ وكان لا يذهب إلى التمثيل حباً فيه، وإنما ليعرض على الناس زخرف ملبسه وجميل هندامه، وكان لا يخرج للنزهة ترفيهاً لأعصابه واستمتاعاً بجمال الطبيعة، وإنما ليدهش من يقابل، ويثير فيه عاطفتين: العجب من تأنقه، والإعجاب بذوقه.

مرت الأيام هادئة في حاضرة الملك الواسعة، وأخذ يأتيها الناس من كل فج عميق. وفي ذات يوم قدم إلى الملك لصان متشردان، ضربا في فنون الاحتيال السهم، وذهبا في صنوف الخداع كل مذهب، وتظاهرا أنهما أستاذان مبرزان في النسج والحياكة؛ فأقبل عليهما الملك بسمعه وبصره. ثم قالا له: (أيها الملك المعظم، إنا نريد أن نقدم لك خدمة جليلة، إذ أنت بها خليق، وهي بك أنسب، إنا نستطيع أن نعد لك ثوباً شفيفاً جميلاً لا يراه عليك ألا من كان مخلصاً لك، معجباً بك، أو كفؤاً في عمله، قديراً عليه).

فتهلل الملك واستبشر وقال: (لله دركما يا صديقي، ما أكرمكما وما أجمل صنيعكما، إنني ولا شك أصبح بما تنسجان وتحوكان بصيراً بأحوال الخلق جميعاً، فأعرف من كان لا يحسن عمله، ولا يصلح للقيام بما وكل إليه، وأعرف كذلك المخلص من المخادع المداهن، فأبدأ من الساعة بهذا العمل الخطير، وأنا أعرف كيف أجزل لكما العطاء).

ثم أمر الملك أن يعطيا مبلغاً كبيراً من المال، وأُخلي لهما قصر رحيب على مقربة من قصر الملك، ثم انتشر الجند حوله يحرسونهما من اعتداء المعتدين (من غير المخلصين وغير الأكفاء!)

جلس اللصان المحتالان في القصر الجديد، ونصبا المناسج والأنوال، وتظاهرا بالجد في العمل، والمثابرة التي لا تعرف الملل، وطلبا من الحرير أرقه وأنعمه، ومن الخيوط الذهبية أدقها وأنقاها، فجئ لهما بما أرادا؛ ولما انفردا في المكان وضعا الحرير والخيوط وما أخذاه من المال في حقيبتيهما، وجلسا إلى مناسجهما القائمة يديرانها على لا شيء، لا خيط عليها ولا قطعة حرير، يديرانها بهمة غير محدودة الليل كله، والملك في قصره ساهر يسمع أزير المناسج والأنوال، وهي لا تضعف ولا تخمد. وأخذ النعاس يغالب جلالته حتى غلبه وأخضعه لسلطانه، ولم بنزح عنه حتى تنفس الصبح، وجلا الليل جلاء تاماً، فقام الملك مسرعاً إلى نافذته، تواقا إلى معرفة ما قد تم، وأخذ يقلب وجوه الآراء فيمن يبعث، فقر رأيه على رئيس وزارئه، وما كان أخلص منه ولا أكفأ في نظر الملك.

كلف الوزير الأكبر بهذه المهمة الشاقة، فانطلق في سبيله واثقاً من نفسه، ودخل على الدجالين الكاذبين فوجدهما يتصببان عرقاً، ويديران المناسج الفارغة بالقوة والعزم اللذين يميزان عمل المخلصين المصممين على النجاح، فدهش الوزير الجليل وقال في نفسه: (ماذا أرى؟ أيمكن أن أكون غير مخلص للملك أو غير جدير بمكانتي الاجتماعية العالية؟ أيمكنأني لا أرى ولو قطعة صغيرة من الخيط أو الحرير على هذه المناسج القائمة الدائرة. لله ما أشقاني!) ثم صدر من اللصين سؤال قطع عليه تفكيره الصامت، إذ طلبا منه أن يقترب قليلاً من المناسج ويخبرهما برأيه في اتساق الألوان، ودقة التطريز وجمال الأشكال، ثم أشارا في الوقت نفسه إلى مناسجهما الفارغة.

اقترب الوزير الخطير ووضع منظاره على عينيه ليري ما لم تبصره عينه المجردة. نظر فلم ير شيئاً. ثم رجع البصر كرتين فعاد البصر إليه خاسئاً وهو حسير. اتهم الرجل نفسه وكفايته ودب الحزن في قلبه. وقال في نفسه: لا لا! لا يمكن أن يعرف الناس عني أنني غير مخلص أو غير كفء، ولن أعترف أبداً أني ما رأيت النسيج الشفاف.

لم يكد السيد الرئيس يفرغ من خاطرته المشجية المضحكة حتى فاجأه أحد المحتالين بقوله: (سيدي، يظهر أنك لا تبصر محاسن ما قد صنعنا.) فأجابه الوزير: (لا أبصره!! ومن ذا الذي يستطيع الإبصار اذن؟ ما أبدع ما أرى وما أدقه، بنفسي تلك الألوان المتسقة. وهذه التصاوير الرائعة. و. . و. . . نعم سأخبر الملك سريعاً بهذا البدع وهذا التفنن) فشكره اللصان شكراً جزيلاً على حكمته وكفايته. وأخذا يشرحان له الأشكال المختلفة الموهومة. ويذكران أسماء الألوان. ويبينان مواضع الحسن في ذلك القماش الخيالي. والوزير يصغي إليهما ويهز رأسه لبعض ما يسمع حتى يسرده على الملك عند عودته حرفا بحرف رجع الوزير والهم حليفه إلى الملك، وأخذ يصف ذلك الجمال الذي سمعه بأذنه. وعجز عن رؤيته بعينه. والملك يترنح عجباً وسروراً. وفي اليوم التالي بعث الملك ضابطاً من ضباطه الذين سمعوا وصف الوزير وإعجابه بما شهد. فذهب الرسول ولم ير من المناسج إلا خشبا قائما لا شئ فيه. ولكنه اتهم عينيه واتهم كفايته وأخذ يفكر تفكيراً هو الحريق الداخلي ويقول لنفسه: (لا شك أني غير كفء لمكانتي ذات الأجر الكبير. أف ما أتعسني! كيف أعجز عن إبصار ما رآه السيد الرئيس وافتتن به؟ لا يجوز أن يعلم أحد عني ما أعلمه الآن من نفسي.) ثم ارتفع صوته فجأة بالإعجاب والمديح، وعاد إلى الملك يبالغ في الثناء. فازداد الوزير (وكان حاضراً) اتهاماً لنفسه وكفاءته. وسر من كذبه الصالح. ثم عزم الملك على زيارة تلك المناسج العجيبة. فقام مع حاشيته ورئيس الوزراء والضابط الممتاز وذهبوا إلى اللصين جميعاً

دخلوا حجرة اللصين فصاح الوزير الأكبر صيحة العجب والإعجاب: (ما أجمل ذلك الزخرف. وما أدق هذه الصنعة! وما أبدع تلك الألوان المتداخلة. وتلك الأشكال المتماثلة.) ثم صاح الضابط: (يا الله! ما كنت أحسب قبل اليوم أن في طاقة الإنسان أن يعمل كل هذا البدع: ثوب شفيف مطرز. وبالأشكال الجميلة مزخرف. وهو مع ذلك لا تراه إلا عيون المخلصين والأكفاء، ولا تلمسه الأيدي ولا تدركه الظنون.)

فوجم الملك وقال في نفسه: (ما هذا؟ ألا أرى شيئاً؟ إنها لمصيبة كبرى؟ هل يمكن أن أكون معتوهاً أو غير خليق بالملك؟ لا. لابد أن أسدل على الأمر ستار الخفاء.) ثم صاح (حقاً ما أجمل ذلك القماش! إني راض عنه الرضى كله) ثم ابتسم وحدق في المناسج الفارغة. ولكن هيهات لنفسه الضعيفة أن تنكر وجود شيء أقره رجلان من كبار رجاله!! وانطلق رجال الحاشية يحدقون كذلك ويصيحون: بديع! مدهش! فخم! عجيب! رائع! تلك كانت الصفات التي أخذت ترن في أنحاء المكان الواسع. ثم عطف الملك على الحائكين وأجزل لهما العطاء ورفعهما إلى الدرجات العالية، وقرر الملك أن يلبس تلك الحلة الرائعة ويسير في موكب فخم في أنحاء المدينة يعرضها على الأنظار. .

جاء يوم الاحتفال - ذلك اليوم المشهود - فخرج الناس من منازلهم، وساروا زرافات في الطرق، حتى فاضت بهم السبل، وكأن الأرض صفحة كتاب، سطورها الشيوخ والشباب.

أما الملك فقد جرده اللصان من ملابسه إلا قميصه وسرواله، ثم أوقفاه أمام المرآة، وأخذا يروحان ويجيئان، ويرفعان أيديهما ويضعانها، ويديران الملك أمام المرآة ليرى الحلة الجديدة، وأفراد الحاشية وقوف بين متعجب ومسرور، ثم صاح اللصان أن قد تم كل شيء فتقدم الخدم إلى رفع الذيل الموهوم لتلك الحلة الخيالية، وسار الملك في طليعة السائرين، والوزراء والأعيان حوله ووراءه، والنساء مطلات من المنافذ والشرفات، والناس منهومون بالنظرات. وما وقعت عيونهم عليه حتى علا الصياح يشق جوف الفضاء: (ما أجمل الثوب، وما أبدع الذيل)!!. . .

وهكذا ظل كل إنسان يخدع نفسه ويكذب عينيه، ظناً منه أنه وحده قد عجز عن رؤية الثوب، وأن الباقين يرونه كما يرى بعضهم بعضاً. واستمر الحال كذلك برهة والناس جميعاً خادعون ومخدوعون، ثم صاح طفل ساذج: (ليس على الملك ثوب جديد! الملك عريان!) فبهت الجميع. . . ثم صاح شيخ كهل:

(اسمعوا صوت الحق، اسمعوا صوت الطبيعة التي لا تعرف الملق والنفاق). فاغتم الملك غماً شديداً إذ علم أن ما قاله الطفل حق صراح، يبصره هو ويشعر به، ثم عاد أدراجه بين سخر الساخرين، واستهزاء الضاحكين.

م. ك