الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 53/الأدب كما ينبغي أن يكون

مجلة الرسالة/العدد 53/الأدب كما ينبغي أن يكون

مجلة الرسالة - العدد 53
الأدب كما ينبغي أن يكون
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 07 - 1934


بقلم الأستاذ أحمد أحمد بدوي

ما غاية الأدب؟ وما رسالته في الحياة؟ سؤالان إذا نحن استطعنا الإجابة عنهما أفلحنا إلى حد كبير في تحديد ما ينبغي أن يكون عليه الأدب، وما يجب أن يأخذ به الأدباء أنفسهم حتى يصلوا أو يقاربوا المثل العليا التي ننشدها في الحياة، ولا تظنوا أن الإجابة عن هذين السؤالين هينة يسيرة، بل هي عسيرة جداً، ومع عسرها تختلف باختلاف العصور إن لم تختلف باختلاف الأفراد، ولكنى أستطيع أن أقول: إن الأدب الخالد، أو بعبارة أخرى ما يجب أن يكون عليه الأدب ليكون خالداً، هو تصوير المثل العليا للإنسانية، ونشدان هذه المثل، إذ أن غايتنا في الحياة هي السير إلى المثل العليا بجد وعزيمة حتى نحققها أو نقاربها، وبما أن الأدب هو المعبر الدقيق عن عواطف الإنسانية وآمالها وأحلامها، فلتكن مهمته في الحياة هي تصوير المهمة الملقاة على عاتق الإنسانية وإن الإنسانية لتسير إلى المثل العليا على قدمين: العلم الذي يحقق الناحية المادية للمثل العليا، والأدب الذي يحقق منه الناحية الروحية. وقد فرغ العلماء من إثبات ما بين الناحيتين من تآزر وارتباط، وليس منواجبي الآن أن أتحدث عن المثل العليا للإنسانية فذلك يحتاج إلى كتب تؤلف فيه، ولكنني فقط أحدثكم عن بعض هذه المثل مصورة في الأدب ومقتبسة من حياتنا المصرية الحاضرة

- 1 -

إذا نحن ذهبنا إلى الشعر العربي وجدنا فيه القيم الخالد، وإلى جانبه الكثير من الرديء البائد، ولن أحدثكم عن رداءة الشعر أو جودته من الناحية اللفظية، ولكن من الناحية الروحية وناحية ما يبعثه في النفس من وجدان وشعور، يسمو بنا إلى حيث نحقق ما خلقنا له ونعيش من أجله.

في الشعر العربي صور لا أغالي إذا قلت أنها ضعيفة لا تستحق خلوداً، ولا ينبغي أن نلقنها نشأنا، ونؤدب بها أبناءنا، لأنها تنأى بنا عن بلوغ غاياتنا، وسأعرض طرقا من هذه الآداب مقتصداً في إيراده ما استطعت. ففي الأدب العربي كثير من الشعر الذي أسميه شعر الضعف والاستسلام للواقع؛ فتسمع فيه تلك النغمة التي تحقر العمل وأرباب العمل، وتدع بملء فيها إلى الرضا وإلى الاستسلام، ومنشأ هذه النغمة على ما أرى هو إيمان أصحابها بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً؛ إذا هم قد حسبوا، وهم مخطئون فيما حسبوا، أن القضاء أو القدر لهما تأثير فعلي في فعل الإنسان وإرادته، وإذا كان الأمر كذلك فما قدره الله جل وعلا لابد واقع لا محالة، سواء أعمل المرء , أم لم يعمل، وإذا كان العمل، وترك العمل سواء، فمن العبث البين أن يكلف الإنسان نفسه مؤونة الجد والجهاد والمزاحمة في تلك الحياة، لأنه لن ينال على ذلك أجراً، غير ما كان يناله لو كف عن جده وجهاده، وليس غرضي الآن أن أبين خطأ ذلك التفكير، فانه من البين الواضح أن القضاء والقدر ليسا إلا علم الله فحسب بما سيكون، والعلم ليس من صفات التأثير بل هو من صفات الكشف والإيضاح لا دخل له في قدرة الإنسان وإرادته

الإيمان بالقضاء والقدر على تلك الصورة التي أسلفت ذكرها هو إيمان بالجبر، وإيمان بالحظ على الصورة السطحية التي لا تتغلغل في حقيقة الأشياء، فأنكرت قدرة الإنسان وإرادته ودعتنا إلى الضعف والاستسلام وأنتجت لنا هذا اللون من الأدب الضعيف قال الشاعر:

وما فسدت أخلاقنا باختيارنا ... ولكن بأمر سببته المقادر

وفى الأصل غش والفروع توابع ... وكيف وفاء النجل والأب غادر؟

فقل للغراب الجون إن كان سامعاً ... أأنت على تغيير لونك قادر؟

وقال أيضاً:

ويجرى قضاء مالكم عنه حاجز ... فألقوا إلى مولاكمو بالمقالد

وقال أيضا:

وجبلة الناس الفساد وفضل من ... يسمو بحكمته إلى تهذيبها

وقال أيضا:

لا تمدحن ولا تذمن امرأ ... فيها، فغير مقصر كمقصر

وقال غيره:

عزت مطالب دنيا كل ذي أدب ... وهان مطلب دنيا الأحمق الخرق

وقدر الله فيها أن يذللها ... فهان مطلبها للجاهل الحمق فليس ينفك ذو علم وتجربة ... من مأكل جشب أومشرب رنق

وذو الجهالة منها في بُلَهنية ... من مسمع حسن أو منظر أنق

تبارك العدل فيها حين يقسمها ... بين البرية قسماً غير متفق.

ذلك شعر ينبع كله من واد واحد ومعين واحد، هو الجبر والإيمان بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً، والإيمان بالحظ إيمانا ساذجاً، وسأترككم إلى أنفسكم تحكمون على هذا الأثر الذي يتركه ذلك الشعر في النفوس، وهل يقربها إلى مثلها العليا؟! أو هو على العكس من ذلك يؤخرها ويسير راجعا إلى الوراء، إنكم رأيتموه يدعونا إلى الرضا بفساد أخلاقنا؛ لأن الفساد ليس باختيارنا، ولكن بأمر سببته المقادر، ونحن عاجزون تماماً عن تغيير أخلاقنا عجز الغراب عن تغيير لونه، ورأيتموه يدعونا إلى الضعف والاستسلام للقضاء والإلقاء إليه بالمقالد، ورأيتموه يسوي بين الناس مقصرين وغير مقصرين، فكلهم لا يستحقون مدحاً ولا ذماً، لأنهم لم يأتوا ما أتوه بقدرتهم واختيارهم، بلمجبرون على أن يفعلوا ما فعلوا، ورأيتموه يقرن الرزق الواسع بالجهل، والرزق الضيق بالعلم، لأنه يؤمن بالحظ، وإذن فعلى العلم والتعلم السلام، لأن أحداً من الناس لا يرضى برزقه مقتراً، ورأيتموه يؤمن بالحظ ويزرى بالعمل والجد، فقدروا بأنفسكم ما يبعثه هذا الشعر في النفوس من ضعف واستكانة واستسلام تبعد بنا عن المثل العليا التي لا تثبت ولا تقوم إلا على دعائم من العمل ثابتة وطيدة، حقاً أنا أومن بالقضاء والقدر، وأنا شخصياً أومن بالحظ، ولكنه إيمان ليس كإيمان هؤلاء، إذ أني اعتقد أن الإيمان بذلك كله لا يحول بين المرء وعمله، لأنه ما يدريه أنه قد كتب له الشقاء وقدر عليه التعس، وأن حظه بائس منكود، وما يدريه أنه على العكس من ذلك قدر له السعادة، وكتب له النجح وان حظه حظ السعيد الموفق؟

وبعد ذلك آخذ بيدكم لأريكم أدب القوة والهمة والإرادة وهي هي التي تأخذ بيدنا إلى بلوغ المثل العليا، قال الشاعر:

ذريني من ضرب القداح على السرى ... فعزمي لا يثنيه نحس ولا سعد

سأحمل نفسي عند كل ملمة ... على مثل حد السيف أخلصه الهند

فان عشت محموداً فمثلي بغى الغنى ... ليكسب مالاً أو ينث له حمد

وإن مت لم أظفر فليس على امرئ ... غدا طالباً إلا تقصيه والجهد وقال غيره:

ذريني أنل مالا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل

تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولابد دون الشهد من إبر النحل

وقال أيضاً:

يهون على مثلي إذا رام حاجة ... وقوع العوالي دونها والقواضب

ويعجبني هنا ما قاله أحد شعراء الإنجليز وترجمه إلى العربية بعض أدباء الشباب قال:

ليَ قلب لا يهاب ... فزعت منه الصعاب

بين أيامي وبيني ... حادثات وغلاب

لست أشكو إنما الش ... كوى من الحر تعاب

أنا ربان سفيني ... هاج أو قر العباب

فلْيلنْ أو يقس دهري ... إن قلبي لا يهاب

فافرقوا بين ألاحساسين اللذين يبعثهما هذان الشعران المختلفان مورداً وينبوعاً، وإني واثق الثقة كلها من أن الإحساس الذي يبعثه فيكم الشعر الثاني هو الإحساس بالقوة والإحساس بالإرادة، وأنا نطلب من الشاعر أن يحدثنا دائما عن قوة إرادتنا، وأنا نستطيع فعل كل شيء لأن ذلك يبعث فينا إيمانا جديداً وعزيمة جديدة بل ويخلقنا خلقاً جديداً، وإن قوة الإرادة هي المنبع الفياض والمعين الذي لا ينضب للنجاح في الحياة وبلوغ المثل العليا، أما الشعر الأول فشعر ضعيف مستسلم لا ينفعنا ولا يهذب من إرادتنا.

ولون آخر من ألوان الأدب الضعيف يتصل بالأدب الجبري، وقد يكون خدينه وشقيقه لأنه يستقي من معينه وينبع من ورده، وأعني بهذا اللون أدب الزهد والقناعة، ويطول بي الحديث إذا حدثتكم عن العوامل التي أنتجت لنا هذا النوع من الأدب، وإن كنت ارجع جل هذه العوامل إلى سوء فهم الشرقي للدين، فقد فهمنا وكنا مخطئينحين فهمنا أن الدين الإسلامي هو دين العمل والجهاد ودين الرفعة والطموح - يدعونا إلى الزهد في الدنيا والقناعة بما نصيبه منها من صبابة قليلة، فهمنا ذلك، ووجدت هذه التعاليم التي أخطأنا فهمها مرعى خصباً من قلوبنا الضعيفة الخائرة، وآنست من قلوبنا ضعفا وقلة ثقة بالقدرة على الجهاد، والتغلب على ما يعترض سبيل الحياة وسبيل النجاح من صعاب وعقبات، فقنعنا بما في أيدينا من قليل لا يرضى به إلا ضعاف النفوس ضعيفو الهمم، فكان ذلك أكبر عامل في خلق هذا الأدب الزاهد القنوع، فأصبحت تسمع كثيراً من مثل قول الشاعر:

نبغي من الدنيا الكثير وإنما ... بكفيك منها مثل زاد الراكب

وقوله:

أيها الباني قصورا طوالا ... أين تبغي؟ هل تريد السحابا؟

أأمنت الموت والموت يأبى ... بك والأيام إلا انقلابا

أبت الدنيا على كل حي ... نالها إلا أذى وعذابا

إنما داعي المنايا ينادي ... احملوا الزاد وشدوا الركابا

وقول الآخر:

مرحبا بالكفاف يأتي هنيئا ... وعلى المتعبات ذيل العفاء

ضلة لامرىء يشمر في الجم ... ع لعيش مشمر للفناء

دائبا يكنز القناطير للوا ... رث والعمر دائباً في انقضاء

حبذا كثرة القناطير لو كا ... نت لرب الكنوز كنز بقاء

يحسب الحظ كله في يديه ... وهو منه على مدى الجوزاء

ليس في آجل النعيم له حظ ... وما ذاق عاجل النعماء

ذلك الخائب الشقي وإن كان ... يرى أنه من السعداء

حسب ذي إربة ورأى جلي ... نظرت عينه بلا غلواء

صحة الدين والجوارح والعر ... ض وإحراز مسكة الحوباء

تلك خير لعارف الخير مما ... يجمع الناس من فضول الثراء

إلي غير ذلك من أدب يحمل الدعوة إلى الزهد والقناعه، وإذا نحن أردنا أن ندرك آثار هذا الأدب فانه يجب علينا أن نتصور شعباً نائماً كسلاً، لا يجد ولا يعمل إلا بقدر ضئيل، وماله يجد وماله يعمل، وقد وجد ما يمسك حوباءهووجد قوته الضروري؟ وإني أكاد اعتقد أن تأخر الشرق في ميادين الاختراع وفي ميادين العمل يعود كثير منه إلى خلق الزهد وخلق القناعة الذي غرس في قلبه وأثر في كل عمله، بل إني أكاد أعتقد أيضاً أن استغلال الغرب للشرق يعود إلى هذا الخلق الوبيل الذي يجرنا إلى الفناء، فلندع القناعة بمعناها الذي ضرنا وأخرنا، ولنتقبلها بمعنى ألا نطمع فيما في يد غيرنا، أما بمعنى الرضا بالقليل فيجب أن نذهب بها إلى قبرْ لا تخرج منه لترى ضوء الحياة، ولنقبل على أدب الطموح وأدب الآمال الذي يسمو بنا عن الرضا بالقليل نناله من غير أن نبذل عناء في نيله ولا تعباً، - ولنكرر دائماً مثل قول الشاعر:

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجدّ المؤثل أمثالي

وقول الآخر:

ذريني للغنى أسعى فأني ... رأيت الناس شرهم الفقير

وأضيعهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير

يحقره الندىُّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير

ويلقى ذو الغني وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل ذنبه، والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور

وقول الآخر.

من الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده

ولكنّ قلباً بين جنبيّ ماله ... مدى ينتهي بي في مراد أحده

وقول غيره:

يا شباب الغد وابناي الفدا ... لكمو، أكرم وأنعم بالفداء

لا تقولوا حطنا الدهر، فما ... هو إلا من خيال الشعراء

واطلبوا المجد على الأرض فان ... هي ضاقت فاطلبوه في السماء

وإني مع شوقي يوم قال واصفاً شباب مصر:

شباب قُنَّع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا

ولكنه من الواجب ألا نلقي العبء كله على الشباب، بل هو ملقى على التربية والآداب، فالأدب الشعبي الدارج مليء بالقناعة والأدب المدرسي مثله.

(يتبع)

أحمد أحمد بدوي