مجلة الرسالة/العدد 534/الإسلام والفنون الجميلة
→ مكتبات عربية | مجلة الرسالة - العدد 534 الإسلام والفنون الجميلة [[مؤلف:|]] |
كوبيرنيكوس ← |
بتاريخ: 27 - 09 - 1943 |
2 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
رأينا مما تقدم أن الأديان السابقة على الإسلام إما استفادت من الفنون الجميلة في إيضاح عقائدها وتقريب مبادئها للأذهان، وإما أنكرت هذه الفنون وقضت عليها، أما الإسلام فموقفه منها يختلف جد الاختلاف عن هذين الموقفين: فهو لم يستخدم الفنون الجميلة في دعوته كما استخدمتها الوثنية والمسيحية، ولم ينكر هذه الفنون كما أنكرتها اليهودية، ولكنه تضمن توجيهات مختلفة كان لها أبعد الأثر في تكوين الفن الإسلامي بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، وبعضها كانت بمثابة عوامل مساعدة على رقي الفنون الإسلامية الجميلة ونضوجها. وسنبين فيما يلي هذه التوجيهات المتباينة لنرى كيف استطاع الإسلام بنواهيه وأوامره أن يخلق فناً جميلاً له روعته وبهاؤه
ويتجلى لنا أثر التوجيهات الإيجابية في فنون الخط والزخرفة والعمارة. أما فن الخط فقد حظي من عناية المسلمين جميعاً بنصيب وفير، وكان للخطاطين عندهم مركز ممتاز لا نبالغ إذا قلنا أنه قد تسامى إلى مركز الملوك والأمراء إذ نزل هؤلاء إلى ميدان الخطاطين ينافسونهم في صنعتهم لا سعياً وراء الكسب المادي، ولكن رغبة في الحصول على الفخر الأدبي؛ فكانوا يكتبون بأيديهم نسخاً من القرآن الكريم يقدمونها للبقاع المقدسة. والذي أعطى للخط العربي هذه المكانة الممتازة هو اتصاله القوي بالقرآن كلام الله الذي نزل باللغة العربية على محمد صلوات الله عليه (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً) فالخط هو وحده أداة كتابة هذا الوحي فضلاً عن أن الحق جل وعلا قد أضاف تعليمه إلى نفسه (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، كما أنه سبحانه أقسم به (ن والقلم وما يسطرون). ومن هنا كان إقبال من اعتنقوا الإسلام على تعلم الخط العربي، ومن هنا وجدت صلة من أوثق الصلات ربطت العالم الإسلامي بعضه ببعض، إذ توحد شكل الكتابة، فصارت الهندية والإيرانية مثلاً تكتبان بالحروف العربية
هذا ولقد ظهر بظهور التصوف في الإسلام علم ينسب إلى الحروف العربية أسراراً خفية تمكن الإنسان من التأثير في المخلوقات بواسطة (الأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار في الأكوان)، كما يقول ابن خلدون في مقدمته. ولا يع من أمر هذا العلم إلا شيء واحد، هو أن هذه العقيدة قد دفعت بالمسلمين إلى تزيين ما أخرجته أيديهم من المصنوعات أو شيدوه من العمائر بالآيات القرآنية والعبارات الدينية، والصيغ المختلفة للمدح أو الدعاء، طلباً لما وراءها من الخير والبركة. ولقد كان لهذا أثر بعيد في فن الخط، إذ أصبح مضروباً مشتركا في جميع فروع الفن الإسلامي، وتحكمت المادة التي يكتب عليها في شكل الحروف، فظهرت لها صور مختلفة على الآثار المختلفة، وأصبحت على الحجر غيرها على الخشب، وعلى النسيج غيرها على الخزف. وفي الحق لقد كانت إجادة الفنان المسلم لفن الخط بوحي من الإسلام، ولم تتجل عبقريته الفنية في ناحية من نواحي الفن الجميل بقدر ما تجلت في هذه الناحية: خلق من تلك الحروف ذات الأشكال المتباينة والأوضاع المختلفة طرازاً زخرفياً تبدو فيه صور من الجمال شتى، بعضها يفيض بالقوة، وبعضها يفيض بالرقة والأناقة، أوحت إليه الحروف العربية برؤوسها وسيقانها وأقواسها ومداتها بعناصر زخرفية ما كاد يرسمها حتى بعثت فيه تلك اللذة البريئة التي يحس بها الفنان عندما يشاهد أثراً جميلاً، فاندفع في هذا التيار يبتكر الزخارف والنقوش، غير آبه بما تفرضه عليه أصول الخط من المستلزمات، ولا بما يسببه للقارئ - في بعض الأحيان - من الإعنات، بل كان همه أن يرضي الفن فحسب، فتارة يجعل الحروف متجمعة كأنها شجرة كثيفة الأغصان وطوراً يرسمها متباعدة، كأنما هي بستان انتثرت فيه الأزهار، وتارة يريك من التنوع الجميل بين الحروف القائمة والحروف المستديرة ما ينتزع منك الإعجاب انتزاعاً، ويرغمك على أن تقر له بالتفوق والنبوغ. ولشد ما كان يضحي على مذبح الفن بالكثير من قواعد الخط، ويتركنا نقاسي من الجهد شيئاً عظيما حتى نهتدي إلى ما يريد، وقد لا نهتدي.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية