الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 531/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 531/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 06 - 09 - 1943


للدكتور زكي مبارك

حياة الأديب - الصديق - قلدوا قلدوا - الشيخ المراغي -

النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة

حياة الأديب

دعيت لإلقاء خطبة في تأبين المرحوم عبد الحميد الديب فأجبت، وكانت نيتي أن أقول رأيي علانيةً في الحياة التي يحياها مثل ذلك الأديب، لئلا يكون الإكثار من الثناء عليه إغراء لذلك اللون من الحياة القفراء

ثم رأيت الحفلة فوق ما كنت أنتظر، فقد اشترك فيها خطباء وشعراء من الطراز الجيد، وحضرها جمهور من أفاضل الناس، وتلى فيها خطاب أرسله وزير الشؤون الاجتماعية وخطاب أرسله وزير الأوقاف. وتلك مظاهرة أدبية تمنع ما أردت أن أقوله في نقد الحياة التي اختارها ذلك الشاعر المسكين

ولكن هذه المظاهرة بدت لي باعثاً جديداً على أن أقول ما نويت أن أقول، فقد تجسم التخوف من شيوع البوهيمية بين فريق من أدباء الجيل الجديد، وخفت أن تكون هذه المظاهرة دعوة إلى تحلل الأديب من واجبات الحياة في نظامها اللائق بأهل البيان

وكذلك انطلقت فقلت: إن عبد الحميد الديب كان على جانب من الأدب والذكاء، ولكنه ظلم نفسه حين انخدع بالرأي المنحرف، وهو رأي من يتوهمون أن البؤس يذكي المواهب، ويزيد من يقظة العقول. وقد آمن بهذا الرأي إيماناً فرض عليه أن يجعل همه في الوصول إلى الظفر بلقب (شاعر البؤس)، وهو لقب لا يتمناه لنفسه إلا من حرم نعمة التوفيق. وماذا جنى عبد الحميد الديب من ذلك اللقب الطنان! كل ما جناه أن يعيش في رحمة المترحمين، ولا يحتاج إلى الترحم غير المساكين، وإذا كان الأدب لا يمتع أهله لغير المسكنة فعليه اللعنة إلى يوم الدين!

ثم قلت:

أين الشريعة التي توجب أن نذل أنفسنا في سبيل الأدب؟ وما قيمة الأدب إن لم يجعلنا أعزاء؟

وما هذه الخرافة التي تقول بأن من حق الأديب أن يعيش بلا مهنة تغنيه عن سؤال الناس؟

وكيف نهدي الناس إلى الخير ونحن نستهديهم المال؟

هل ننسى قول أبي العتاهية:

لو رأى الناس نبيَّا ... سائلاً ما وَصَلوهَ

إن الاحتياج إلى الناس بداية الانخذال، ولو كانوا من الأهل والجيران، فإن احتاج الأديب إلى معونة إخوانه وهو قادر على كسب الرزق بعرق الجبين فهو أديب زائف لا أديب صحيح

من واجب الأديب نحو أدبه أن يصونه عن إفضال المفضلين، لينطق بكلمة الحق في حرية وصراحة وإخلاص، وهذا لا يتيسر للأديب المحتاج إلى الإفضال

هل تذكرون ألقاب شعرائنا وعلمائنا في العصور الخوالي؟

كانت ألقابهم أنساباً إلى الحرف والصناعات، ففيهم الزجاح والقفال، والتمار والوقاد، والصبان والبنان والسراج والحداد والزيات واللبان، وكانت هذه الأنساب من أجمل التشاريف، وهي باقية على الزمان

وإذا كان التاريخ سجل أسماء تكسب أصحابها بالأدب فقد كان أولئك المتكسبون من حواشي الملوك. وقد اصطلح الناس بكل زمان ومكان على أن هبات الملوك تحيات لا معونات

وهل يتقدم ملك بتشجيع أديب إلا وهو يعرف أنه يضع جوهرة جديدة بين جواهر التاج؟

وما حظوظ الأدباء الذين ظفروا بهبات الخلفاء والملوك والأمراء؟ ما حظوظهم في التاريخ؟

كانوا من الموجهين في الحيوات السياسية والأدبية والاجتماعية، وكان إليهم المرجع في تدبير شؤون الملك، وكانوا المتصرفين في شؤون السلم والحرب

فما هو حظ الأديب الذي ينتظر هبات من أدباء لا ملوك؟

أعاذكم الله من احتياج الزميل إلى الزميل!

إن قتل النفس أهون من الاحتياج إلى الأخ الشقيق، فكيف نستسيغ الاحتياج إلى الرفيق؟

وفي أدبائنا من يتوهم أن نظم أبيات في هذا الفلان أو ذلك العلان تمنحه الرزق، فإن صح توهمه فسيكون رزقه من الرزق الحرام لا الحلال إن رزق الأديب من الذوق، واللمحة الواحدة من طلعة البدر قد تكون زاده الروحي إلى آخر الزمان

إن الأديب الحق ليس أسيراً للوطن ولا أجيراً للمجتمع، فكيف يكون أسيراً لفلان، أو أجيراً لعلان؟

وعبد الحميد الديب لم يقتل نفسه عامداً متعمداً، فأنتم خدعتموه وضللتموه، وفرضتم عليه أن يستغيث بمعروفكم يا أشحاء!

تقول العبارة المصرية (فلان يقتل المقتول ويمشي في جنازته) وأنتم القتلة لذلك المخلوق الذي وثق بكم، وأنتم حملة المصاحف أو القماقم بجنازته العجفاء، فما قيمة براعتكم في الرثاء!

إن دموعكم يا قاتليه لن تنجيكم من غضبتي عليكم

فاسمعوا هذه الكلمة، واعلموا أن بكاءكم في هذا الاحتفال سيمر بلا ثواب، وقد يكون مجلبة العقاب، لأنكم تزينون لسامعيكم حياة لا ترضونها لأنفسكم إلا مكرهين

ثم قلت: وماذا في خطاب وزير الشؤون الاجتماعية؟

إن فؤاد باشا سراج الدين يعد بأن سيضع نظاماً يقي الأدباء شر التشرد، وأنا باسمكم أعلن استقلال الأدب عن الحكومة، فما يجوز أن نطلب الاستقلال لبلادنا ونطلب الحماية لأقلامنا

إن تطوعت الدولة برعاية أديب أعجزه المرض عن طلب الرزق فذلك عمل يستأهل الثناء، ولكننا نرفض حمايتها لأديب يستطيع كسب القوت، ولو بالفأس والمحراث

نحن لا نطالب الدولة بشيء وإنما نطالب أنفسنا بكل شيء، فمن الواجب أن تكون لنا مشاركات في جميع الميادين، ومن الواجب أن نكون رجال أعمال، كالذي صنع شيخنا طلعت حرب، فقد حول ذوقه الأدبي إلى الاقتصاد. وبهذا استطاع أن ينظم أعظم قصيدة عرفتها اللغة العربية، وهي (بنك مصر) ثم أردف القصيدة بمقطوعات هي تلك الشركات

وإذا بدا لنا أن ننسحب من ساحات الثراء فليكن انسحابنا عن زهد لا عن يأس، ولنكن في فقرنا نساكاً لا عاجزين، فالنية التجرد عن الدنيا نية مقبولة، على شرط أن تكون من وحي التحليق لا وحي الإسفاف

إن الأمم القوية تستطيع تلوين الأنظمة السياسية بشتى الألوان، وتستطيع أن تبلغ صوتها إلى آفاق الشرق والغرب، وتستطيع أن تعقد المعاهدات وتثير الحروب، ولكنها لا تستطيع خلق الأديب، لأن الأديب لا يخلقه غير فاطر السماء

الدنيا لنا، إن شئنا، فالمواهب الأدبية أعظم المواهب، ولو بذلنا في طلب الدنيا معشار ما نبذل في طلب الأدب لكنا أغنى الناس، فلتكف الدولة برها عنا، فنحن كأشجار الصحراء، لا نرجو غير ندى السماء

أيجود الله علينا بالأدب ويبخل بالرغيف؟

قولوا كلاماً غير هذا، فلن يتخلى الله عنا، وسنظل بفضله أغنى الأغنياء

الصديق

في هذه اللمحة صلصل الهتاف مؤذناً برحيل الأستاذ طه الراوي عن القاهرة بعد دقائق، فما الوسيلة لتوديع رجل كانت داره ولن تزال دار المصريين في بغداد؟

حين تقرر سفر الأستاذ صادق جوهر إلى العراق كان من الواجب أن أقابله أنا والدكتور عبد الوهاب عزام لندله على أصدقائنا هناك، وقد دللناه على رجلين: طه الراوي ورضا الشبيبي، مع حفظ الحقوق لسائر من عرفناه من كرام الرجال بوطن دجلة والفرات

وقد كان عجباً للناس أن يروني أذكر العراق بالخير في كل وقت، وفاتهم أن يعرفوا أن المصري حين يشرق لا يكون همه إلا معرفة الكنوز المجهولة من فضائل الشرق

ونحن عرفنا العراق، فهل رأينا فيه غير الجميل؟ ولنفرض أن فريقاً ممن عاشوا في العراق عانوا بعض المتاعب، فمتى خلت الحياة مما يكدر الصفاء؟

وهل نجد السعادة كاملة في أي أرض حتى ننشدها كاملة في العراق؟

إذا عز علي أن أصافح الأستاذ طه الراوي وهو راجع إلى بغداد فلن يعز علي أن أخلق ألف فرصة وفرصة للحديث عما يتحلى به من شمائل وآداب

قلدوا قلدوا

كان الأستاذ عبد الجبار الجلبي قد صارحني بأنه غير راضٍ عن القاهرة، لأنها أصبحت صورة منقولة من المدائن الأوربية، وقد أجبت بأن مزية مصر هي سرعة النقل، وقد نقلت مصر فكرة الانتفاع بالسكك الحديدية قبل أن ينقلها الأتراك، مع أنها كانت في ذلك الوقت ولاية تركية

وحين دخلنا سنتريس قال السيد عبد الجبار: إن مدخل سنتريس مدخل قرية أوربية لا قرية شرقية، فكيف انتقل التقليد إلى الريف؟

فأجاب الأستاذ الراوي: لقد حان الوقت لتبديد النصيحة السخيفة، نصيحة من يقول: لا تقلدوا مثل القرود، فكما كان القرد أذكى من الحيوان إلا لأنه يقلد كما يقلد الإنسان، وهل كان الحمار حماراً إلا لأنه يغفل عن التقليد؟ وهل أفلحت إنجلترا إلا بتقليدها ما يجد من الاختراعات الأوربية والأمريكية؟ قلدوا مثل القرود، ولا تغفلوا غفلة الحمير، فنحن نرى قرداً يعلو ظهر حمار، ولا نرى حماراً يعلو ظهر قرد

الشيخ المراغي

في محطة القاهرة رأينا شيخاً من بعد، فقال ضيوفي؛ من هذا الشيخ المهيب؟ فقلت: هو الشيخ المراغي، فتعالوا نسلم عليه، لتقولوا إنكم سلمتم على شيخ الأزهر الشريف

وأسرعت فاستوقفت الشيخ ليسلم عليه ضيوفي، فقال الشيخ حين رآهم: هل جئتم للسؤال عن طبيب ليلى المريضة في العراق؟

فقال الأستاذ الراوي: يا سيدي، إن الناس (يقولون ليلى في العراق مريضةٌ) هم يقولون، يقولون

فهتفت: وأنا أيضاً أقول، وليلى تفهم ما أريد

وفي القطار قال الأستاذ الراوي: إن الأزهر لم ير مثل الشيخ المراغي منذ ثلاثمائة سنة. فقلت: وهل تنسى الشيخ محمد عبده؟ فأجاب: الشيخ محمد عبده شخصية دولية لا أزهرية، ولو كان الشيخ عبده في صبر الشيخ المراغي لأتى في إصلاح الأزهر بالأعاجيب. إن الشيخ عبده كان ثائراً، والثوار لا يسلمون من أذى الجهلاء، أما الشيخ المراغي فهادئ، وهدوء المصلحين يشبه هدوء الينابيع المطمورة في جوف الأرض، فهو يتحرك والناس يظنونه في سكون. ولقد قرأت له كلمات في تفسير بعض آيات القرآن تضعه في الصف الأول بين رجال الاجتهاد

قلت: والحكم بأن الأزهر لم ير مثل الشيخ المراغي منذ ثلاثمائة سنة فيه جور على أسلافه من الأكابر، وفيه جور على الذاتية المصرية، وسأدعو الأستاذ الأكبر إلى وضع كتاب تسجل فيه المناقب الكريمة لمن تولوا مشيخة الأزهر الشريف

النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة

منذ أعوام أخرج الأستاذ إبراهيم مصطفى بحثاً طريفاً سماه (إحياء النحو) فرد عليه الأستاذ محمد عرفة بكتاب جيد سماه (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة)، ومن ذلك البحث وهذا الكتاب ظفرنا بثروة أدبية تذكر بالجهود الكريمة للنحاة القدماء

وكان المنتظر أن يتشعب الجدل بين هذين الرجلين، وأن تثور حرب نحوية تنتهي بأن يكون للمصريين مذهب في النحو ينافس مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين

ثم لاحت فرصة الجدل حول (تيسيير النحو)، فظهرت أبحاث تبشر بطلائع جديدة في الدراسات النحوية، وتبعتها تعقيبات في الجرائد العراقية والسورية

ثم ماذا؟ ثم سكتت الأصوات، وانصرف المجادلون عن حومة الجدال، مع أن النحو لن يحيا إلا إذا صيرناه من المشكلات العقلية، لنجذب إليه أنظار المتأدبين، ولننفض عنه غبار الخمول، فهل نرجو أن تثار معركة النحو من جديد؟

زكي مبارك