الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 536/المشكلات

مجلة الرسالة/العدد 536/المشكلات

بتاريخ: 11 - 10 - 1943

7 - اللغة العربية

للأستاذ محمد عرفة

لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟

لقد استغللنا ما استنبطناه من علم يتعلق بتعليم اللغة في تعليم اللغة العربية وفي تعليم اللغة الإنكليزية وفي تعليم اللغة الفرنسية وأصبح في استطاعتنا أن نتقي الإخفاق في تعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية، وأن نتقي هذا الرسوب الذي يمني به تلاميذنا في آخر كل عام دراسي في هاتين اللغتين والذي يبلغ في بعض السنين 78 % ووهبنا للتلاميذ أعماراً بقدر الأعوام التي وقيناهم فيها الرسوب والتي كانوا يرسبون فيها لولا أخذهم بهذا المنهج الجديد، ونفينا عنهم وعن أهاليهم ذلك الحزن الذي كان يستولي عليهم في آخر كل عام دراسي بهذا الرسوب. ووفرنا على أهاليهم تلك الأموال التي كانوا ينفقونها في إعادة الأعوام التي رسبوا فيها. ومن ذلك يعلم أن الباب الواحد من العلم إذا استغله أهلوه كان عظيم البركة جليل النفع، وربما كان أجدى على الأمة والأفراد من كثير من الخيرات المادية

ولسنا نستغل هذا الباب من العلم في تعليم اللغات فحسب بل سنستغله في كثير من مشكلاتنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية فيرى كيف يعظم نفعه، وتجل بركته، وكيف يجلب من الخير مالا يدركه الوهم، ولا يحصيه العد

وهذا وأمثاله هو الذي جعلني أومن بالعلم وأعظمه وأجله، وأرى أنه ما من خير للأفراد والأمم إلا وهو مصدره، وما من شر يصيب الأفراد والأمم إلا وللجهل يد فيه ظهرت أو خفيت

لعل قائلاً يقول: إنك آمنت بالملكة في كسب اللغة العربية إيماناً لا تزعزعه الشكوك، وظننت أنها تفيد في كسب العربية كما تفيد في كسب اللغة الإنجليزية والفرنسية، ولم تفطن إلى ما بين اللغة العربية وسائر اللغات من فارق

إن اللغة العربية كثيرة الأحكام، متشعبة الفروع، فلا تستقل الملكة بضبط هذه الأح الكثيرة، ولا يضبطها إلا العلم المفصل بالقواعد والقوانين، وسأضرب مثلاً (لا) العاملة عمل إن، فإن شرط عملها هذا العمل

1 - أن تكون نافية

2 - وأن يكون المنفي الجنس

3 - أن يكون نفيه نصاً

4 - ألا يدخل عليها جار

5 - أن يكون اسمها نكرة

6 - أن يكون متصلاً بها

7 - أن يكون خبرها نكرة - فإن كانت غير نافية رفع ما بعدها، وإن كانت لنفي الوحدة عملت عمل ليس نحو لا رجل قائماً بل رجلان، وإن دخل عليها الخافض خفض ما بعدها نحو جئت بلا زاد، وإن كان الاسم معرفة أو منفصلاً منها أهملت نحو لا الدار دار ولا الجيران جيران، ونحو لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون

هذه أحكام كثيرة ولا يسعف بها إلا معرفة القواعد، فأما الملكة فلا تستطيع الاهتداء إلى هذه التفاصيل

ونحن نقول لهذا القائل إنك أسأت الظن إذ ظننت أن الملكة لا تهتدي إلى الفروق الخفية والمداخل المتشعبة، أنها أهدى من القطا، وإن الإنسان يطمئن إليها في الهداية إلى ما يشتجر من الأحكام. إنها تهدي المرء إلى الصواب الجاري على القواعد وإن لم يعرف القواعد. أنظر إلى الهمزات في علم الرسم كيف يكتب المرء يئد على ياء، ويأمن على ألف، ويؤمن على واو، تهديه ملكته التي اكتسبها بالمرانة والتكرار وإن لم يعلم القاعدة أو لم يستحضرها

وكذلك الألفات ما يكتب منها ألفاً وما يكتب منها ياء، فيكتب المرء رمى بالياء ودعا بالألف كأن في منطقة اللاشعور فينا عالماً يعلم أن رمى أصلها الياء فتكتب ياء، ودعا أصلها الواو فتكتب ألفاً، ويكتب أغزى بالياء كأن عالماً فينا يعلم أنها وإن كان أصلها الواو إلا أنه لما قيل فيها أغزيته كتبت ياء

يعجب المرء كيف تهدي الملكة إلى الحق كأنما تستملي من قواعد مكتوبة، وتمتاز الملكة عن القواعد بالسرعة التي لا يبلغها الرجوع إلى القواعد. ولقد بلغ من اهتداء الملكة أنها تكتب المطرد على حسب القاعدة، والشاذ على ما قيل من شذوذ، فهي تكتب داود بواو واحدة، وتكتب بعمرو بواو بعدها، وتكتب مائة بألف زائدة وإن لم تكن في هجائها

فإذا كانت هداية الملكة ما ذكرنا في الكتابة فلا عجب أن تهدي مثل هذه الهداية في الكلام

قال أبو الفتح عثمان بن جني م392 في كتابه الخصائص: سألت الشجري يوما فقلت له: يا أبا عبد الله! كيف تقول: ضربت أخاك، فقال: كذاك. فقلت أفتقول ضربت أخوك؟ قال لا أقول أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك؟ فقال: كذاك. فقلت ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً؟ فقال: إيش ذا؟ اختلفت جهتا الكلام. نقل أبو الفتح هذه الحكاية في باب عنوانه أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها. واستدل بها على أن العرب كانت تعرف قواعد النحو والصرف، ورأى أن ما قاله الأعرابي نظير قول النحاة: صار المفعول فاعلاً

وليس ما ذهب إليه ابن جني من الاستنتاج صحيحاً، فهذا العربي لم يكن يرجع إلى القواعد، وإنما كان يرجع إلى ملكته يستشيرها ويستهديها فنبت ملكته عن ضربت أخوك، ولم تنب عن ضربني أخوك، كما تنبو ملكة الكاتب عن كتابة الهمزة في يئد بالواو وفي يؤمن بالياء، وإن لم يعرف القاعدة ولم يستشرها

لعلنا بذلك قد طمأنا الذين يشفقون على اللغة من أن يكلوها إلى الملكة، ويرون أن الملكة لا تكفي هادية، لأن مذاهب العربية مختلطة متشعبة قريب بعضها من بعض، لا يفرق بينها إلا العقل الواعي والعلم البصير. وقدمنا من الأدلة ما يدل على أنهم إذا وكلوها إلى الملكة فقد وكلوها إلى حفيظ أمين

فليتأمل هؤلاء الذين يصدون - أو سيصدون - عن طريقتنا فيما نحاول، أننا نحاول كسباً جديداً للغة العربية، فبدل أن نقتصر على علم قواعدها تكون لنا ملكة وهيئة راسخة من هيئات نفوسنا وجزءاً من كياننا، وتكون هذه الملكة دعامة لفهم اللغة وتذوقها، ولفهم قواعدها وأصولها دون جهد أو عناء

ليعلم هؤلاء الذين يحبون النحو والصرف وقواعد البلاغة، أننا نحب النحو والصرف وقواعد البلاغة أكثر منهم حين ندعو إلى تعليم اللغة بأسلوب يكون ملكة اللغة في نفوس المتعلمين، لأننا نريد أن نجعل قواعد النحو والصرف والبلاغة فوق العلم بها ملكات لنا مختلطة بلحومنا ودمائنا غائصة في أعماق نفوسنا وداخلة في منطقة اللاشعور فينا

لقد ظفرت اللغة العامية مع عدم الاحتفال بها والعناية بتعليمها بأن صارت ملكة في النفوس، فغلبت اللغة العربية التي لم تظفر بذلك إلى الآن، وكانت لغة البيت والشارع والمدرسة ولغة الدرس والخطاب ولغة الأغاني والمسرح والخيالة، وليس للغة العربية حظ في شيء من ذلك إلا أنها لغة الكتابة، والذين يكتبون بها قليل، وهذا القليل لم يكتسب الكتابة من القواعد وتعلمها، إنما اكتسبها من طريق الحفظ والقراءة وتذوق الكثير من بليغ المنثور والمنظوم ومن مزاولة الكتابة والكلام بها، حتى اكتسب نماذج ذهنية في نفسه ومناطق اللاشعور فيه، يتكلم على مقتضاها، وينسج على منوالها، فلم لا نسعى لرفع اللغة العربية من مجالها الضيق المحدود إلى المجال الواسع غير المحدود؟

لم نتركها خافتة ضئيلة النفوذ محدودة السلطان بعيدة عن الجماهير وعن كثير من الخاصة لا تعرفهم ولا يعرفونها مقصورة على طبقة قليلة من خاصة الناس؟

إنما أريد بما أعرض من هذا التوجيه الجديد أن ننقذ اللغة العربية من سيطرة العامية وأن نوسع دائرة نفوذها في شؤون الحياة

يا سبحان الله! أيعلم كل صانع في الدنيا أنه لا يحذق المتعلم صنعته إلا بالمرانة والتكرار، فلا يكتفوا بإلقاء القواعد للمتعلمين وحفظها بل يأخذوهم بالدربة والمرانة على أعمال صنعتهم الجارية على حدود قواعدها، حتى يحذقوا صناعتهم، ولا يعلم ذلك رجال العلم في بلاد الشرق منذ آماد طويلة، فاكتفوا في تعليم اللغة بدراسة قواعدها ورأوا تلك السبيل المثلى في تعلمها، وأنها تفيد الطالب الناشئ، وتجعله قادراً على التعبير بها في صحة وإتقان! ومن عجب أن إخفاق القرون في هذا السبيل لم يصرفهم عنها ليبحثوا عن منهج أسد، وطريق أقوم.

محمد عرفة