الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 539/الإسلام والفنون الجميلة

مجلة الرسالة/العدد 539/الإسلام والفنون الجميلة

مجلة الرسالة - العدد 539
الإسلام والفنون الجميلة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 11 - 1943

7 - الإسلام والفنون الجميلة

للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق

رأينا كيف كان لبعض توجيهات الدين الإسلامي سواء ما كان منها إيجابياً أو سلبياً أثر واضح في إيجاد شخصية قوية للفنون الجميلة التي كان يزاولها المسلمون. على أن هناك عوامل أخرى تستمد أصولها من الدين الإسلامي قد تبدو لأول وهلة كأنها منقطعة الصلة بالفن ولكنها في الحقيقة ذات صلة بهذا الأمر، صلة غير مباشرة إلا أنها فعالة قوية الأثر نرى من الحق علينا أن نشير إليها وأن نبين كيف عاونت على نضوج الفن الإسلامي وساعدت على اطراد تقدمه. ولعل أهم هذه العوامل المساعدة ثلاثة: النقابات الإسلامية، والحسبة، والوقف. وسنبين أولاً ما هي هذه النظم ثم نعقب على ذلك بإيضاح أثرها في الفنون الجميلة

أما نظام النقابات فلا يعنينا هنا البحث في أصله أو ترجيح أحد الرأيين اللذين يحاولان الكشف عن ذلك، فسواء أكان يرجع في أصله إلى النقابات البيزنطية التي كانت موجودة قبل الإسلام، أو كان من ابتداع الفرق الدينية الإسلامية كالإسماعيلية وغيرها؛ فالأمر الذي لا يتطرق إليه الشك هو أن هذا النظام ازدهر وارتقى في ظل الإسلام، وساهم بأوفر نصيب في تقدم الصناعة، إذ كان لكل حرفة نقابة خاصة يرأسها شيخ الصنعة ويليه النقيب ثم الأساتذة ثم الأسطوات ثم المبتدئون. وكانت أسرار الصناعة تدرس عملياً في هذه النقابات وكان لها قانون يستمد سلطته من الحكومة في كثير من الأحيان ويدور حول حماية المستهلك والمنتج على السواء، فيضمن للأول جودة المصنوع وإتقان الصناعة وإتباع الأساليب المقررة فيها، ويضرب بيد من حديد على الغش والتدليس، ويضمن للثاني سهولة الحصول على المواد الخام اللازمة لصناعته، ويمنع الاحتكار الذي يضر بالعمل ويسعى لرفع مستواه الاجتماعي. ولقد قضي على نظام النقابات بعد أن تغيرت الأسس الاقتصادية التي تسير عليها الأمم الإسلامية في الوقت الحاضر. على أنه لم تزل هناك ظاهرة اجتماعية تذكرنا به هي حفلة إثبات رؤية هلال شهر رمضان إذ تسير نقابات الحرف المختلفة في موكب الرؤية بنظام خاص. ولعل هذه الصورة أوضح في الأرياف منها في القاهر وأما الحسبة فوظيفة أوجدها الإسلام عند ما رأى أن الإنسان لا غنى له في حياته عن التعاون مع غيره، وأدرك أنه لكي يستقيم أمر الجماعة لابد من إيجاد سلطة تلزم كل إنسان حده، ولا تترك مجالاً لمن طبعت نفسه على الشر أن يعبث بمصالح الناس إرضاء لشهوة جامحة أو نزوة طارئة. وقد استمدت وجودها من آيات قرآنية عديدة نجدها مفصلة في كتب الفقه الإسلامي أو الكتب التي قصرت نفسها على موضوع الحسبة وحده. ويكفي أن نذكر هنا أن أول من أوجدها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب المحتسب الأول الذي كان أول من شارف بنفسه الأسواق وراقب المكاييل والموازين وأمر بإماطة الأذى عن الطرق. على أن أعمال الحسبة لم تقف عند هذا الحد الذي وقف عنده عمر، بل اتسعت دائرتها حتى شملت جميع ما يتصل بحياة الناس المدنية والدينية من أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر. ويهمنا نحن بنوع خاص أنها تدخلت في شئون جميع الصناعات ورسمت لأربابها السبيل السوي الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه؛ فالخزاف والنساج والنجار والحائك والوراق والصائغ وغير هؤلاء من الصناع لهم منهاج عليهم أن يتبعوه حتى يأمنوا عقاب المحتسب في الدنيا وغضب الله في الآخرة. وقوام ما هم مكلفون به إتقان العمل والإخلاص فيه وتجنب الغش والتدليس.

وأما الوقف فنظام نشأ في الإسلام استناداً إلى أحاديث عدة لعل أشهرها ذلك الحديث الذي ذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما كما ذكر أيضاً في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وفي مسند ابن حنبل وفي طبقات ابن سعد وملخصه أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلوات عليه يستأمره فيها، فقال له النبي إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. ومنذ عهد عمر ونظام الوقف مستمر حتى يومنا هذا وقد اتسعت أغراضه بحيث شملت معظم نواحي الإصلاح الاجتماعي فأوقفت الأعيان على المساجد والمدارس، والمارستانات والمدافن، وعلى المساكين واليتامى، وعلى الذين وهبوا حياتهم للعلم أو للدين، وعلى غير ذلك من الأغراض التي سطرها الواقفون في وقفياتهم ويضيق المجال عن ذكرها جميعاً. والذي يهمنا من هذا النظام أن أول قواعده وأهمها عمارة الأعيان المحبوسة سواء ما كان منها لاستخدامه في الأغراض سالفة الذكر أو لاستغلاله للانفاق عليها لضمان بقائها ودوام استغلال ريعها. وبفضل هذا العمل الجليل وصلت إلينا تلك الآثار الرائعة التي تزدان بها القاهرة اليوم من مساجد ومدافن، وأسبلة وأربطة، ومدارس ومنازل ومشاهد ووكائل، وتلك التحف النادرة الجميلة التي كانت تزين تلك الأبنية من محاريب وتوابيت ومشكوات وكراسي.

(يتبع)

محمد عبد العزيز مرزوق