مجلة الرسالة/العدد 535/الحديث ذو شجون
→ ومن أساليبهم | مجلة الرسالة - العدد 535 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
مهمة تجديد الأدب العربي بين الشباب وبين الشيوخ ← |
بتاريخ: 04 - 10 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
سبحان المنعم الوهاب - كن مع الله تر الله معك - سخافات الأغاني الشعبية
سبحان المنعم الوهاب
قلت لصديقي الأستاذ عبد الحفيظ خليفة: إن فاكهة المنجة توحي إلى آكلها بأن يقول الحمد الله، لأن حلاوتها حلاوة عبقرية، فهي دون العسل في الحلاوة، ولكن لها مذاقاً يفوق الشهد بمراحل طوال، ولذلك توحي إلى معاني من الشكران لا يوحيها أطيب طعام ولا أعذب شراب
فقال صديقي: عرضت فاكهة المنجة على أحد الناس فرفض أكلها بحجة أنه لا يستطيع شكر الله على طعمها اللذيذ. وكان أحد الصوفية حاضراً فصرخ: وهل تستطيع شكر الله على هذا الكوب من الماء؟
وعند هذه الكلمة سألت نفسي: كيف جاز أن يرخص الماء فلا تكون له تسعيرة في أعوام الحرب؟
ثم أجبت: كان ذلك لأن الماء هو أساس الحياة، فلا يعيش بدونه مخلوق، ومن أجل هذا منحه الله بسخاء، وهو الزاد الوحيد الذي يستوي الناس في الاحتياج إليه، كما يستوون في الاحتياج إلى النور والهواء
وأنا من قبل هذا الخاطر بأعوام فكرت في صعوبة انتفاع الأراضي الفرنسية بمياه الأنهار، لأنها كثيرة التفاوت في الارتفاع والانخفاض، ولا يمكن أن تعتمد على مياه الأنهار في صيف أو شتاء. وكان الجواب أن الله أمد تلك الأراضي بالأمطار الثجاجة بالنهار وبالليل، فهي في غنى عن الأنهار، ولو كانت في حلاوة نهر السين
وأنا أيضاً فكرت من قبل في استواء الأراضي المصرية، وهو استواء حرمها جمال التفاوت في الحزون والسهول، وكان الجواب أن الله جعلها كذلك ليقدر النيل على ريها بلا عناء
أمر الله في خلائقه أعجب من العجب، فله تدابير تعجز عن وعيها كبار العقول، وهو قد يجعل السعادة في الكوخ الحقير أضعاف ما يجعلها في القصر الكبير، ليقول بالتلم بالتصريح إن أمره الأمر في تقدير السعادة والشقاء
ثم نظرت في حالي وأحوالي منذ ثلاثين سنة، فقد كان من أدبي أن أفرح علانية بطعام البيت، وكان فرحي فرحاً حقيقياً، لأن الطعام في تلك السنين كان غاية في نضارة المنظر وحلاوة المذاق، بحيث صح عندي أن يد زوجتي هي وحدها اليد الصناع في تأليف الصنوف الطريفة من أطايب الطعام المحبوب
ولكن يوماً صائفاً جاء بما لا أريد، فقدم إلي طعام لا أشتهيه في أيام الصيف، وكانت النتيجة أن أهم بالاعتراض، وعلى من أعترض؟
إن زوجتي تحتمل غضبي، ولا يصعب عليها أن تترضاني، فهل ألومها على الذي اختارت من الطعام في ذلك اليوم الصائف؟
في أقصر من لمح البصر تيقظ قلبي، وأدركت أن الاعتراض على رزق الله بداية الانخذال، وأني لو جحدت الرزق في أي صورة لذهب إلى غير معاد
أقبلت على الطعام كارهاً لأتقي غضب الله وإيذاء زوجتي، فرأيته طعاماً شهياً لم أتذوق مثله من قبل، وكانت العاقبة أن أحمد الله من صميم الوجدان
إن نعم الله تواجهنا من كل جانب، ويكذب من يزعم أن الله يتخلى عمن يتوكلون عليه في النعماء والبأساء
الله لا يتخلى عنا إلا حين ننساه
وهل يتخلى الله عنا حين ننساه؟
إنه يتركنا لما نريد بأنفسنا، فيجب إلى من نعتمد عليهم أن يشغلونا عنه بالجاه والمال، تأديباً للانحراف عن طريق الرشاد؛ والعقاب الصارم هو أن تستغني عن الله وتحتاج إلى الناس
الديدان الجاهلات في أجواف الأحجار والثلوج أصدق إيماناً بالله من أشباه العلماء
والشجرة اليتيمة في البادية القاسية ترى الله بأقوى مما تراه الأشجار المزودة بالأنهار الجارية
وهل حفظ تاريخ الملوك بقدر ما حفظ تاريخ الصوفية؟
إن الفاجرين الذين صدقوا في فجورهم كانت لهم مكانة في التاريخ القديم والحديث، فكيف يضيع من آمنوا بصاحب العزة والجبروت؟ كن مع الله تر الله معك
صديقي العزيز
هل تذكر حديثنا منذ أيام ونحن نقطع الطريق في وهج الظهيرة من وزارة المعارف إلى ميدان باب الحديد، مع أننا نملك اجتياز المسافة بسيارة لا تكلفنا غير دراهم معدودات؟
هل تذكر أني قلت لك إني أحب أن أرى نعم الله على عباده ليزداد إيماني؟
وماذا رأينا في ذلك الطريق؟
أنت لم تر شيئاً، لأنك كنت مشغولاً بمحادثتي في شؤون لا ينقلها سمعي إلى قلبي، وسيطول بلاؤك بتلك الشؤون، فهي لا تخرج عن منصبك وراتبك، ولا تزيد عن شكواك من نظام الترقيات والعلاوات، يا عبد الوظيفة ويا عبد التراب!
أما أنا فقد رأيت ورأيت، فهل تحب أن تعرف بعض ما رأيت؟
لقد اقتنعت بأن الله لم يجعل القاهرة مدينة البؤس، كما يقول بعض الناس، فمن السهل أن ترى العيون ألوفا من المنعمين بالثروة والعافية والجمال
في كل لحظة يقع النظر على وجه أصبح، ويقع القلب على روح لطيف
وفي كل خطوة ترى طلائع من طلاب الرزق الحلال، ترى عمالاً يكدحون ليعودوا إلى أهليهم في المساء وجيوبهم عامرة وأنفسهم في ابتهاج
وهل قامت تلك البنايات الشامخات إلا بسواعد أولئك الفتيان الضاحكين برغم شظف العيش وخشونة الثياب؟
إن منظر ذلك البواب سرني، فقد أسند رأسه إلى الباب وغفا غفوة مريحة لن تظفر بمثلها في سريرك، يا مشغولاً بحظك الفضفاض من دنياك
ومن العجب العجاب أن ترى رجلاً يقرأ في مصحف وهو على كيس أحد المخازن التجارية، كأنه لم يسمع أن بدعة العصر توجب نسيان المصاحف والأناجيل!
وفي الشارع رأينا جنوداً يحتضنون زجاجات البيرة، وبالقرب منهم رأينا عمالاً يحتضنون القلل القناوية، فأين السعداء من أولئك وهؤلاء؟
صاحب الزجاجة يبتلعها ابتلاعاً قبل أن يحل عليه أمر الحاكم العسكري بانتهاء الوقت المحدد للشراب، وصاحب القلة يمتص منها رشفة بعد رشفة وهو في أمان هل رأيت ذلك الفتى؟
إنه غلام لم تظفر بمثله قصور الملوك في عصور الترف والطغيان، فكيف رضي أن يكون عاملاً فقيراً، وهو يستطيع بشبابه وجماله أن يكون زهرة بستان أحد الأغنياء؟
في مصر معنى اسمه الشرف، وهو معنى ظفرت منه مصر بأعظم نصيب
وهل رأيت تلك الفتاة؟
إنها ريحانة مطلولة، وهي تستطيع الاتجار بالقلوب لو أرادت، ولكنها لا تريد لأنها مصرية، والمصرية نموذج في التصون والعفاف، ويكذب من يزعم أن مخاطر الحرب غيرت أخلاق المصريات
نحن بنينا مدينة القاهرة بأخلاقنا قبل أن نبنيها بسواعدنا، والساعد المتين فرع عن الخلق المتين
إنك لا ترى جلال الله في أي مكان كما تراه في القاهرة، ولعلها أول مدينة ينتصر فيها الجد وينهزم الهزل
ألا ترى أن روح القاهرة ظل قهاراً برغم عوادي الحرب؟
والذي يعوزك يا صديقي هو أن تكون مصرياً مؤمناً بالله، لتنتصر على أوهامك، ولتكون من أعاظم الرجال
إنك تلومني على أن أظل بين أقلامي وأوراقي ساعات من كل يوم، فهل تعرف السبب فيما اخترت لنفسي؟
إني أؤدي زكاة العافية، وأنا أفهم كيف أراد الله أن يحميني من قضاء ليلة واحدة في سرير المرض، على طول ما شرقت وغربت في السنين العجاف
وأنت يا صديقي تنكر أن أضيع حظي ممن عرفت من أكابر الوزراء
وأقول إني أخشى أن يغضب الله علي إن اعتمدت على سواه
قال صاحبي: كن مع الدنيا لترتفع معك
فقلت: وأنا لا أنخفض ليرتفع أصحابي!
سخافات الأغاني الشعبية
تقدم محطة الإذاعة من يوم إلى يوم ومن ليلة إلى ليلة أشياء تسميها الأغاني الشعبية، وهي أغان يغلب عليها السخف، لأنها تحاول دائماً أن تجعل لغة الشعب المصري لغة بعض أبنائه من أهل الصعيد (!؟)
والخطأ ظاهر في هذه المحاولة، لأن اللغة العامية للشعب المصري هي لغة أهل القاهرة، كما أن اللغة العامية للشعب الفرنسي هي لغة أهل باريس
وقد كان للصعايدة لغة خاصة يوم كانوا لا يتصلون بالعاصمة إلا بعد سفر يطول حتى يحترم أسابيع وأسابيع، فكيف تكون لهم لغة خاصة بعد أن صارت المسافة بين القاهرة وأسيوط لا تزيد عن المسافة بين القاهرة ودمياط إلا بدقائق، والمسافة هنا وهناك يقطعها القطار في مدة أقصر مما بين باريس وليون؟
سمعت في مساء اليوم الثالث والعشرين من شهر أيلول مغنياً يقول:
(طال بعدك ولا ساجل عني)
و (ساجل) هي (سائل) فهل سمعتم في أي أرض عربية أن الهمزة تنطق جيماً إلا على ألسنة الجهلة من أصحاب الأغاني الشعبية في محطة الإذاعة المصرية؟
إن لغة الخرطوم هي لغة القاهرة بالضبط الصحيح، فهل ترون الخرطوم أقرب إلى القاهرة من أسيوط؟
اتقوا الله في مصر يا جماعة المتحذلقين من أنصار العامية، فما يقول (ساجل) وهو يريد (سائل) إلا سخيف بلغ سخفه حداً لا يطاق
(طال بعدك ولا ساجل عني)
ذلك ما هتف به مغنٍ في محطة الإذاعة ولي عليه شهود، فماذا يبتغي هذا الظريف؟ أيزعم أن الصعايدة يجعلون الهمزة جيماً، وذلك زعم سخيف؟
إن لغة المصريين ارتقت رقياً عظيماً، وصار في مقدور صغار العوام عندنا أن يفهموا ما تنشره أعظم المجلات الأدبية بأيسر مجهود
ولكن محطة الإذاعة لا تفهم هذا القول
وأين محطة الإذاعة؟ حدثوني فقد غاب عنوانها عني!
إن جاريت المطرب الذي فرحت به فهي محطة (القزاعة) بالقاف، ولن ألتفت إلى (سقالها) إن وجهت إلي (السؤال) الأغاني الشعبية في محطة الإذاعة هي ردة سخيفة إلى عهود لا نحب أن تعود
إن كانت محطة الإذاعة تريد أن تكون محطة بهلوانية فهي وما تريد، على شرط أن تصرح بأن أغانيها الشعبية عبث أطفال
الجد هو دستور الحياة ولو كان في صورة الهزل، فجدي يا محطة الإذاعة لتكوني صوت الحق في هذه البلاد
زكي مبارك