الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 537/منهج البحث الاجتماعي

مجلة الرسالة/العدد 537/منهج البحث الاجتماعي

بتاريخ: 18 - 10 - 1943


للأستاذ إميل دوركايم

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ثانياً - أبواب علم الاجتماع: العلوم الاجتماعية الجزئية

يميز كونت في علم الاجتماع بين قسمين: الاجتماع الاستقراري والاجتماع الديناميكي (التطوري). ويدرس الاجتماع الاستقراري المجتمع من حيث هو ثابت في وقت معين من حياته، ويبحث عن قوانين توازن المجتمعات؛ فإن الأفراد يحيون في كل لحظة حياة معينة، وتقوم بينهم علاقات معينة تكفل التماسك الاجتماعي. ويجب أن يكون هناك نوع من العلاقات المحددة بين جميع مظاهر الحضارة المختلفة في كل وقت، بمعنى أن حالة معينة من العلم مثلاً يتصل بها حالات معينة من الدين والأخلاق والفن والصناعة وما إلى ذلك؛ فالاجتماع الاستقراري إذن يبين هذه العلاقات والروابط التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي. أما الاجتماع التطوري فإنه يدرس المجتمع في تطوره ويبحث عن قوانين ذلك التطور. ويرى كونت أن هناك قانوناً واحداً للتطور هو (قانون الحالات الثلاث تمر الإنسانية بمراحلها في تطورها؛ والإنسانية تتطور دائماً. وهذه المراحل أو الحالات هي: المرحلة اللاهواتية، فالمرحلة الميتافيزيقية، فمرحلة العلوم الوضيعة. ولما كان علم الاجتماع أعقد العلوم الوضيعة كلها فإنه يتناول، لا مشكلة واحدة فحسب، بل مشاكل ومسائل مختلفة ومتعددة بتعدد مظاهر الحياة الاجتماعية. فهناك إذن فروع لعلم الاجتماع، أو علوم اجتماعية جزئية بمقدار تلك المظاهر المختلفة للظاهرات الاجتماعية التي لم تحص بعد. ويرى دور كايم أن من سبق الوقت أن نضع تصنيفاً منهجياً للظاهرات الاجتماعية لتعقدها وتعددها، ولكن من الممكن، في نظره، أن نبين بشكل ما الأقسام الرئيسية التي ينقسم إليها علم الاجتماع

إن أول ما يتوجه إليه نظر الاجتماعي هو المجتمع من ناحية الخارجية، فيظهر له أنه تكون من كتلة من السكان لها عدد معين وكثافة معينة، وتسكن أرضاً معينة تتوزع عليها بشكل معين، وتربطه بما حوله من المجتمعات علاقات وصلات وروابط معينة، وفيه طرق ومواصلات تفرضها طبيعة الأرض، وهكذا. ولا شك أن ذلك كله من العوامل العامة التي لها أثرها في الحياة الاجتماعية، بل إنها أساس تلك الحياة. فكما أن الحياة النفسية في الفرد تتغير تبعاً للبناء التشريحي للمخ، كذلك تختلف الظاهرات الاجتماعية حسب اختلاف البناء الاجتماعي. فلا بد إذن من وجود علم اجتماعي يكون بمثابة علم التشريح، ويدرس التكوين المادي الخارجي للمجتمع. هذا العلم هو ما يسميه دور كايم (بالمورفولوجيا الاجتماعية) (أو علم تركيب المجتمع) ولا تصف المورفولوجيا الاجتماعية المجتمع وتركيبه فحسب، بل تحاول تفسير ما تراه، فتفسير مثلاً سبب تجمع السكان في موضع دون آخر، وهل التجمع يكون في المدن أكثر منه في الريف أو العكس وسبب ذلك، وتبين سبب نشأة المدن الكبرى وهكذا. فهي أشبه شيء بالجغرافية البشرية. . . وواضح من ذلك أن هذا العلم الجزئي يعالج بدون موضوعات ومشاكل مختلفة ومتعددة

ولئن كانت المورفولوجيا الاجتماعية تدرس الهيكل المادي الخارجي للحياة الاجتماعية، فإن هناك علماً آخر يدرس هذه الحياة نفسها، وهو ما يسمى بعلم الوظائف الاجتماعية (أو النظم الاجتماعية) وهذا العلم معقد أيضاً أشد تعقيد ومركب من عدة علوم جزئية مختلفة

فهناك أولا المعتقدات والنظم والشعائر الدينية. والدين ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تتمثل إلا في مجتمع، وتدعمه جماعة أو هيئة لها أصول ومراسيم تسير عليها دائماً؛ وهذه الهيئة هي الكنيسة في أوربا. وكثيراً ما يتدخل الدين في السياسة ويتصل اتصالاً قوياً بالسلطة السياسية. وللدين - ويدخل في ذلك الخرافات والأساطير وما شابهها عند البدائيين - سيطرة قوية على النفوس، ولابد للمجتمع أن يحترمه ويخضع له. ويرى دوركايم أن دراسة الدين هي أهم ناحية في دراسة المجتمع، وهي تكون ما يسمى بالاجتماع الديني ثم هناك الأخلاق والعادات، وهي أيضاً ظاهرة اجتماعية هامة، فلا يمكن تصور إنسان أخلاقي يحيا وحده، إنما تنشأ الأخلاق من اتصال الناس وتتعلق بمعاملات بعضهم لبعض في المجتمعات؛ وفرع علم الاجتماع الذي يدرس الأخلاق هو الاجتماع الأخلاقي ويتصل بالاجتماع الأخلاقي فرع آخر هو الاجتماع القانوني وهو يدرس النظم التشريعية، والقانون الذي يتصل أشد الاتصال بالحياة الاجتماعية وينظمها، ويحدد أفراد المجتمع. وهناك أيضاً النظم ويدرسها الاجتماع الاقتصادي وهو يبحث كل ما يتعلق بالإنتاج والمبادلة والثروات والتوزيع. هذه هي الفروع الرئيسية؛ ولكن هناك علمين جزئيين آخرين هما الاجتماع اللغوي الذي يدرس اللغة من حيث هي ظاهرة اجتماعية تعتمد في وجودها على وجود مجتمع ما بين أفراده معاملات وصلات، ومن حيث هي تحمل خصائص المجتمع الذي توجد فيه، بحيث يمكن الاستدلال من اقتراب اللغات على اقتراب الشعوب. ثم أخيراً هناك الاجتماع الجمالي وهو يدرس أعمال الفن؛ فإن الفنان - شاعراً كان أو خطيباً أو مثالاً أو نقاشاً - يظهر ذاتية مجتمعه الخاصة في أعماله، فهو يستمد معانيه الفنية من البيئة الاجتماعية في عصر معين فيعبر عنها ويخاطب بها أناساً غيره، مما لا يتيسر إلا في مجتمع

وقد درست بعض هذه الأبواب من قبل دوركايم وخاصة الظاهرات الاقتصادية التي كانت تدرس تحت اسم (الاقتصاد السياسي ولكن هذا العلم كان يهتم بما يجب أن يكون أكثر من اهتمامه بما كان أو بما هو كائن. ولا ينظر الاقتصاديون إلى الحقائق الاقتصادية نظرة العلماء إلى الحقائق العلمية الفيزيقية مثلاً؛ ولذلك لا يرون ضرورة دراستها دراسة نظرية قبل محاولة الإصلاح. ثم أنهم يظنون أن الناحية الاقتصادية بعيدة كل البعد عن بقية نواحي الحياة الاجتماعية أو أنها مستقلة بذاتها، بينما يرى دوركايم أننا لا يمكننا تفسير الظاهرات الاقتصادية إذا لم نعتمد ونلتجئ إلى بقية الظاهرات الاجتماعية؛ فأجر العمال مثلاً لا يتوقف فقط على العلاقة بين (العرض والطلب) بل على علاقات أخرى اجتماعية أخلاقية كنظرتنا إلى الشخص الإنساني واعتباره وفكرتنا عنه وتقديرنا له من حيث هو إنسان

فواضح إذن من التحليل السابق كيف أن علم الاجتماع لا يدرس مشكلة واحدة بل عدة مشاكل، بحيث لا يمكن لإنسان أن يلم بمشاكله جميعها، بل لابد من أن يتخصص في إحداها. وليس هذا يعني أن ليس هناك علم كلي تركيبي يجمع النتائج الهامة لكل فرع من هذه الفروع الجزئية؛ فإنه مهما كانت الظاهرات الاجتماعية مختلفة ومتعددة، فإنها ليست إلا أنواعاً لجنس واحد. ومن الممكن دراسة ما يؤلف وحدة الجنس وما يميز الظاهرة الاجتماعية في ذاتها. والعلم الذي يهتم بذلك هو علم الاجتماع العام الذي يستخرج القوانين العامة من الجزئيات. وهذا هو الجانب الفلسفي لعلم الاجتماع

ثالثا - المنهج الاجتماعي بعد ما سبق يجب علينا أن نبين المنهج المتبع في دراسة هذا العلم

إن المشاكل الرئيسية في علم الاجتماع تتلخص في البحث عن كيفية تكوين نظام سياسي أو قانوني أو ديني الخ. . . وعن أسباب وجود تلك النظم. والتاريخ المقارن هو أحسن وسيلة تساعد الاجتماعي على حل هذه المسائل. فالنظم الاجتماعية معقدة أشد التعقيد ومركبة من أجزاء عديدة، فلكي نفهمها لابد لنا من أن ندرس كلا من هذه الأجزاء على حدة، لأننا لن نفيد شيئاً من دراسة النظام كاملاً على ما هو عليه الآن، بل لابد من الرجوع إلى بداية نشوئه ومتابعة تطوره خلال التاريخ ملاحظين ارتباط هذه الأجزاء المنفصلة بعضها ببعض حتى يصل النظام الاجتماعي إلى شكله الحالي. . . لنأخذ مثلاً لذلك ظاهرة القرابة وهي من الظاهرات التي تبدو بسيطة؛ فإننا حينما نحاول دراستها تظهر لنا لأول وهلة فكرة القرابة الأبوية؛ ولكننا إذا نقبنا خلال التاريخ ظهرت لنا فكرة أخرى وتصور آخر عن القرابة وهي القرابة التي تنتمي إلى الأم؛ فهناك عائلات نعرفها خلال دراسة التاريخ لا تعرف إلا هذا النوع الأخير من القرابة، ولا تلعب القرابة الأبوية فيها إلا دروساً ثانوية. ولكن القرابة الآن مزدوجة، تعتبر الناحية الأبوية كما تعتبر الأم، فكيف وصل هذا النظام إلى ذلك؟ هنا أيضاً نتبع خلال التاريخ مرور هذه الظاهرة في كلتا الحالتين خلال حضارات مختلفة، حتى يندمجا معاً ويصلا إلينا على هذه الصورة الحالية المزدوجة. فبالتاريخ إذن نفسر ونبين علل الظاهرات الموجودة؛ والتاريخ يلعب في نظام الحقائق الاجتماعية دوراً يماثل الدور الذي يلعبه الميكروسكوب في نظام الحقائق الفيزيقية

وبذلك يمكن القول إن علم الاجتماع هو إلى حد كبير نوع من التاريخ. والمؤرخ أيضاً يعالج الظاهرات الاجتماعية، ولكنه يعتبرها من ناحية خاصة من حيث تعلقها بشعب من الشعوب في زمن معين وفي مرحلة معينة من مراحل تطوره. أما الاجتماعي فإنه يحاول الوصول إلى علاقات عامة وقوانين كلية عن المجتمعات المختلفة. نعم قد يدرس دراسة خاصة ظاهرة ما مثل حالة الدين أو القانون مثلاً في فرنسا أو إنكلترا أو روما أو الهند في هذا القرن أو ذاك، ولكن مثل هذه الدراسات إنما هي في الواقع وسائل فقط للوصول إلى بعض عوامل الحياة الدينية على وجه العموم؛ ولذا فإن الاجتماعي يقارن في دراستين مجتمعات من نفس النوع أو بين مجتمعات من أجناس مختلفة ليتأدى إلى ما يريد وهناك منهج آخر عند دوركايم غير التاريخ، وهذا المنهج نستخدمه حينما نبحث لا عن كيف تكون نظام اجتماعي ما، بل سبب تمثل هذا النظام أو هذه الظاهرة في هذه المجتمعات تمثلا متفاوتاً. مثلاً حينما نعرض لدراسة ظاهرة مثل جريمة القتل؛ فإننا بدلا من أن نبحث أين تأتي هذه الظاهرة، نتساءل عن أسباب تفاوت حظ المجتمعات المختلفة منها، فبعضها تشيع فيها بكثرة، وبعضها لا تظهر فيها إلا قليلاً. وكذلك الحال في ظاهرة تفاوت الزواج والطلاق كثرة وقلة في المجتمعات المختلفة وهكذا. ففي مثل هذه المسائل نلجأ إلى الإحصاء

ومهما يكن المنهج الخاص الذي يتبعه الاجتماعي في دراسته فإنه يجب عليه حين يدرس ظاهرة ما أن يتناسى تماماً كل فكرة قد يكون كونها لنفسه فيما سبق، وأن يتناول الظاهرة كما يتناول علماء الطبيعة والكيمياء والفسيولوجيا والسيكولوجيا موضوعات دراستهم، وإن كان من الصعب تحقيق ذلك في علم الاجتماع، لأننا نكون أثناء حياتنا اليومية بعض أفكار عن الأخلاق والقانون والمعاملات الاقتصادية وغير ذلك. ومن العسير نسيان هذه الأفكار.

(الإسكندرية)

أحمد أبو زيد