مجلة الرسالة/العدد 53/فن البناء عند المصريين والإغريق
→ زرياب | مجلة الرسالة - العدد 53 فن البناء عند المصريين والإغريق [[مؤلف:|]] |
بين المعري ودانتي ← |
بتاريخ: 09 - 07 - 1934 |
بقلم محمد علوي
لا شك أن أهم مظاهر الحضارة الفرعونية هو فن العمارة.
ولما كان للدين عند الفراعنة المنزلة العليا نجد أن درجة اهتمامهم به ظهرت جلية في معابدهم، وهي أهم ناحية ضرب فيها الفنان المصري بسهم. ولم تكن مصر هي البلد الوحيد الذي اهتم بأمر المعابد، فقد تبعها في ذلك الإغريق أيضاً، وكفاهم فخراً معهد (البارثينون) في (الاكروبوليس) بأثينا، فلقد كان هذا المعبد ولا يزال آية في الجمال، أجمع جميع الفنانين على أنه - لا يوجد له في العالم مثيل. فقد راعى فيه بانيه خداع النظر في الأجسام المنظورة فتلافاه بكل الوسائل، فكان معبده أشبه ببلورة طبيعية جميلة. ومع كل ذلك فإن الفنان المصري قد سبق زميله الإغريقي في تصميم معبد؛ فانك إذا وقفت أمام المعبد الإغريقي لاشك تشعر برهبة وذهول. ولكن هذه الرهبة ليست إلا نتيجة لقوة الجمال وحسن التنسيق، أو بمعنى أقرب إن تأثير هذا المعبد كتأثير حسناء كملت فيها معاني الجمال. فكأنما فن البناء الإغريقي أراد أن يأسر لب المتعبدين بسلطان الجمال. ولكن ليس هذا هو الغرض الذي من أجله كلف بتصميم المعبد، وفي رأيي أن هذا خروج عن الموضوع الديني، ولو أنه خروج لم يخل بقيمة المعبد من حيث جماله.
أما المعبد الفرعوني فهو يشعر بالهيبة والعظمة فالخضوع والرهبة، ولكن هذا الخضوع ناشئ عن الشعور بالضعف أمام القوة والرهبة الدينية، وهذا ما أحسه أنا الآن وأنا بعيد عن البيئة التي كانت تحيط بالمعبد في حداثته، وبعيد عن العقيدة الدينية التي كانت تتملك شعور أسلافنا.
إن الفنان المصري كان أعظم مما نقدره به وأوسع خيالاً، فنراه قد راعى في معبده صلاحيته للعبادة من جميع النواحي، فجعله لا يصلح إلا للعبادة، بل والعبادة لا تصلح أن تقام إلا بين جدرانه. فتصميم المعبد واختيار موقعه في مكان بعيد عن الحياة المادية الدنيوية، والبيئة الدينية التي أحاط بها الفنان البارع معبده، كل هذا يفصل المتعبد عن العالم المادي فيحصر ذهنه في دائرة روحانية بحتة.
لست أريد أن أحكم على مقدرة هذا المهندس البارع، بل سأوضح عمله، وأترك لكم الحك على كفايته وموهبته.
اختار هذا الفنان لجميع معابده أن تقع في نهاية طريق مستقيم جداً ومتسع، بحيث ينتهي هذا الطريق بواجهة المعبد الشامخة، يتوسطها بابه الصغير، وقد خصص هذا الطريق مهما بلغ طوله، (وقد يصل إلى ثلاثة كيلومترات) للمعبد فقط، فلم يسمح بإنشاء أي نوع من المصالح أو المباني على الجانبين، بل أنشأ على حافتيه وعلى مسافات متساوية تماثيل ضخمة متساوية ومتماثلة لمعبود معروف رأسه رأس كبش، وجسمه جسم أسد. فتصور تأثير هذين الصنفين من التماثيل المتوازية المتماثلة، والأفريزين الممتدين بجانبي الطريق، تلك المستقيمات المتوازية تظهر للرائي كأنها تتقابل وتتجمع في نقطة واحدة كما تجمع العدسات الأشعة الضوئية في نقطة واحدة، وهذه النقطة هنا هي باب المعبد الصغير الذي يظهر عن بعد. وكما أن النظر تقوده تلك المتوازيات إلى النقطة، كذلك يكون التأثير على الأذهان الشاردة، فهذا يساعدها على أن تتجمع وتتركز في العبادة. هذا بخلاف ما كان يعتقده الفراعنة من أن هذا الطريق مقدس لا يطؤه غير المطهرين الأبرياء، وأن تلك التماثيل الجانبية كانت تراقب حركات المارة وأفكارهم طوال الطريق. وكان المصريون يتوجهون إلى المعبد تحت هذه التأثيرات في موكب تتمثل فيه معاني الخشوع، يتقدمه غالباً الفرعون وحاشيته، حتى إذا اقتربوا من المعبد يمرون تحت قوس نصر فخم أشبه ببوابة شامخة يبلغ طولها نحواً من ثمانية وثلاثين متراً في معابد الكرنك. فتصور كيف يشعر المار من تلك البوابة بضآلته أمام هذا العلو الشاهق وهو يعتقد انه بمجر مروره منها تطهر نفسه مما قد يكون عالقاً بها من الأدران، فيصبح طاهراً يصلح لأن يقترب من المعبد، وبعد ذلك يمر الموكب بين مسلتين شاهقتين، كتب عليهما تاريخ إنشاء المعبد وبعض الرموز التي تمثل شارة المعبود الذي في المعبد، وهنا يجد الموكب نفسه أمام بناء شامخ مثال للقوة والبطش والجمال، وهذا هو المعبد ذو الواجهة الجرانيتية الضخمة التي تتكون من هرمين شامخين ناقصين متقاربين، يتوسطهما باب المعبد الصغير، وعلى جانبيه تمثالان عظيمان (يصل طول كل منهما إلى عشرين متراً كما في معبد (أبي سمبل شمال الشلال الثاني)، وهذان التمثالان يمثلان فرعون، ويرى الواقف بباب المعبد عدة أبواب متتالية ومتساوية الاتساع، تقع جميعها على محور واحد عمودي على الواجهة غالباً، وقد تصل المسافة بين المدخل والباب الأخير إلى ثلثمائة متر، وهذا الباب الأخير هو باب مخدع الإله الأعظم.
وأول ما يلفت نظر الداخل في المعبد هو البهو الكبير ذو الأعمدة الضخمة، وقد بلغت مساحة ذلك البهو الفخم في معابد الكرنك ثلثمائة متر في خمسين مترا، وهذا البهو مسقف بكتل عظيمة من الأحجار يحملها أربعة وثلاثون ومائة عمود، مصطفة في ستة عشر صفاً، وطول أعمدة الوسط منها ثلاثة وعشرون متراً وقطرها ثلاثة أمتار ونصف. فتصور بهواً يحوي هذا العدد من هذه الأعمدة التي بلغ ارتفاع الواحد منها ارتفاع عمارة مكونة من سبع طبقات تقريباً. كيف يكون تأثير مثل هذا البهو الرهيب الفخم في نفوس المصلين؟ ألا يمكننا اعتبار هذا البهو رمزاً للقوة والبطش كما أنه مثال العزلة والرهبنة؟ إن طول قامة البشر في هذا البهو لا يتجاوز قاعدة العمود. وبين تلك الأعمدة يقوم الشعب بتأدية الصلاة، أما فرعون وحاشيته فيستمرون في موكبهم مخترقين الردهات والدهاليز حتى يصلوا إلى مخدع المعبود، وهو مظلم لا يصله الضوء إلا من فتحة واحدة في السقف، قد وضعت بهندسة خاصة بحيث لا تضيء من المكان سوى تمثال الإله، حتى يخيل للرائي أنه يشع الضوء من جسمه. وأمام المعبود وتحت قدميه يوجد نضد عظيم من الحجر ليضع عليه فرعون قربانه بين التراتيل والتعاويذ الدينية ذات الأنغام الساحرة الرهيبة.
ولو كانت لي موهبة في الإيضاح أرقى من ذلك لاستطعت أن أضع لكم صورة اقرب للحقيقة للمعبد والدرجة، التي وصل إليها من الإبداع، ولكن عظمة ذلك الفن وروعته فوق أن يصفها قلمي الضعيف.
وهنا اقف بسيدي القارئ لأساله: هل يوجد مكان انسب لبناء المعبد من المكان الذي اختاره الفنان المصري؟ هل يوجد بناء تتمثل فيه معاني القوة والخشوع والرهبة اصلح للعبادة من تصميم هذا الهيكل الفرعوني؟ وهل يمكن إيجاد بيئة تحيط بالمعبد من الوجهة المعنوية والفنية أقرب للكمال من تلك البيئة التي هيأها هذا الفنان الحاذق؟ أظن أنه لا يمكن أن نجيب على تلك الأسئلة إلا بالنفي. ولقد أجمع عظماء الفنانين في العالم على أن المعبد المصري هو صاحب المنزلة الأولى بين معابد العالم، وإذا أمكن تصور منزلة أسمى من الأولى لكانت هي منزلة معبدنا، وبالتالي فن عمارتنا الذي نفر ونهرب منه، ونتناسى منزلته حتى في هذا العصر الذي هو عصر تجديد وانقلاب، لم يفكر أحد من كبار الفنانين المصريين في إحياء هذا الفن الجميل، أو إدخال روحه في المنشآت الحديثة، إلا إذا استثنينا بعض الشواذ.
محمد علوي
قسم العمارة - مدرسة الفنون الجميلة العليا