الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 529/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 529/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 23 - 08 - 1943


للدكتور زكي مبارك

جاذبية الشواطئ المصرية - أعجوبة الأعاجيب

جاذبية الشواطئ المصرية

من الواضح أني لا أستطيع الإجابة عن جميع أسئلة القراء، ولو أني استطعت ذلك لتحولت مقالاتي إلى موضوعات يغلب عليها الضجيج، ومع ذلك فسأرد على الأستاذ أحمد فتحي القاضي، لأنه احتكم إلى الشريعة في وجوب رد التحية، ولأن الرد عليه يوضح مشكلة تحتاج إلى توضيح

والأستاذ غاضب على وما وقع مني في الدعوة إلى الاصطياف، ويقول إن كلامي في التغني بجاذبية الشواطئ لم يقع من أهل الصعيد موقع القبول، ويصرح بأنه كان ينتظر أن أكون من الثائرين على حياة الشواطئ، وقد صارت ملاعب للنساء العاريات، كما قال!

وأقول إني أحترم عواطف قرائي كل الاحترام، ولكن مذهبي في الأدب يأبى عليَّ أن أبحث عما يرضي قرائي، فالغاية عندي هي الصدق في التعبير عما يختلج في صدري، ويطمئن إليه قلبي، ولو كان فيه ما يغضب جميع القراء. . . ألم أقل لكم إني لست أسيراً للوطن ولا أجيراً للمجتمع؟

وماذا أصنع إذا كنت أومن بأن الشواطئ المصرية من أجمل ما خلق الله؟

وماذا أصنع وأنا أعتقد أن زيارة الشواطئ المصرية تزيد في قوة العقل والفكر والذوق؟

وهل يرضيني أن أفعل ما يفعل الشيخ أبو العيون وهو يتوهم أن زيارة الشواطئ تفسد الأخلاق؟ إن الشيخ أبو العيون يغرق في كوز ماء فكيف نسمع كلامه في البحر المحيط؟

هل تعرفون أن الشيخ أبو العيون لم ير الشواطئ مع أنه يعيش في الإسكندرية منذ سنين، ومع أنه أبو العيون؟

آن الوقت لأن نسمع هذا الرجل الطيب كلمة الحق. آن الوقت لأن ننهاه عن الغض من حياة الشواطئ وهي نعمة عظيمة منَّ بها المنعم الوهاب على أهل هذه البلاد

هذا الرجل الطيب يتكلم باسم الدين، فهل يستطيع أن يدلني لأي حكمة خلق الله تلك الشواطئ بذلك المهاد الجميل؟

هذا الرجل الطيب يعرف أن السباحة رياضة بدنية، وهو مع ذلك يعجز عن السباحة في الخيال

نفرض أن حياة الشواطئ تفتن بعض الناس، فهل يجب أن نقتلع الجذور من كل جمال يدعو إلى الفتون؟

ما رأيه في القمر وقد قيل إنه يهيج الصبوات؟

أنجرّد حملة لإسقاط القمر من أفق السماء؟

ما رأيه في الأزهار وقد قيل إن عطرها يوقظ الشهوات؟

أنجتث كل شجرة مزهرة لتنام عيون أبي العيون؟

الآذان تؤهل لسماع النمائم، فهل نصلم جميع الآذان؟

والجسم السليم يؤهل للمعاصي، فهل نحول الخلائق إلى مهازيل ومعاليل؟

كل نعمة تعرض صاحبها لمتاعب أخلاقية، فهل نطلب زوال النعم لتستقيم الأخلاق؟

إن أبا العيون الواعظ يحتاج إلى واعظ، فأنا أخشى أن يغضب الله عليه إن استمر على هذا الأسلوب، من الوعظ المقلوب

أفي الحق أن الشواطئ ليست إلا مباءة رجس وخلاعة ومجون؟

أهذا كل ما يتصور الباكون على الأخلاق بدموع التماسيح؟

أين إذاً الشعور بجلال الله وجمال الوجود عند زيارة الشواطئ؟

أنتم تدعوننا لزيارة المقابر لنتعظ، ونحن ندعوكم لزيارة الشواطئ لتهتدوا

ضميري لا يسمح بأن أرائي قرائي، فليسمعوا كلمة اللوم على غفلتهم عن الاصطياف، وليسمعوا كلمة الصدق في دعوتهم إلى تنسم هواء البحر من حين إلى حين

أما الخوف من اللؤلؤ المنثور فوق الشواطئ فعلاجه سهل، وهل يصعب عليكم أن تدخلوا الشواطئ بلا عيون؟

عندكم الأقنعة الواقية، وقد وزعتها عليكم الدولة بالمجان منذ سنتين، فالبسوها عند زيارة الشواطئ، لتكونوا في أمان من سحر الجمال ولكن تلك الأقنعة فيها ثقوب تطل منها العيون، فماذا تصنعون؟ الرأي أن تظلوا في مراقدكم، وأن تتركوا هواء البحر ورمال الشواطئ لعقلاء الأجانب

ماذا يقول أحفادنا إذا قرءوا هذه الكلمة وعرفوا أن الاصطياف كان معضلة تختلف فيها الآراء؟

لو كانت الشواطئ المصرية بأيدٍ غير أيدينا لأصبحت فراديس تصبو إليها نجوم السماء، فما يمكن أن تكون في الدنيا شواطئ في سجاحة الشواطئ المصرية، ولا يمكن أن تنعم بلاد بمثل ما ينعم به أهل هذه البلاد من شواطئ تفوق الإحصاء

وماذا يرى الرائي في الشواطئ؟

قالوا إنه يرى أجساماً عارية

الآن فهمت وفهمت، فقد طال غرام الناس بالتحجب والرياء، لأن اعوجاجهم في ضمائرهم فرض عليهم أن يعيشوا في أسر الأثواب

الكلمة الصريحة لا تصدر إلا عن صاحب الرأي الصريح

والجسم العاري لا يتخايل به غير صاحب الجسم الجميل

والمصريون فكروا في التزود من جميع الثقافات، وأهملوا الثقافة الجسدية، فما الذي يمنع أن يكون في الشواطئ تذكير بما للجسد من حقوق؟

في رؤية اللاهين فوق رمال الشواطئ درسٌ ينفع من تركوا أجسادهم بلا تثقيف، وهو درس يحتاج إليه الشيخ أبو العيون

يجب أن نرى العراة فوق الشواطئ لنتذكر جنايتنا على أجسادنا بترك الرياضة البدنية!

هل تذكرون السيدة التي أثنت على القرار الخاص بتخصيص أحد الشواطئ لاستحمام النساء؟

هي سيدة لا تستطيع البروز بلباس البحر ولو كان جوازاً إلى دار الخلود!

أكتب هذا الكلام وأنا أعرف أن أناساً من خلق الله سيعترضون، كما اعترض المحامي الذي يراسلني من منفلوط؛ أكتب هذا الكلام وأنا أعرف أنه يصورني ظلماً بصورة الماجنين، مع أني صادق كل الصدق فيما أقول، فالشواطئ المصرية نعمة من نعم الله، وما يقع فيها من الشر لا يقاس إلى ما تسوق من منافع الخير الصحيح

لو شئت لعتبت على قرائي: فالشاعر أحمد العجمي يقول إني مجَّدت الإسكندرية أعظم التمجيد، فهل زار الإسكندرية ليراها بعيني؟ والمحامي أحمد القاضي آذاه كلامي عن الإسكندرية فهل زارها ليعرف حقيقة كلامي؟

زوروا الإسكندرية، وقفوا لحظات أو ساعات بمحطة الرمل

كان أبعد سفر عند أهل الصعيد هو زيارة طنطا في مولد السيد البدوي، فهل أستطيع نقل أهل الصعيد إلى زيارة أبي العباس المرسي؟

إن كانت الدعوة إلى الحياة خلاعة ومجوناً فأنا راض بأن أضاف إلى الخلعاء والماجنين. . . وهل يؤذيني الظن الآثم، والجهل الطائش؟

أنا أدعو إلى الحياة. أنا أدعو كل مصري إلى تذوق الجمال بكل بقعة من بقاع هذا الوادي الجميل

في السماء رزقي، فما خوفي من أهل الزور والبهتان؟

أعجوبة الأعاجيب

هي أن تكتب كلمة يفهمها جمهور القراء على الوجه الصحيح

ثم تستغلق على محرر مجلة أسبوعية فيؤولها أسوأ تأويل، وتكون النتيجة أن يبني عليها أحكاماً أوهى من بيوت العنكبوت، وهو يتوهم أنه غاية في اللذوعية والذكاء

ولهذه الأعجوبة قصة قريبة، فقد كنت كتبت في رثاء تقلا باشا سطوراً أبرزت بها خصائصه الذاتية، الخصائص التي جعلت حياته قدوة لرجال الأعمال، وكان الروح الذي يسود تلك السطور يفيض بمعاني العدل والإنصاف والإجلال، وإن خلا من الندب واللطم والصراخ، على نحو ما صنع المحرر لتلك المجلة الأسبوعية

كان الظن أن يفهم بعض خلق الله أني أرثي تقلا باشا في مجلة الرسالة، والرسالة تترجم من ترثيهم، فجوها يصلح للترجمة ولا يصلح للبكاء، وهل يحتاج تقلا باشا إلى من يبكيه؟ إنما يحتاج إلى مثل هذا الرجل إلى من يظهر الشمائل التي وصلت به إلى أن يكون في الطليعة بين رجال الصحافة في الشرق، وليس ذلك بالمجد الضئيل، حتى تكمله بالتوجع والتفجع والأنين

ولكن ذلك المحرر رأى بذهنه الثاقب أن كلمتي تحتمل التأويل، فانتهز الفرصة وتقرب إلى أقارب صاحب (الأهرام) بالشفقة المكذوبة والود المدخول، فزعم أني هجمت على ميت، ثم تطاول فقال كلاماً يدل على أدبه الجميل

وأردت أن أصحح خطأه فكتبت كلمة تصحيح، ولكنه عاند عناداً يقبل ممن يكون في ملئ عقله فألقاها في سلة المهملات، لأني هددته بنشر ما اعترض عليه، عساني أجد الفرصة لتقويم بعض المحررين

وأحب أن أعرف ما هي الغاية من الإيقاع بين الناس؟

قلت لذلك المحرر: إن لي أصدقاء في جريدة الأهرام على رأسهم أنطون الجميل وكامل الشناوي وعوض جبريل، فكيف يسيغ ذهنك أني أستبيح إيذاء أولئك الأصدقاء في مناسبة لا يجوز فيها إيذاء الأعداء؟

وقلت لذلك المحرر: إني لا أهجم إلا على الأقوياء من الأحياء، فكيف أهجم على ميت لا أذكر أني عاديته لحظة من زمان؟

وقلت لذلك المحرر: إني رثيت تقلا باشا وأنا أتمثل ما عانى في حياته الصحفية، فما يجوز أن أقول فيه غير الجميل، وإن التبس كلامي عليك

وقلت لذلك المحرر: إن لتقلا باشا أقارب من أصدقائي في القاهرة وبيروت، وأنا أتحيز دائماً لأصدقائي، فليس من المعقول أن أوذيهم في مثل هذا المقام الحزين

وبرغم هذه الشروح أصر المحرر على إغفال كلمة التصحيح، فما الأخلاق عندكم يا محرري بعض المجلات الأسبوعية؟

ما الأخلاق عندكم وقد أهمل ذلك المحرر رجائي في أن لا يدس بيني وبين ناس محزونين؟ وما هذا الإفك في الإفساد بين الناس؟

أنا حاضر لمخاصمة جريدة الأهرام، ولكني أرفض أن يقال إني أخاصم صاحبها في غداة الموت، وليس لحي بقاء

وما قيمة التودد لجريدة الأهرام بمثل هذا الدس الممقوت؟

أيكون لجريدة الأهرام قوة سحرية تمنع العواقب المقدورة على الدساسين؟

القدرة الصحيحة هي قدرة الحق، فما شأنك يا كاتباً أفلس فلم يجد زاداً غير الوقيعة بين كرام الرجال؟ ما شأنك ولن تكون كاتباً ولو سودت وجهك بالمداد في ألوف من السنين؟

ما عتبي عليك، وقد نصحتك فلم تنتصح، بعد أن رأيت ما صنعت بنفسك، يوم صورت شعورك بأول غارة جوية؟

ما عتبي عليك، وقد خاب أملي فيك؟

لقد فكرت في أن أشرح لك العبارة التي عجزت عن وعيها فهمك، ولكني خفت أن تعجز عن فهمها بعد الشرح

وقد فكرت في النص على المجلة التي تتسع لأوهامك وأحلامك، ولكني ترفقت فلم أدل على مجلة كان زادها ولن يزال من عبث الأطفال

إن كلمتي في رثاء تقلا باشا كلمة حق، لأني رثيته باسم الحق، فما قيمة كلماتك في رثائه وأنت ترائيه في الحياة وبعد الممات لغايات؟

عفا الله عنك يا فلاناً بالمجلة الفلانية!

ونفعك الله بهذا الدرس البليغ!

زكي مبارك