مجلة الرسالة/العدد 537/الحديث ذو شجون
→ المقترحون والمؤلفون | مجلة الرسالة - العدد 537 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
على مكتب رئيس التحرير ← |
بتاريخ: 18 - 10 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
الكتاب هو سر العظمة الأوربية - ماضينا في صحبة الكتاب
- الأستاذ الههياوي - بين المدارس والكليات
الكتاب. . .
إن الكتاب هو سر العظمة الأوربية، فما تفوقت أوربا إلا بفضل الحرص على مسايرة الحيوات العقلية في الشرق والغرب، وما ارتفع رجل في أوربا إلا وهو مزود بأصدق وأجود ما صدر في العقول في القديم والحديث
ويستطيع من يعرف إحدى اللغات الأوربية أن يطلع على أشهر ما جادت به القرائح في أكثر البلاد، وهذه حقيقة يعرفها من عاش زمناً في مدينة مثل لندن أو باريس أو برلين
الحق أننا لم نفهم أوربا فهماً صحيحاً، ولم نعرف السر في حيويتها العارمة، ولم نلمح من خصائصها غير أطياف
إن أوربا مزودة بأزواد عقلية لا تخطر لأكثر الناس في بال، وقد نعرف غداً أو بعد غد أن المستر تشرشل لم تصرفه مكاره الحرب عن صلاته بالمكاتب ودور التجليد، وقد نعرف أنه لم يخرج من بلد إلا وفي يده كتاب، على كثرة ما زار من البلاد في أعوام الحرب
أوربا المحاربة لا تخيفني، فقد هزمناها في الحرب الصليبية، وإنما تخيفني أوربا المفكرة، أوربا التي تؤلف وتقرأ وتستفيد من كل وقت بلا استثناء وقت الحروب
هل تذكرون كلمة كارليل حين قال إن إنجلترا تفضل آثار شكسبير على أقطار الهند، لو أكرهتها الحوادث على الاكتفاء بأحد هذين المغنمين؟
تلك هي العقلية الأوربية، وذلك هو الفهم الذي يمتاز به أولئك الناس
ماضينا في صحبة الكتاب
لنا ماضي مجيد حفظه التاريخ، فقد سبقنا أوربا إلى تمدين الشرق والغرب، وخلف أجدادنا آثاراً عجز من محوها الزمان فكيف ظفروا بذلك الحظ من الخلود؟
الكتاب هو السر في عظمة أجدادنا، فقد كان فيهم من يحج بيت الله وهو يرمي إلى غاية غير أداء فريضة الحج، كأن يقف في عرفات للسؤال عن كتاب
وعدوان المغول على بغداد لم تسجل فظائعه في غير ظاهرة واحدة هي تزويد أسماك دجلة بما كان في بغداد من نفائس المؤلفات
والحريق الذي صاول الفسطاط ستين يوماً لم يذكر المؤرخون من بلائه غير اجتياحه لذخائر المكتبات
وكان المسلمون حين يستنفرون إخوانهم للدفاع عن بلد من بلاد الأندلس يقولون أنه وطن النوابغ من المؤلفين والشعراء.
وحين تفرق شمل المسلمين في بعض العهود الماضية وجد النابهون لآثارهم العلمية والأدبية، والتشريعية ما يعمر مئات المكاتب، ويضمن الزاد النفيس للإفهام والعقول، بحيث لا تخلو مدينة من آثارهم الجياد
إن أساس المدينة يرتكز على العلم في جميع العصور، حتى عصور الظلم والاستبداد، ألم تروا أن مغامرات هتلر أوحى بها كتاب؟
إن المدافع والطيارات والأساطيل ليست إلا تعابير عن جانب من طغيان القوة الفكرية، كما أن الآداب والفنون تعابير عن جانب من ذلك الطغيان
لا تسمعوا لمن يثبطونكم عن الحياة الفكرية، بحجة أن هذا الزمن ليس زمن الفكر وإنما هو زمن القوة، فالفكر هو المصدر لكل قوة، ولو تمثلت في أبشع الألوان
ومصر تتمتع اليوم بسمعة طيبة من الناحية الفكرية، وهي تدعوكم إلى مواصلة الجهاد العلمي والأدبي، لتصلوا بها إلى ما تسمو إليه من العزة بين كبار الشعوب
أنا لا أكتفي بأن يكون حظ مصر من المجد القديم هو الأستاذية لفلاسفة اليونان في التاريخ القديم، وأكره أن يكون حظ مصر في العهد الإسلامي مقصوراً على رعايتها للحضارة الإسلامية بعد سقوط بغداد
انظروا إلى الأمام ولا تنظروا إلى الوراء، فالفكر من حظ مصر في جميع العهود، وسيكون لها في المستقبل تاريخ يفوق جميع التواريخ، وستعرفون صدق هذه النبوءة بعد حين.
الأستاذ محمد الههياوي
فجع الأدب وفجعت الوطنية في رجل كان من الأعلام بين رجال الأدب ورجال الوطنية، وهو أخونا الأستاذ محمد الههياوي، على روحه ألف تحية وألف سلام
مات الههياوي بعد أن كافح في سبيل الأدب وفي سبيل الوطن أعواماً نيفت على الثلاثين. والذين عرفوا الههياوي كما عرفته يؤمنون بأنه كان قوة وطنية وأدبية قليلة الأمثال
نشأ الههياوي نشأة أزهرية - وكان أبوه من كبار العلماء بالأزهر الشريف - ولكنه تمرد على الأزهر في وقت مبكر، وانطلق إلى ميدان الحياة الأدبية والوطنية بقوة وعنف، ومضى يصاول ذات اليمين وذات الشمال، إلى أن ظفر من قلوب عارفيه بمنزلة لا يظفر لا كرام الكاتبين
يجب أن نقول كلمة الحق في الأستاذ الههياوي، بعد أن رأينا أنه لم يرث إلا بكلمات قصار لا تنقل من شمائله غير ملامح غامضة المعاني، وبعد أن رأينا أصدقاءه يمنون على الوفاء بأنهم جازفوا براحتهم فشيعوا جنازته في عصرية وهاجة القيظ!
كان الههياوي يجد في كل ما يكتب، وكان جده أثراً من صدق العقيدة في الأدب والوطنية والدين، وكان مع جده الصارم غاية في حلاوة الدعابة، فهو المنشئ لأكثر دعابات (الكشكول) يوم كان لمجلة الكشكول سلطان
وفي الأعوام التي اشتد فيها الخلاف بين الحزب الوطني والوفد المصري كان الههياوي أخطر كاتب نافح عن الحزب الوطني، وقد أبلى بلاءً حسناً في مقاومة (مشروع ملنر)، ولم يتركه إلا بعد أن مزقه كل ممزق، ومجموعة (جريدة الأمة) تشهد بصدق ما نقول
اشترك الههياوي في تحرير كثير من الجرائد والمجلات، وكتب في الجد وفي الهزل، ولكنه في جميع أحواله كان قوي المنطق، متين الأسلوب وكان الههياوي شاعراً من الطراز الجيد، ولو جمعت قصائده الجدية لكان من مجموعها ديوان نفيس. أما قصائده الهزلية فهي غاية في اللطافة، وكانت توقع باسم (الشاعر إياه) في مجلة الكشكول
وإذا كان الرجوع إلى الجرائد القديمة يتعب من يريد معرفة القيمة الصحيحة لهذا الكاتب، فأنا أوصي بمراجعة كتاب (الطبع في الشعر) وقد نشرته (مكتبة النهضة)، وهو كتاب يشهد لمؤلفه بالبراعة الفائقة في شرح الدقائق من أسرار البيان
وللههياوي كتاب اسمه (مصر في ثلثي قرن)، وهو كتاب يصور آمال مصر وآلامها في العصر الحديث، وفيه وثبات من الفكر، وبوارق من الخيال وقالت إنجلترا بعد رفع الحماية (الكلمة الآن لمصر) فنشر الههياوي رسالة بعنوان:
(الكلمة لمصر، ولكن ليس لمصر أن تتكلم)
وهي رسالة شرح فيها ما كانت تعاني مصر بسبب الاحتلال
وكان المنفلوطي هدفاً للناقدين في أوج شهرته الأدبية، ولكن الهيياوي تفرد برسالة طريفة سماها (قصص المنفلوطي) وسيكون لها مكان حين يؤرخ النقد الأدبي في هذا الجيل
وأول كتاب نشره الههياوي هو (الفرائد) وهو مجموعة ما كتب في مطلع صباه، ولو رجعنا إليه لرأيناه على سذاجته صوراً تشهد بحيوية الإحساس ويقظة الوجدان
أخي الأستاذ الههياوي
أفي الحق أنك مت وأني لم أجدك إني حاولت أن أراك؟
لا يتعبني أن أتحيز لك فأختلق محاسن لم تكن فيك، وإنما يتعبني أن أبرز محاسنك الأصيلة على الوجه اللائق بمكانها الرفيع
أفي الحق أننا لن نلتقي في الدنيا مرة ثانية، ولن نقضي أياماً كالأيام التي قضيناها في سنتريس بين الزهر والقمر والماء؟ أفي الحق أننا لن نتصاول بالعقول كما كنا نصنع عند التلاقي؟
تلك أيام خلت، ولن تعود، فعليك وعليها تحية الشوق الذي لا يموت
لو رأيت فيك ما يعاب لخف حزني عليك، ولكني لم أرك إلا روحاً أرق من الزهر وأقسى من الزمان، وتلك هي الخصيصة الأساسية لأحرار الرجال
كنا صديقين، وكنت أنت الأكرم والأطيب، فكيف أجزيك وقد ضاعت فرص الجزاء؟
وهل تنتفع بكلمة في رثائك وقد مضيت إلى نعيم لا يعادله نعيم؟
أن موتك دليل على خلود الروح، فما يجوز في نظر العقل أن تكون نهايتك هي النهاية، وقد قضيت حياتك في شقاء بسبب الحرص على صدق الوطنية وصدق اليقين
هل تعرف (ههيا) أنك نقشت اسمها على جبين الزمان؟ وهل تعرف (مصر) أنها فجعت فيك؟ وهل تعرف قيثارة الشعر أنها فقدت وتراً كان غاية في حنان الرنين؟
هذا ما أملك في رثائك، أيها الصديق الغالي، وهو أقل مما يجب لك، وعلى عهد الله أن أشيد بذكراك إلى آخر الزمان بين المدارس والكليات
بدت في هذا العام ظاهرة تستحق التسجيل، لأنها لم تقع من قبل، وهي تأخر المدارس عن الكليات في العودة إلى استئناف الجهاد. ومحاربة الجهل أشرف ضروب الجهاد
أيكون ذلك لأن الطلبة أقوى من التلاميذ؟ أيكون ذلك لأن الأساتذة أحرص من المدرسين؟
لا هذا ولا ذلك، وإنما هي فرصة أتاحها القدر لنعرف كيف أسرفنا في استعجال الناشئين إلى ساحات النضال
الطالب في الكلية غير التلميذ في المدرسة، فالأول جاز دور التكوين الجسماني، فعليه أن يحمل الواجب في صدره وإن كان في إجازة رسمية. أما التلميذ فلا يزال جسمه في دور التكوين، وراحته من متاعب الدرس تعود عليه بالنفع الجزيل
الطالب يعود إلى الكلية وهو على بينة مما سيدرس، فهو يعود جذلان، أما التلميذ فيجهل ما سيعاني من مصاعب الدروس، لأنه تلميذ، والمنهاج يفرض فرضاً على التلميذ
والأستاذ بالكلية غير المدرس بالمدرسة، فالأول يضع بنفسه موضوعات الدروس كما يشاء، وفي حدود ما يطيق، أما الثاني فيواجه موضوعات يوجبها (الجدول)، وقد يكون فيها ما ألقاه بالنص والفص عدداً من السنين
أما بعد فماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على أن الإجازات ليست من الأوقات الضوائع، كما يتوهم بعض الناس، وإنما هي مواسم لتكوين الأبدان والأرواح والأحاسيس، وتلاميذ المدارس أحوج إليها من طلبة الكليات، وما وقع في هذه السنة وقع بالمصادفة، ولكني أحب أن يكون واجباً نراعيه في الأعوام المقبلات
هل تذكرون أن إجازات المدارس الأولية زادت في هذا العام عن ثلاثة أشهر، وأن ناساً عدوها ترفقاً خرج عن الحدود؟
أنتم تذكرون هذا، ولكنكم تنسون أن الأطفال بالمدارس الأولية كانوا يعودون إلى الدروس في شهر أغسطس وهو (آب، اللهاب)، كما يسميه أهل الشام والعراق
ترفقوا قليلا بالأطفال، واذكروا أنهم في عهد التكوين، وأن راحتهم من الدروس غذاء يفوق كل غذاء ثم ماذا؟ ثم انتهز الفرصة فأتحدث عن مشكلة تعانيها المدارس ولا تعانيها الكليات، وسأفصل حديثها بدون إسهاب:
هذا مدرس عينته الحكومة بمدرسة ابتدائية وفرضت عليه أن يلقي أربعة وعشرين درساً في الأسبوع، فاحتمل العبء راضياً لا كارهاً لأنه في عنفوان الشباب
وهذا المدرس نفسه ظل يخدم العلم بالمدارس الابتدائية إلى أن شارف التاسعة والخمسين، فكيف يجوز أن يحمل من أعباء الدروس ما كان يحمل قبل أن يصل إلى الثلاثين؟
عليه أن يحتمل أو يعتزل، فالمدارس تعرف التلاميذ ولا تعرف المدرسين، لأن نتائج الامتحان هي العنوان! ولو أنها خففت العبء عن المدرس الذي تقدمت به السن لقدم لها منافع تفوق الحدود
المدرسة الفلانية هي أولى المدارس، لأن تلاميذها بلغوا حدود التفوق، ولم تكن أولى المدارس لأن مدرسيها ظلوا من نكد العيش في أمان
التلميذ هو المقصود بالعطف والرعاية، أما المدرس فهو جلمود لا يجوز عليه الإفضال
هو مدرس، ومهنة التدريس (مهنة بلا مجد) فليصبر كارهاً على جدول كان يطيقه قبل الثلاثين، وليقل (راضياً) إنه يطيقه في التاسعة والخمسين!
إلى من نوجه القول؟
نوجهه إلى المراقبين بوزارة المعارف وقد اكتوت أيديهم بالتعليم، ولطف الله بهم فلم يرهقهم بالجدول الكامل إلا أن يشارفوا سن المعاش
إني أنظر إلى أولئك المراقبين بعين الاحترام، لماضيهم الجميل في خدمة النهضة التعليمية، ولكني أعجب من سكوتهم عن مشكلة لا يجوز عنها السكوت، وهي اختلاف القدرة البشرية باختلاف الأسنان
ثم ماذا؟ هذا مدرس قاتل المتاعب حتى انتصر، فبلغ الستين وهو بعافية فكيف يحال إلى المعاش ليعاني الفاقة في أعوامه الباقية؟
أما بعد - وقد تعبت من أما بعد - فهذه ملاحظات أقدمها إلى معالي وزير المعارف، راجياً أن تظفر من اهتمامه بما هي له أهل، مع الاعتراف بأن مهنتنا قامت على أساس التضحية، وأن حظنا هو أجمل الحظوظ في أسوأ الفروض وهل يشكو من يستطيع القول بأن له تلاميذ هم الدرة الغالية في تاج الوجود؟
زكي مبارك