مجلة الرسالة/العدد 526/وفود العرب على كسرى
→ حول الأدب المهموس | مجلة الرسالة - العدد 526 وفود العرب على كسرى [[مؤلف:|]] |
في الشعر المهموس ← |
بتاريخ: 02 - 08 - 1943 |
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
وجه إلي أستاذنا الجليل (ن) كلمة طيبة تحت هذا العنوان بشأن ما نشرته في (الرسالة) في موضوع (الخطابة بين الحرب والسياسة)
وما بال السيد الجليل (ن) يخفي عنا اسمه، وقد دلت عليه عبارته وأشارت إليه مقالته، كما يدل فسيق المسك على المسك، ونضح الإناء بما فيه. وقلنا ونحن نقرأ مقاله ونتذوق بيانه: هذه نفحة من شيخ أدباء الجارة الشرقية والشقيقة العربية؛ طالعنا بها على بعد أمد، وطول عهد والتزام صمت؛ فوردة نماذج الروح لطافة، وتجري مع النفس رقة
يتهمني الأستاذ الجليل أنني قدرت في نفسي صحة حكاية وفود العرب على كسرى، وهي تهمه يشرفني أن أكون بها مقترفاً، ولها مكتسباً؛ فقد أوردت قصة الوفود في مقام يقتضيها وسياق يستدعيها، ولم أتعرض لها من حيث صحة الوقوع وصدق الرواية؛ فذلك لم يكن سبيلي في المقال؛ ولكنني سقتها - على علاتها - كما ساقها صاحب العقد الفريد في أول الجزء الثاني من كتابه.
وكان غايتي من سوق خطب الوفود في مقالي بالرسالة أن أستشهد على حذف بعض الخطباء وحضور بدائهم وسرعة خواطرهم في المقامات الضيقة التي يفرجونها ببيان ولسان وجدل، فلم أجد أحسن في الاستشهاد ولا أطوع في الانتقاد من خطب وفود العرب على كسرى
وابن عبد ربه نفسه الذي نقل أخبار هذه الوفود يمهد لها في أول كتاب الجمانة بقوله: (. . . فأنها مقامات فضل، ومشاهد حفل، يتخير لها الكلام، وتستهذب الألفظ، وتستجزل المعاني. ولا بد للوفود عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته يتزعون وعن رأيه يصدون). وهذا كلام من ابن عبد ربه له خبئ. . . معناه أنه مقر بصحة ما ينقله، وأن هذه الوفود الوافدة على ملك الفرس لم تكن خبرا ًمصنوعاً ولا حديثاً موضوعاً. وأن غيرها من أخبار الوفود صحيح في اعتبار المؤلف، وخاصة بعد قوله في التمهيد المشار إليه: (وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي. . . ملك جبار في رغبة أو رهبة، فهو يوطد لقدمه مرة، ويتحفظ من أمامه أخرى، أتراه مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة، أو غريبة من غرائب الفطنة؟)
ويقول الأستاذ الجليل (ن) ناقلاً كلاماً في موضوع الوفود على كسرى: (ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج، ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته). وأقول إن الأستاذ العربي الجليل قد رمى العرب في هذه المقالة بما لم يرمهم به أعداؤهم، فكيف يفوت ذلك على فطنة أستاذنا وهو يعلم أنه إذا رمى فسيصيبه سهمه، وأنه - أعزه الله وشرفه - من غزية. . . إن غوت غوى. . . وإن ترشد غزية يرشد. . .!
لقد كان النعمان من ملوك الحيرة، ولهم الملك المؤثل كما كان الغساسنة في الشام. وهذا كلام لا يغيب عن علم الأستاذ الجليل ولا يند عن أبسط معارفه، كما لا يغيب عنه شعر حسان ابن ثابت - في الجاهلية - في مدح الغساسنة وصف بياض وجوههم، وكرم أحسابهم، وشمم أنوفهم، وأولية طرازهم. . . فهل يقل المناذرة عن الغساسنة شيئاً من مكارم العرب واعتدادهم بأنفسهم في ساعة يحسون فيها انتقاص منتقص، أو اعتداء معتد مهما كان شأنه؟
وما الذي يمنع من وفود النعمان على كسرى وهو تابع له وفي ظل حمايته؟ لا شيء يمنع عقلاً من حدوث الوفادة. ونحن نرى في زماننا هذا الأمم المحمية، يفد مندوبها على الأمم الحامية القوية. . . ويجلسون حول الأنضاد الكبيرة، والموائد المستديرة!
فهل تعدم هذه الأمم المحمية اليوم رجلاً من أعز رجالاتها؛ أو بضعة من أصدق ألسنتها يقولون ما يعتقدون، ويدفعون عن أممهم وأوطانهم بحسن البيان، ما لا يستطيعون دفعه بالسان؟
اللهم إن هذا يحدث اليوم تحت سمعنا وأبصارنا، والأستاذ (ن) شاهد به هذه الوقود الحديثة والموائد الخضر نبأ يقين. . .
فلماذا ينكر هذا القلب العربي المتوثب - قلب أستاذنا الجليل ن - على النعمان بن المنذر واكثم صيفي وحاجب بن زرارة والحارث بن ظالم وغيرهم من سادات تميم، وأشرف بكر، وغطاريف عامر، وجحاجحة زيد - كيف ينكر عليهم أن يقولوا في سبيل العروبة كلمة يعتقدون حقيقتها ويؤمنون بصدقها، إيمانهم بالمصطحبات من لصاف وثبرة يزرن ألالاً ويتدافعن في سيرهن. . .؟
يقول الأستاذ الجليل (ن) (كلام الذي أوفدهم ابن ماء السماء إلى سلطان فارس مزور مختلق لم يقله النعمان ولا جماعته ولن يستجرئوا على مثله)
ونحن نقول إن العربي لا يستجرئ على إعلان حميته وإبائه إلا لما أودع الله فيه صفات الأنفة العزيزة والكبرياء الرفيعة؛ حتى ولو كان في الأطمار والأسمال خاوي البطن عاري الشوى والمنكبين من الطوى. . . وهو على عنجهيته ولوثته بصير بمواطن الكلام، عليم بمرامي السهام. . .
وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
وقد انتقى النعمان لوفد كسرى جماعة وظنهم بميزانه، وأنزلهم أقدارهم التي يعرفها عنهم؛ وتوسم فيهم - لطول معرفة، أو حسن سماع، أو ص دق جوار - حسن الجواب ولطف المخرج من مضايق الكلام. ولم يخترهم من أهل الغفلة والبله، والسرعة والحمق؛ وتلك حسنة أخرى من حسنات النعمان، وفضيلة من فضائله؛ فهو هنا محسن يحسن اختيار الرجال، ويتنخل أعضاء الوفود الذين يصح أن توكل إليهم المهمات وتلقى عليهم التبعات. . .
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا تُوصه
وفعلاً وحقاً وصدقاً، لم يكذب النعمان قول الشاعر الإسلامي فأرسل مع الوفد حكيماً عربياً عرف بالصدق في الكلام وأشتهر بالقولة السائرة والحكمة المرسلة، وهو أكثم بن صيفي، فلم يعد أن يكون حكيماً في مقام المفاخرة. وتلك لطيفة من لطائف وفود العرب على كسرى؛ فقد كانوا يستطيعون أن يكونوا كلهم أبواقاً - أو بوقات - يضربون على فضائلهم، ويغنون على (ليلياتهم). . . ولكنهم قسموا العمل، ووزعوا الخطة وأحكموا الطريقة في هذا المؤتمر الذي يشبه مؤتمر (كذا) في بلاد (كذا) في عصرنا الحديث. . .
فأكثم بن صيفي حكيم ينطق بقدر، ويزن الكلام إذا نطق، فليس ثرثارة يخطب، ولا مهذاراً يكثر؛ بل يرسل الحكمة تلو الحكمة، والكلمة الصادقة أثر الكلمة، ويوجه الكلام - على حد البلاغيين - فيأخذ منه كسرى ما يأخذ لنفسه ويدع ما يدع. والحكيم في ذلك لم يغلط في قول، ولم يعنف في كلام، ولم يجهل أقدار الملوك، ولم يخرج عن جادة الاعتدال. فكيف يقال بعد ذلك إن خطباء هذه الوفود لن يستجرئوا على مثل ما نسب إليهم من الكلام؟
ويقوم عمرو بن الشريد السلمي فيفخر في إيجاز؛ ويهدد في إعجاز. أما افتخاره فما كان فيه غالياً ولا مبالغاً ولا نفاجاً ولا كذباً ولا مسخطاً لكسرى ولا متنقصاً للفرس؛ فهو يقول عن العرب بارك الله فيهم: (إن في أموالنا مرتفداً؛ وعلى عزنا معتمدا، إن أو رينا ناراً أثقبنا، وأن أود دهر بنا اعتدلنا. إلا أننا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون). لا فض فوك يا ابن الشريد! فما عدوت الصدق في كلامك، ولا جاوزت الحد في افتخارك. فهو يعلن هنا في كلمته الموجزة ميثاق الصداقة مع حليفته الكبرى. . . وهذا كلام لا يؤلم الحلفاء؛ ولا يوجع الأصدقاء وترجمته في لغة السياسة الدولية الآن أنه إذا اعتدى على بلاد الفرس فإن الأمة العربية الحليفة ملزمة بتقديم المعونة لها من المال والعتاد والرجال. . .
فأين موضع الجرأة أو الكذب أو المغالاة أيها الأستاذ الجليل، في هذا الكلام الوفي الجميل؟
بقى أن ذكرت أيها السيد العربي الكريم في تساؤلك أن صانع خبر الوفود أو صائغه أو مختلقه أو مزوره هو الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي. فقد ذكر ياقوت الرومي أن من تصانيف الزبير هذا كتاب (وفود النعمان على كسرى)
وأقول أنا: إن ياقوت الرومي ذكر نقلاً عن ابن النديم صاحب الفهرست الذي عاش قبله بقرابة قرنين من الزمان. ووصفه ابن النديم بقوله: كان شاعراً، صدوقاً، راوية، نبيل القدر. فكيف يجوز لمن هذه أوصافه أن يضع الحديث الأدبي ويختلق الأخبار؟ وقد الزبير قاضياً على مكة وتوفي وهو قاض عليها. فكيف صح في القضاء رجل يتهمه أستاذنا الجليل اليوم بالوضع والاختلاق
وما حاجة الأستاذ الجليل أن يبني كلامه في اتهام الزبير بكار على الظن والفروض ما دام كتابه في وفود النعمان على كسرى لم يصل إلينا
وفوق ذلك أن الزبير بن بكار عاش في القرن الثالث الهجري ومات سنة 256هـ وفق رواية ابن النديم. فهو متأخر عن ابن القطامي والكلبي اللذين نقل عنهما ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد حكاية الوفود على كسرى. فإذا كان هناك وضع في هذه الحكاية فأولى به أن يكون صاحبه ابن القطامي أو الكلبي - سواء أكان محمدا الكلبي أم ابنه هشاما الكلبي - فلم يشتهر عنهما وضع - شهد لهما الأوائل بتقدمهما في علم الأنساب أما ابن القطامي فقد اشتهر عنه الكذب المقصود والاختلاق المعمود إليه؛ مع غفلة وبلاهة وضعف في الحكم وسقم في الفهم وسرعة تصديق لما يسمع من غير تدبر وتفهم. ويجوز أن يكون هو الذي وضع أو صاغ حكاية وفود العرب على كسرى إن كان لابد في هذه الحكاية من وضع
أما رأيي أنا. . . فحكاية الوفود صحيحة وليس فيها محل للإنكار والاستنكار، وهي جائزة الحدوث علماً وعقلاً، فهي تتفق مع صراحة العرب وإبائهم وحسن قيامهم في المواقف الضيقة وصدق حكمتهم، والوفاء لأحلافهم؛ ولو أن فيها من زخرفة الرواة وتزيد أهل الأخبار.
محمد عبد الغني حسن