مجلة الرسالة/العدد 532/حكاية الوفد الكسروي
→ إلى الأستاذ الزيات | مجلة الرسالة - العدد 532 حكاية الوفد الكسروي [[مؤلف:|]] |
نشأة الدرامة الإنجليزية ← |
بتاريخ: 13 - 09 - 1943 |
2 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
من صائغ أسطورة (الوفد القرشي) التي وردت في العقد والأغاني؟
ابن عبد ربه يرويها عن نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن ابن عباس. وأبو الفرج ينسخ الخبر من كتاب عبد الأعلى يحدثه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. . .
ابن عبد ربه أقدم من أبي الفرج؛ فقد ولد سنة 246 وتوفي سنة 328 في ذلك الإقليم النائي. وصاحب الأغاني ولد سنة 284 وتوفي سنة 356. فقد يكون صاحب العقد وقف على مصنف أسبق مما وقف عليه أبو الفرج، وربما اطلع هذا على مؤلف أثبت وإن تأخر وقته. فهل صاغها نعيم أو صائغ عزاها إليه أو زخرفها الكلبي، وإن كان سجعها يبدو بغدادياً لا كوفياً، وهل لشبل الكلبي. . . أعني ابنه هشاما يد فيها، وهل أودعها كتاب وفوده؟
نقص الخزانة العربية اليوم يصدنا أن نجيب جواباً مضبوطاً. فلعل بقيات مما نجا من الزمان والتتر والصليبيين والأسبان محرقي كتبنا ومغرقيها - يظهر فيخرجنا من ظلمات حالكات نحن فيها
ولا ضرر - وقد عرفنا ذرواً من أخبار ابن الكلبي - أن نعرف شيئاً عن أبيه الكلبي. وهذا بعض ما جاء في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ج3 ص 61:
(قال الثوري: اتقوا الكلبي. فقيل: إنك تروي عنه. قال: أنا أعرف صدقه من كذبه. قال يحيى بن يعلي عن أبيه: كنت أختلف إلى الكلبي أقرأ عليه القرآن فسمعته يقول: مرضت مرضة فنسيت ما كنت أحفظ؛ فأتيت آل. . . فتفلوا في فيّ فحفظت ما كنت نسيت. فقلت: لا والله لا أروي عنك بعد هذا شيئاً، فتركته. قال يزيد بن زريع: حدثنا الكلبي وكان سبئياً. قال الأعمش: اتق هذه السبئية، فإني أدركت الناس وإنما يسمونهم الكذابين. قال ابن حبان: كان الكلبي سبئياً من أولئك الذين يقولون: إن عليا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا ويملأها عدلاً كما ملئت جورا، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها. التبوذكي: سمعت الكلبي يقول: أنا سبئي. ابن معين: الكلبي ليس بثقة. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال ابن حبان: مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من يحتاج إلى الإغراق في وصفه، يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فلما احتيج إليه أخرجت له الأرض أفلاذ كبدها، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به. . .)
قولي منذ (19) سنة (ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج، ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته) - لا يدل إلا على ما يدل عليه، وهو شرح حال اقتضاء المقام؛ ونقد رهط لغوا عن الصواب في الخطاب لا يعم فصائلهم وعشائرهم، دع عنك عمومه الجيل الذي أبدع (المبدع) منه تلك الأمة. والثرثرة والهذر والنفج في أقوال الوفد الكسروي ظاهرة. فهل يعقل أن يستقبل مثل كسرى بها وهو سلطان زمانه، وأقاليم في الجزيرة من أعماله، وأمثال النعمان من عماله. وقد تفطن الصباغ لشيء من ذلك فقول كسرى في ختام الأسطورة ما قوله، وقوله حين لغا أكثم بما لغا به: (ويحك يا أكثم، ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه)
وليست خطبة أكثم من إنشاء (الواضع) ولكنها أمثال قديمة متفرقة منسوب أكثرها إلى أكثم بن صيفي هذا، وقد ألف بينها من صاغ الخبر فما تجاوبت ولا تناسبت
وأحب أن أقول اليوم: إن العربية الحقيقية بأن نستمسك بها ونتعصب لها هي التي ذكرت في (الرسالة) 221 ص1562 السنة 5:
(وإذا ذكرنا العربية فإنما نعني هذه العبقرية ذات التعاجيب المحمدية، وهذه القوة الخلقية، وهذه المقاصد القرآنية، وهذه الآداب الإلهية، وتلك الحضارة والمدنية. . . ليست العربية نسبة ولكنها جامعة تؤلف بين القلوب. . . فالعربي هو ذلك المتمدن المتحضر المهذب المثقف المتعلم العالم العزيز الأبي الناطق بلسان القرآن، وليس بعرب (خراب بادية غرتي بطونهم) ولا قراضيب في (الجزيرة) ولا مدلغفون. . .)
وقد دفع أدباء وعلماء من السلف إلى تفخيم العربية الجاهلية عصبية أو ولع بتعظيم قديم، ودعت إلى التنويه بها في هذا الزمان مقاصد خبيثة غريبة
إن العربانيين المنتمين إلى دور السياسة و (التضليل) يقولون متوهمين: كانت العرب في الجاهلية وكانت، وكان عندهم ما كان، فماذا عملت الإسلامية، وبأي شيء جاء محمد؟ (هم العدو، فاحذرهم، قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون)
خبر الوفود
إن هذا الخبر لا أصل له، فلم يقل النعمان في وقت ما قال، ولم يرسل من ذكرته القصة، ولم تتحرك الألسنة قدام كسرى بشيء مما روي قط، ولم يشر إلى هذه الواقعة مؤرخ أو أديب في مصنف عرفناه أقل إشارة. وقد زخرفه مزخرفه كما صاغ الصواغون من قبله وكما صبغ الصباغون من بعده، وقد سيطرت عليه لغته ولغة وقته، فلم تشبه نثر الجاهليين وإن كنا لا نعرفه إذا لم يثبت من النثر القديم إلا القرآن كما ذكرت ذلك منذ (19) سنة، وإن كنا نجهل ذلك النثر فإننا نتصوره، ولا ريب في أن هناك نثراً بدوياً ونثراً حضرياً وقد نزل القرآن بالنثر الحضري لأنه إنما كان لكل جيل وزمان. ولم يشبه أسلوب الخبر أسلوب الإسلاميين، ولدينا من هذا القرن ما قد يطمئن إليه بعض الاطمئنان
إن صائغه أنشأه (مقامة) لفقها ونمقها، ولم يحتط، ولم يفكر في أن يحتاط، ولم ير حاجة إلى ذلك هو في منثور ينثره هو في (البلاغة) لا في تاريخ يحققه؛ على أن التاريخ هو ابن عم الأسطورة. وفي الخبر أشياء أدل على الوضع من أشياء، وهذه طائفة منها.
(ن)