مجلة الرسالة/العدد 538/البريد الأدبي
→ وداع المصيف | مجلة الرسالة - العدد 538 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 25 - 10 - 1943 |
بريد العراق
قيل أن الصداقة كالخمر يزيدها القدم عتقاً إلى عتق، وهذا هو حالي مع أصدقائي في العراق، فما يمر أسبوع بلا بريد يصل من هناك، فأعرف به أخباراً تزيد شوقي إلى إخوان الصفاء، أو تسوق حزناً يعذب الفؤاد، كالذي وقع حين قرأت نعي السيد صالح البدري في جريدة الزمان، رحمه الله وألهم أهله روح الصبر الجميل
هل يعرف الصديق الذي رثى هذا الأديب بكلمة. موجزة في جريدة الزمان أني كنت أحب أن يذكر ترجمة حياته بإطناب؟
لقد سألت آحاداً من العراقيين المقيمين بالقاهرة عن السيد صالح البدري فلم يعرفوه، فأدركت من جديد أن الآذان لا تسمع غير الصوت الضجاج، وقد تفوتها عذوبة الرنين اللطيف
الصلة بيني وبين السيد صالح البدري لم تزد عن تفضله بتشطير قصيدة بغداد، وهي في نظري أقوى الصلات، لأن مجاراة الشاعر للشاعر مساجلة بين روح وروح، فمن واجبي أن أودعه بكلمة ثناء، لا كلمة رثاء، لأن أومن بأن الفكر لا يموت
وهناك أخبار من العراق تمثلها الرسائل الواردة من بغداد والكرخ والبصرة والحلة والموصل والنجف، هي أخبار تشرح الصدر، لأنها تصور وفاء القلوب في تلك البلاد
وهناك رسائل طويت عني، بعد أن كتبت مرة ومرتين ومرات، لأزداد عذاباً إلى عذاب
سنلتقي يا غاضبين ولو بعد حين، وستذوقون ثمرات التجني طائعين أو كارهين
إن الرسائل وصلت، الرسائل التي طويتموها بعد أن كتبتموها، وسأقرأها عليكم يوم التلاقي، وهو بإذن الله قريب
وأنا أيضاً كتبت إليكم رسائل وطويتها عن عمد، فهل وصل إليكم منه شيء؟ بريد القلب هو البريد، ولكني أين من يعرف تناجي القلوب على بعد الديار؟
هل عندكم نية لحضور المؤتمر الطبي في العيد المقبل؟
سأشترك في هذا المؤتمر، وسأصنع مثل الذي صنعت منذ أعوام، فأنتظر في محطة باب الحديد إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ومعي الأستاذ عبده حسن الزيات راجياً أن يكون نصيبي منكم في هذه المرة أطيب من ذلك النصيب
تعالوا في العيد، أو في غير العيد، فرؤيتكم هي العيد
زكي مبارك
رد على إيضاح
طالعت اليوم (إيضاح) بقلم الأستاذ القاضي المحامي بمنفلوط المنشور في العدد 537 من مجلة الرسالة الغراء بشأن مقالي المنشور بالعدد 535
ولقد عجبت كيف ينسب إلي قولاً لم أذكره، وله أن يدلني على الصفحة والسطر الذي قلت فيه: (إن الإسلام ينهى الفنان عن ابتداع الصور)
وقد كنت أحب لو تريث قليلاً قبل أن يحكم على عقيدتي في التصوير عند المسلمين، ولا سيما وقد لفت النظر في نفس المقال. الذي يعلق عليه إلى أنني سأتحدث في هذا الموضوع بالذات، وتشاء المصادفات أن يظهر بحثي في هذا الصدد في نفس العدد الذي يظهر فيه هذا الإيضاح، ثم له بعد ذلك أن يناقش رأيي ويصدر حكمه على عقيدتي
ولشد ما كنت أحب له أيضاً - وهو بحكم ثقافته القانونية قد يجلس يوماً ما بين الناس للقضاء - ألا يتسرع في الحكم، ويتعجل في تكوين رأيه في عقيدة شخص قبل أن يقرأ بإمعان ما كتبه، وقبل أن يتوفر له من الأدلة ما يساعده على الحكم عليه، بل لقد بادر فساق رأيه فيما كتبه في سهولة عجيبة دون أن يسنده بالحجة أو الدليل
ولست في حاجة إلى القول بأن رأيي في التصوير عند المسلمين قد أوضحته جلياً - بما وسعني من علم - في هذه المجلة في العدد 537 قبل أن أطلع على (إيضاح) وقد نشر هذا الرأي أيضاً قبل ذلك بنحو خمسة أشهر في مجلة الهلال في البحث الذي عقدته عن (مجموعة رفعة صبري باشا من الصور الإسلامية) في العدد الذي صدر في شهر يونيو سنة 1943
وأظن أن فيما تقدم ما يكفي لكي ينفي المعنى الذي توهمه عني كاتب الإيضاح
محمد عبد العزيز مرزوق
الدقة اللفظية إذا كانت الدقة مستحبة في كل شيء على وجه العموم، فهي مستحبة في التعبير على وجه الخصوص. ولعل أول ما يميز التفكير العلمي الحديث انه تفكير دقيق لا يخلط بين المتشابهات ولا يعمى عن الفروق الصغيرة؛ فالدقة معيار هام في نظر العلم والفلسفة، والخلط مظهر لانعدام الروح العلمية. وقد نص المنهج العلمي على وجوب تحديد المعاني قبل البدء في الموضوع، وإقامة الفوارق بين الألفاظ قبل الشروع في استعمالها. ولكن الدقة اللفظية لا تتهيأ للكاتب إلا إذا أحاط بمعاني الألفاظ إحاطة وافية، فلذا يجدر بنا أن نأتي على ذكر معاني الألفاظ التي كثيراً ما يخلط بينها الناس، قبل أن نطالبهم بأن يفرقوا بينها تفرقة دقيقة محكمة
1 - فالناس كثيراً ما يخلطون بين النفس والروح، وفي هذا يقول التوحيدي: (وقد ظنت العامة وكثير من أشباه الخاصة أن النفس هي الروح، وأنه لا فرق بينهما إلا في اللفظ والتسمية، وهذا ظن مردود، لأن النفس جوهر قائم بنفسه لا حاجة بها إلى ما تقوم به، وما هكذا الروح، فإنها محتاجة إلى مواد البدن وآلاته) ((المقابسات)، 106، ص 372 373) (فالإنسان ليس إنساناً بالروح. بل بالنفس، ولو كان إنساناً بالروح، لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روح ولكن لا نفس له. فليس كل ذي روح ذا نفس، ولكن كل ذي نفس ذو روح) ((الإمتاع والمؤانسة) الجزء الثاني ص 113)
2 - وكثيراً ما يخلط الناس أيضاً بين العلم والمعرفة، ولكن التوحيدي يفرق بينهما فيقول إن: (المعرفة أخص بالمحسوسات والمعاني والجزئية، والعلم أخص بالمعقولات والمعاني الكلية، ولهذا يقال في الباري: يعلم، ولا يقال يعرف. . .) (المقابسة 70، ص 272)
3 - ويفرق التوحيدي أيضاً بين لفظين يختلطان في الاستعمال العادي، وهما: الفعل والعمل. (فالفعل يقال على ما ينقضي، والعمل يقال على الآثار التي تثبت في الذوات بعد انقضاء الحركة) (المقابسة 75) ولهذا التفرقة نظير في الفرنسية لأن الفعل يقابل كلمة والعمل يقابل كلمة
4 - ومن الألفاظ التي يخلط بينها خلطاً ظاهراً، ألفاظ المشاركة وهي: المساواة، والمشابهة والمطابقة، والمجانسة، والمشاكلة، والمماثلة. وقد نص ابن سينا في (النجاة) (المقالة الأولى من الإلهيات) على الفروق القائمة بين هذه الألفاظ، فبين أن المساواة اسم المشاركة في الكم، والمشابهة اسم المشاركة في الكيف، والمطابقة اسم المشاركة في الوضع، والمجانسة اسم المشاركة في الجنس، والمشاكلة اسم المشاركة في الإضافة، والمماثلة اسم المشاركة في النوع
هذه بعض الفروق التي (تجب مراعاتها توخياً للدقة في القول، وهي تدلنا على حاجتنا إلى شيء أكثر من الدقة اللفظية، خاصة في بحوثنا العلمية والفلسفية.
زكريا إبراهيم