مجلة الرسالة/العدد 538/المشكلات
→ الشعر المرسل والشعر الحر | مجلة الرسالة - العدد 538 المشكلات [[مؤلف:|]] |
بمناسبة العتاب اللبناني ← |
بتاريخ: 25 - 10 - 1943 |
9 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد فاتحت كثيراً من رجال التربية والتعليم في مصر ممن يهتمون باللغة العربية في هذا الأسلوب الجديد في تعليم اللغة، فكانوا جميعاً يلقونني بشبهة واحدة قد اتفق الجميع عليها، وكأنهم تواطئوا على إيرادها، أوردوها من لا أحصي ممن يهتمون بشئون التعليم في مصر، ومن قبل ذلك أوردتها فيما بيني وبين نفسي
وهذا دليل على قوتها، وقرب تناولها؛ فإن استطعت حلها فقد ذللت عقبة كأداء في سبيل الإصلاح المنشود
يقولون جميعاً: مما يعوق ملكة تكوين اللغة العربية عندنا أن اللغة العامية سبقت إلينا فتكونت ملكتها فينا، واللغة العامية تحريف للغة العربية وخطأ فيها، فإذا تكونت فينا ملكة اللغة العامية فهذا معناه تكون ملكة الخطأ في اللغة العربية، وإذا سبق الخطأ وصار ملكة ثبت ورسخ، فإذا أريد بعد ذلك إصلاحه وصيرورة هذا الإصلاح ملكة تعذر واستحال
ومما يزيد الأمر تعذراً واستحالة أننا لا نزال نسمع من والدينا وإخواننا وأهلينا ومخالطينا وأصدقائنا اللغة العامية، يتكلمون بها ونكلمهم، ونتفاهم بها ونتساجل، فهي لغة البيت ولغة الشارع ولغة المدرسة ولغة الأغاني ولغة التمثيل ولغة الخيالة ولغة بعض المجلات، أينما توجهنا وجدناها، وحيثما أصغينا سمعناها، وهذا معناه أن الخطأ واللحن في اللغة العربية سبق فصار ملكة، وأنه لا يزال يتردد على أسماعنا ونردده فيزداد رسوخاً، حتى يختلط بلحمنا ودمنا، فمهما فعلنا للتخلص من ملكة اللحن والخطأ لم يفدنا، وكلما هربنا من هذه الملكة لحقتنا؛ فأين النجاء وأين المهرب؟ وهي قد سبقت فاستحكمت فينا، ثم أخذت تلاحقنا وتسابقنا وتتغلب علينا وتقهرنا. ولعل هذا هو الذي دعا العلماء الأقدمين إلى أن ييأسوا من تكوين ملكة العربية الصحيحة، فاكتفوا بالقواعد والقوانين التي تضبط أمرها مع التنبيه والمعالجة، ولم يسموا إلى ملكتها التي تعطي التعبير بها دون قصد ولا تنبه ولا تكلف و علاج
وإني أقول في جواب هذه الشبهة أن ذلك يبين عسر اكتساب ملكة العربية لا تعذره، والمشقة لا الاستحالة؛ فإنه لو استحال تكوين ملكة العربية مع سبق ملكة العامية لما وقع لأحد. وكيف وقد وقع للكثير من رجال اللغة والأدب؟ حقاً إن هذا دليل على التعسر لا على التعذر بدليل أننا نجد خلافه من نفوسنا وخلطائنا؛ فكثير منا قد سبقت إليه في صباه ملكة العامية، ثم عنى بكسب ملكة اللغة العربية بالحفظ والمرانة فاكتسبها، ولم تمنعه الملكة السابقة أن يكتسب الملكة اللاحقة؛ بل إني لأزعم أنه لا يكتب الكتاب، ولا يشعر الشعراء، ولا يخطب الخطباء باللغة العربية إلا بفضل الملكة التي اكتسبوها من القراء والحفظ والاعتياد والتي قاومت ملكات العامية في نفوسهم فغلبتها وظهرت عليها لا بفضل القواعد وحدها
لقد قام الدليل على أن لا سبيل إلى اكتساب اللغة إلا هذا السبيل وهو أن اللغة ملكة والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، فإذا تعين هذا السبيل بالدليل فلا معنى لتصيد الشبه من هنا ومن هنا للهروب مما أوجبه الدليل وعينته الحجة. وهل توقفت المدارس الأجنبية عن تعليم تلاميذها لغة غير لغتهم بطريق الحفظ والحديث بحجة أن لغتهم صارت ملكة فيهم فلا يمكن أن يكتسبوا ملكة لغة أخرى. والواقع أن من الناس من يجيد لغات كثيرة وكلها ملكات فيه، وقد اكتسبها بطريق المحادثة والحفظ، ولم تزاحم ملكة لغة ملكة لغة أخرى عنده، وإن كانت ملكة بعض اللغات عنده أقوى من بعض فذلك لا يعنينا لأننا في أصل تحصيل الملكة لا في جودتها والمفاضلة بين الملكات بعضها وبعض. إن علماء الأخلاق قد جزموا بإمكان تغيير الأخلاق وقالوا إنه يمكن أن يكون الجبان شجاعاً، والبخيل كريماً والشره عفيفاً، والأخلاق ملكات والخلق الذميم تحريف للخلق الفاضل، ورأوا أن التكرار كفيل بالتغيير، وما على الجبان إلا أن يتشجع ويعمل أعمال الشجعان، وما على البخيل إلا أن يتسخى ويعمل أعمال الأسخياء، ليكتسب الخلق الجديد، ويتخلى عن الخلق القديم
فإذا كانوا قد جزموا بذلك في الأخلاق غير متحفظين ولا مترددين فما أحرانا أن نجزم به في اللغة ولا نتحفظ ولا نتردد
وليس ما يتصيدونه من شبه مما يشفع لنا أن نترك الطريق الطبيعي لتعليم اللغة ونسلك طريقاً غير طبيعي في تعليمها
على أننا قد أخذنا بالحيطة والحزم، فلم نمنع القواعد إلا في الأقسام الأولية والابتدائية فجعلنا التعليم فيها بالحفظ والمحادثة فقط، أما في مرحلة التعليم الثانوي وفي مرحلة التعليم العالي فقد جمعنا بين الطريقين، طريق القواعد وطريق الحفظ، فإن لم يزدها قوة فليس يزيدها ضعفاً، وهذا ريثما يبين للناس بالتجربة صلاحية الطريقة الجديدة لتعليم اللغة، فإذا بان صلاحها رفعنا القواعد إلا من التعليم العالي ومن المعاهد التي تعد معلم اللغة العربية
إن ما يقال من الصعاب التي تعترض من يريد تكوين ملكة اللغة العربية، والتي تدفع بعض الناس إلى أن يظنوا أنها تجعل اكتساب هذه الملكة متعذراً ومحالاً إنما هو منبهة على مواضع العقاب في تحصيلها، وليس من المحال التغلب على شتى هذه العقاب والصعاب. فلنتلاف منها ما يمكن ملافاته، ولنبق للزمن ما عليه أن يتمه، وما دمنا نبذل الجهد المضني والزمن الكثير الذي هو رأس مالنا في تعلم العربية فعلينا أن نزيل من معوقات هذه الملكة كل ما تمكن إزالته، وإلا كنا نهدم باليسار ما نشيده باليمين
علينا أن نجعل أغانينا باللغة العربية ولا نسمح للغة العامية أن تكون لغة الغناء ما دام ذلك يعوق ملكة العربية ونحن نبذل الجهد والمال في اكتسابها، ولا يصح أن نتناقض في أفعالنا
علينا أن نجعل روايات المسرح باللغة العربية ولا نسمح للعامية أن تحتل المسرح لأن ذلك يعوق ملكة العربية فينا، ونحن قد ملأنا برامج تعليمنا باللغة العربية لنتعلمها، ولا نحب أن نكون كذلك الممثل الذي ظهر على المسرح وبيده اليمنى أوراق، وبيده اليسرى أوراق، فقيل له ما بيدك اليمنى؟ فقال قوانين. قيل له وما بيدك اليسرى؟ قال نسخ هذه القوانين
علينا أن نحتم أن تكون لغة المجلات هي اللغة العربية ولا نسمح للعامية أن تحتل مكاناً فيها للعلة نفسها، وهكذا الشأن في الإذاعة وفي الصحافة
وإذا كنا إذا بنينا بناء وشيدناه، وبذلنا المال في تشيده لا نسمح لغيرنا أن يهدمه، فحري بنا ونحن نبني ملكة اللغة العربية فينا، وننفق في سبيلها كرائم أموالنا، وزهرة شبابنا، وأعز جهودنا ألا نسمح للمسارح ودور التمثيل والمغنين والمغنيات أن يهدموا ما نبنيه
وعلينا أن نبكر في تلقين التلاميذ نماذج من المحفوظات العربية، وقد سهلت مدارس رياض الأطفال علينا هذه المهمة، فالتلاميذ يذهبون إليها في سن مبكرة، فعلينا نحن أن نبتهل هذه الفرصة فنعطيهم نماذج يحفظونها تناسب عقولهم، ولا تنبو عن إفهامهم، ما دامت الملكة السابقة لها القوة والسيطرة والغلبة
لقد غالى بعضهم وزعم أن تكوين ملكة عربية أسهل على الإنجليزي والفرنسي منها على من سبقت له ملكة العامية، وذلك مبالغة في اليأس والقنوط
إن العامية لا يمكن أن تقف في طريق تكوين ملكة العربية، بل إني أرى أنها عون على اللغة العربية، فمن السهل على من عرف العامية أن يتعلم اللغة العربية وتكون عونا له عليها، وتطيعه ملكة اللغة العربية بأيسر وأسهل مما تطيع من لا يعرفها ولا يتكلم بها كالإنجليزي والفرنسي، لأن معرفة العامية تعلم الكثير من العربية فتعلم كثيراً من مفرداتها كالأرض والسماء والسحاب والماء والثرى والهواء، تعلم كثيراً من أساليبها وتراكيبها، والنقص الذي دخل على ملكاته من تحريف العامية شيء سهل يمكن ملافاته إذا سار في الطريق المستقيم عكس من لم يعرف شيئاً من العامية، فبدأ في تعلم العربية من جديد كلمة كلمة، وحرفا حرفا، وأسلوباً أسلوبا، ونظماً نظما
قد بلغنا في نصرة الأسلوب الجديد في تعليم اللغة العربية المبلغ الذي وسعه الجهد، وإن كان قليلا، وبلغه الوسع وأن كان ضئيلاً، ولم نترك حجة تفيد نصرته إلا تتبعناها، ولا شبهة تدل على خلافة إلا أفسدناها. ولم يبق للمهيمنين على تعليم اللغة العربية في وزارة المعارف وفي الجامعة وفي الأزهر عذر في أن ألا يصطنعوا هذا الأسلوب؛ فقد وضح الحق، وانخذل الباطل، ولم يبقى عذراً لمعتذر
محمد عرفة