مجلة الرسالة/العدد 531/من تواريخ الأدباء الشعراء في الأدب الفرنسي
→ تصويبات في الذخيرة | مجلة الرسالة - العدد 531 من تواريخ الأدباء الشعراء في الأدب الفرنسي [[مؤلف:|]] |
بولاق ← |
بتاريخ: 06 - 09 - 1943 |
جان دولافونتين
(1621 - 1695)
بنو آدم كالنبت ... ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصند ... ل والكافور والبان
للأستاذ محمد حسني عبد الله
تمهيد لحياته العقلية بحياته العاطفية
كان لافونتين قد أربى على الستين من سني حياته عندما صادف ذات صباح الآنسة (بوليو) وهي في جلال ربيعها الخامس عشر. فإذا ملأ عينيه من جمال لها يموج فيه الطرف، ورواء وحسن يبهران الأبصار، عرته بهتة وذهل عن نفسه، فهام على وجهه على غير هدى حتى التوت به الطريق واستغلقت عليه معالمها. وما زالت به الهيمة وقصاراه ترديد صورتها إلى أن أطبق عليه المساء وهو بعد لا يشعر أنه قطع مسيرة يوم مذ صادفها من مطلع الشمس إلى مغربها. ولم يكن يومه شاقاً ولا عسيراً. فهو يوم للحسن ملكت دولته خيال الشاعر كما في أي يوم مضى من شبابه. فقد طالما تعود أن يتذوق الجمال وأن يمضي مع أحلامه وهو يصور روائعه لخياله غافلاً عن الوقت ومره، والطريق ومعالمها، والحياة وصخبها ما التذ بالسير والخيال. وإنما كان يومه غريباً فهو لم يضل سبيلاً قبله. فكم من أرض قطع وكم من حزن أجاز وبطن هبط وهو في مسابح الأحلام، وفي كل مرة كان أهدى إلى بيته من قطاة. ولكن هزة الجمال الفتى أضلت، هذه المرة، الستين عاماً التي ينوء منكباه بحملها فما عاد يعرف سبيل الرواح حتى التقى بخادمه عند الطريق. فعاد به إلى وكره. فلم يك بعد هذا ليبرح فراشه أياماً ثلاثة وهو ما يزال متأثراً بالوجه الصبوح الذي أهلت عليه فتنته بما لم يعهده من قبل في سلطان الجمال. وهكذا ما زال شيخنا مع الستين شاب القلب فتى العواطف. ولهذا معناه فما استهللت بهذه الأقصوصة إلا لتبيان أخص ما في خلق هذا الأديب الشاعر. فقد أصبح سهلاً الآن أن نستوضح تقديره للجمال لدرجة الافتتان به مجرد الجمال، إلى جانب بوهيميته ويسر أخذه للحياة من مجرد تصرفه حيال رؤيته للصبية ترفل في الحسن. فهو إذ رآها قنع بمرآها وبصيان صورتها في ذهنه وبالخلاص من هذا بلذة معنوية حرفة فلم يعمد إلى مجاذبتها الحديث وعقد أواصر المعرفة معها تمهيداً لحاجة مادية - فهذا أبعد ما يكون عن طبعه - فهو إذن معني بالجمال لذاته. كذلك إذ قنع بهذه الشحنة المعنوية لأحلامه، اندفع في السير على غير متجه، وخبط في الأرض خبط عشواء، وهذا يفسر جانب البوهيمية في سجاياه. ثم أمضى يومه كله معنياً بما عاين لوقته، يسرح في رياضه سائم الطرف والبال، فأضاع يومه حالماً وما أيسر تناول الحالمين للحياة. ولندع الآن يسرد بقية القصة بنفسه لعلنا ندرك في قوله مزيداً إذ فسر لصديق عاتبه، سر انحجازه عنه هذه الثلاثة أيام التي توارى فيها فقال:
(لِمَ لم تتقصى يا صديقي أسباب انحجازي عنك طيلة هذه الأيام الثلاثة فأفضي إليك بدخيلة نفسي؟. . . إذن لقلت لك بلا مواربة إنني وأنا المسن لم أملك دفعاً لإغراء صبية أغراني بالحلم فيها جبينها وربيعها الخامس عشر، وعيناها الزرقاوان، وطراوة بشرتها الوردية، وسحر قسماتها ولمحاتها الذكية. ثم لأقمتك بعد القول حكماً باسم الجمال)
إلى هذا الحد من قوله قد تشم رائحة الإعجاب البدني حرفاً ولكنه يعود فيجلو لنا الجانب الساحر الرقيق من طبعه:
(ولكن. . . لو أن هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي عكر صفو راحتي وهدوء شيخوختي قد صادف نصفه الحقيق به، لكنت أنأي الناس عن الحقد عليه. بل لكان هناءة لعيني أن أراه وحبيباً من لذاته. . . ولو أنه هزأ ضاحكاً من إعجابي به لما اضطغنت عليه. . . وإلا فلم كان أمثالي من الشيوخ الوامقين. . . أليس لإضحاك الحسان من الصبايا؟)
وههنا ما يستلفت الأنظار. فلافونتين لا تستأثر بقلبه الأثرة التي هي العنصر الغالب في عاطفة المحب. فهو يتمنى لكاعب زلزلت عنده وقار الشيخوخة وألهبت فيه برد عاطفتها كل توفيق مع حب غيره يكون أصلح وأنسب لفتاها وأليق لصباها. ثم هو يسخر من نفسه في يسر ورخاوة وقلة اكتراث كمن يهزأ من امرئ لا تربطه به رابطة أو صلة. ويصرح بعاطفة كان أولى به كتمانها في سن تدعو تجاريبها وحنكتها إلى صيان ما بالنفس للنفس والتزام جانب الصمت والظهور بالمظهر اللائق بها من الاتزان والرزانة والتعقل. وهذا كله شيء يجعل فهمه ميسوراً لأول وهلة
فقد عاش أبداً، بوهيمياً، صريحاً، بواحاً بسره، ينكره الاستقرار وتجافيه العاطفة الراسخة رسوخ الرواسي - فركب الهوى وأعجب بمئات الحسان مثل هذا الإعجاب العارض. ولكنه لم يصادف أبداً هذا اللون العنيف من الحب الذي يقتصر فيه صاحبه على واحدة يكاد حبها يورده موارد البوار والتلف. فكان أبداً كالنحلة عسلها في كل زهرة، يرى هذه، فيعلق بها فؤاده يوماً أو يومين، يحلم خلالها أحلاماً هنية، ويرى تلك فينسى الأولى، وهو بين هذه وتلك في دولة الخيال في شاغل عن الصلة البدنية بالصلة الروحية، سعيد بصور الحسان تتوارد جملة على مخيلته. فكأن السعادة بذلك همه، وخلو البال من الأزمات المقضة للمضاجع شاغله، وكأنه من ذلك في عالمه الخاص يعد لرسالته الأدبية المتنوعة شحنة من الفكر المنطلق الحر في نأي عن حب فرد ملح يحصر مناطق الفؤاد الذكي ويحدها.
لافونتين في البحث عن لافونتين
وامرؤ لا يعرف قلبه وخياله الحد ليس من ريب في أن عقله كذلك لا يعرف الحد. فآفاق العاطفة المترامية تفسح للعقل في مدى واسع يحار فيه. لذلك جهد لافونتين في تعرف هويته العقلية. ولم يكتب لهذا السبب عن نفسه إلا متأخراً في الثامنة والثلاثين من عمره. فهو إذن قد صرف حقبة طويلة من عمره في درك الأشياء وتفهمها والإلمام بحقائق الحياة عملياً. فمال مع كل ريح، بين جد ولهو، يعني بالجد، فيكيد ويحصل ويقرأ ويدرس منقباً باحثاً، ويعني باللهو فيحياه ويفهمه ويستمرئه. والتشوف بين هذا وذاك رائده، وحب الاستطلاع يعقد رويداً رويداً الصلة بينهما ويحكمها
فلم يستمر تردد عقله بين أن يعيش للهو حريفا - وهذا شيء تدعو إليه طبيعة الحالة - فيغنم الحياة من لذتها المادية، وبين أن يعيش للعمل والجد فيغنمها من لذتهما المعنوية. وأستقر أخيراً - ولا متأخراً - على أن يمزج اللهو بالعمل وأن يجعل من شواغله مسرات ومن جهده يسرا
ولم يكن بد من مراحل يجوزها حتى يصل إلى هذه الغاية من ترك طبيعته على سجيتها وأخذها بالملاطفة واللين حتى أنتجت فيما يشبه اللعب مالا طاقة لكثير غيره على إخراج مثله للناس، وهم ألصق بالجد خالصاً، وألزم للتثقيل بمضايقة على النفس. فكانت أولى المراحل عنده الاقتصار على تفهم ما يدور حواليه من أحداث الحياة وإعمال الفكر في ألوانها المتباينة، دون أي تفرقة منه بين هذه الأحداث وهذه الألوان تدور على مسرح الحياة وبينها تمثل على خشبة المسرح. فكأنها في عينيه وهي تأخذ مكانها من مجرى الحوادث ملهاة مسرحية تستتلي فصولها اهتمامه وتستتبع تفكيره. حتى إذا ما نال من أتحف العوارف وألطف المعارف، وأدرك ماهية الأشياء وجوامع الحكم، كانت ثم مرحلة أخرى تفتحت فيها لأحلامه دنيا ساحرة لا يطرقها غير من أمدته الطبيعية بموهبة فكرية وأعدته لرسالة سامية في هذه الدنيا: مثل مرئياته واستوعب ضروب المعاني التي مرت عليه. فإذا قرأ لمالرب ولأفلاطون ولباروك ولتاس ولبوكاس، وافته غاية المراحل تجرر أذيالها ألا وهي مرحلة الإنتاج - هذه المرحلة التي مزج فيها اللهو بالجد وقرن فيها التسلية بالعمل. وإنه ليقال أنه غدا شاعراً عندما قرأ لمالرب قصيدة تعهدها الليالي حتى حفظها عن ظهر قلب ومن ثم طفق ينشدها لكل من صادف من الأصدقاء
تيقظت إذن في لافونتين ميوله الأدبية بعد أن تذوق دنياه وأخذ للأدب عتاده من القراءات المختلفة. فشرع يبحث عن نفسه في هذه الميول. فتناول بادئ ذي بدئ (خصي تيرانس) بالتعديل والتهذيب. غير أن ذلك لم يكن إلا محاولة فاشلة إذ تراوح فيها بين الترجمة وتقليد غير محكمين ثم نظم ملحمة مثيولوجية تصويرية بذل في تأليفها من دهره ثلاثة أعوام، وفاضل فيها بين الهات الفلاحة والتصوير والعمارة والشعر إلا أنها ليست مما يعتز به الأدب كثيراً
واتجه بعد ذلك نحو (أبليه فجهد أن يقلد قصته (بسيشيه)، ولكنه تعمل فيها الأسلوب وتصنع فيها المرح الذي عرف فيما بعد في خرافاته في أكبر وضوح وسلامة وجمال فلم يكن طبيعياً مع ما تتطلبه القصة القديمة من الوقار والجلال، فإذا محاولته رواية حديثة في أردية إغريقية لم يكن همها الإضحاك فأضحكت ولكن في استخفاف وسخرية. ثم عهد إلى (أدونيس) شكسبير فتخذها موضوعاً لروايته بهذا الاسم. ولكن كل من قرأ أدونيس شكسبير فاستطعم صنوف الفكر التي تختال فيها واستلذ الألوان المضطرمة الحارة التي تمتزج بها لا ينبغي له أن يطالع (أدونيس) لافونتين
فالحق أن تصوير معالم البطولة الإغريقية وتبيان عبقريتها المستعصية وإظهار جلالها وجمالها، كلها أعمال ليست من عمله فرشاقته وظرفه ومرحه وخفته وملاحظته السريعة، كل هذه لا تحتمل عجم عود الشخصيات الإلهية وإبرازها في ملاحم طويلة مسهبة
طال إذن ما بحث لافونتين عن استعداده الأدبي فلم يعثر عليه في كل ما ردنا من أعماله وإنما عثر عليه بعد لأي في الخرافة فوجد في قصر نفسها ما يلائم مقدرته على النظم المحدود والمفردات السهلة. وصادف في موضوعاتها ما يوائم مرحه - مرح الروح الغالية - وظرفه وأحلامه. فالتقى فيها لافونتين بلافونتين
لافونتين والخرافة
ولكن لا تقذفن في روعك - مع ذلك - إن الخرافة عمل استحدثه لافونتين من مبتكره ومبتدعه. فقد سبقه إلى هذا الضرب من الأدب أيسوب الإغريقي، وفيدر اللاتيني، وكثير غيرهما من شعراء العصور الوسطى والقرن السادس عشر عند الفرنسة، فلم يزد على أن نسج على منوالهم ودرج على آثارهم وإنما أكثر لباقة وبراعة وإبداعاً مما جعل الأذهان تنصرف - إن ذكرت الخرافة - إلى أنه مبتدعها الفرد. وليست الخرافة إلا قطعة شعرية مأخوذاً موضوعها من صميم الحياة في تصوير عابر سريع إلا أن أدوار البطولة فيها مسندة إلى الحيوان وإن قصد تطبيق حالته في القصة على حالة الإنسان في الواقع بالقياس والموازنة. وعلى الخرافة التي تستوفي شروطها أن تتضمن قصة أخلاقية. وفي مدها بهذا اللون الفني يتمايز كل هؤلاء الخرافيون فينبذهم أبو الخرافة لافونتين. فقد اهتم أيسوب وفيدر بجانب واحد من الخرافة فعنيا بالأخلاق وانصرفا عن الوقائع القصصية انصرافاً أفقدتهم خرافاتهم عنصرها الفني. كذلك شعراء العصور الوسطى والقرن السادس عشر انصرفوا عن الأخلاق وعنوا بالتفاصيل القصصية عناية سلبت الموضوع لبه وجوهره ومسخت طعمه ومعناه. ولكن لافونتين، شاعر القرن السابع عشر، ألف بين الموضوع والأخلاق تأليفاً حقيقياً بالإعجاب والإكبار إذ جعل من الخرافة ملهاة أشبه بمسرحية أخلاقية مترامية المعاني من مائة فصل في بضع أبيات من الشعر الرائع.
(البقية في العدد القادم)
محمد حسني عبد الله