مجلة الرسالة/العدد 526/صورة من الأدب التركي
→ برنارد شو | مجلة الرسالة - العدد 526 صورة من الأدب التركي [[مؤلف:|]] |
نهاية موسوليني ← |
بتاريخ: 02 - 08 - 1943 |
قبر من الأوحال
للكاتب التركي خالد ضيا
بقلم الأستاذ برهان الدين الداغستاني
قد مضى عليه الآن بعض سنوات وهو يخرج كل صباح حاملاً هذه الرسائل التي تملأ حقيبته
أنه تعب من هذه الحياة، وسئم جر ساقيه المتعبتين من كثرة المشي من إفريز إلى إفريز يتلمس الأبواب
نعم بلغ به الملل والسأم الآن حد النفور من توزيع هذه المزق من الأوراق التي تأتي من كل ركن من أركان العالم وتقتضيه الجولان من شارع إلى شارع ومن باب إلى باب
مضى عليه الآن أمد طويل وهو على حاله هذه: يحترق تحت أشعة الشمس اللافحة وتكاد أنفاسه تتقطع من حر السموم التي تقذف باللهب كأنها فيح جهنم
وفي الشتاء يتلقى ميازيب السماء التي تغسله من فرقة إلى قدمه. ويجر رجليه اللتين كاد يفتهما البرد وسط الأوحال
إنه كره التسكع في أزقة هذه المدينة العظيمة التي لا حصر لها. كما كره منظر حقيبته التي لا تفارق جنبه. نعم إنه سئم السير آلاف الخطوات كل يوم ليوصل الأخبار إلى هذا وذاك
سنين. . .! إن سلسلة أيام هذه السنين الطويلة الخالية من الإنصاف قد مرت عليه وهي تنزل به الضربة تلو الضربة في كل يوم. وتحطم آماله وتهدم صرح أمانيه وتدفنها في الرغام. مسكين! إنه لا يكاد يجد بعض الراحة والهدوء لأعصابه المحطمة في ظلمة الليل حتى تقول له الشمس التي تشرق في مطلع كل نهار:
(إنك اليوم أيضاً - كما كنت أمس وكما كنت في كل الأيام الخالية - موزع بريد وستبقى كذلك ما دمت حياً)
آه من هذه الحياة المريرة التي حكم عليه أن يقضيها متسكعاً الساعات الطوال ليجد شخصاً من الأشخاص، يبحث عن أرقام المنازل تارة، ويسأل أصحاب الدكاكين والحوانيت ع اسمه تارة أخرى. ويسير بخطوات مضطربة في منحنيات هذه الشوارع والأسواق التي لا نهاية لها
هاهو ذا قد ثارت ثورته على الحياة وانفجر بركان نقمته من جراء هذا المطر الغزير الذي لا يرحم، والذي ألصق أثوابه المبللة بعظامه ونفذ من حذائه الممزق إلى جواربه
إنه لم يرى حاجة إلى الاحتماء في مكان ما ولم يحاول الهرب من هذا المطر المنهمر وكأنه يريد مطاردته - حتى يخفف بعض أذاه عنه. بل جلس على حافة أحد تلك الحوانيت المغلقة وأخذ يتأمل هذه الطبيعة الثائرة. هذا الشارع الذي يخيل لناظره - من هول المطر وشدته - أنه أمام نهر من أنهار جهنم إبان فيضانه. هذه الأوحال التي تغلي وتقذف بحباب أسود من شدة وقع قطرات المطر. وبينما هو في تأملاته رأى أولئك الذين يسيرون في سكون ودعة مستظلين بمظلاتهم من غير أن تلوث الأوحال أرجلهم، ولا أن تبلل الأمطار أثوابهم. ثم رأى تلك السيارات التي تشق الأوحال وتسير مندفعة كالسيل. لا جرم أن المطر لم يكن له أثر بالنسبة إلى هؤلاء وأولئك. إن أصحاب هذه المظلات وإن أرباب هذه السيارات هم أصحاب هذه الرسائل التي تملأ حقيبته. من يكون هو وما قيمته ومقداره بين هؤلاء وأولئك في وسط هذه الحياة الصاخبة؟ هل جاء إلى هذه الدنيا لمجرد حمل رسائل هؤلاء السادة وتبليغها إليهم؟
إنه لم يعد ينظر إلى الشارع وما فيه، بل حول نظره إلى قطرات الماء التي كانت تتساقط حوله من أطراف ملابسه الممزقة، والى حذائه الذي يخيل لرائيه أنه ينتحب تحت نقاب من الطين!. . .
آه من هذه الرسائل! هذه الأشياء التي تأتي من أي إنسان وتذهب إلى أي إنسان!. . .
كان المسكين في حاجة ملحة إلى رسالة من هذه الرسائل، لأنه لم يتلق رسالة خاصة مدة حياته كلها، بل كان مكلفاً برسائل الآخرين فقط. كان وحيداً لا أهل له ولا أقرباء فأنى له بكتاب يأتيه أو ينتظره؟
وكان كلما فتح هذه الحقيبة التي تملأ كل يوم وتفرغ أو أقفلها أرسل من أعماق قلبه آهة حزينة طويلة. كان يتحسر على هذه الأشياء التي تمر بين يديه كل يوم من سنين طويلة ويتحرق شوقاً إليها. ماذا كان يحصل لو أن أحد هذه الرسائل ـ في الفينة بعد الفينة ـ كان باسمه وله خاصة؟ لا جرم كانت تكون نوعاً من التسلية تخفف بعض أعباء الحياة عن كاهله
ماذا في هذه الرسائل، وما هي الأسرار التي تخفيها في طياتها؟ إنه يعرف سيدة تنتظره دائماً في مدخل منزلها في زقاق بعيد طويل، لأنها كانت تتلقى رسائل من ولدها
ويعرف فتاة في كلية الطب تأخذ كل أسبوع ثلاث. أو أربع رسائل دفعة واحدة. وكان يراها دائماً تسارع إلى غلاف ارجواني وتفضه دون بقية الرسائل ويداها ترتعشان.
وعلى مر الأيام ألف هذه الرسائل وكسب شيئاً من المرانة من طول التكرار وكثرة الممارسة، فأخذ يفهم أسرارها ومحتوياتها المختلفة، فكان يعرف مضامينها من خطوطها تارة ومن أسماء أصحابها تارة أخرى. ومن ألوان أغلفتها والروائح المنبعثة من أوراقها المعطرة في بعض الأحيان
نعم بدأ يعرف هؤلاء الذين يتبادلون الرسائل فيما بينهم، أولئك الآباء والأبناء والأزواج والزوجات
وهؤلاء الشبان من الفتيان والفتيات الذين يتبادلون عواطف الحب ويتساقون أكؤس العشق والغرام
نعم أخذ يفهم أولئك الذين يمرون أمامه بمظلاتهم وسياراتهم من غير أن يكونوا مثقلين مثله بحقائب مملوءة برسائل الآخرين. . .
كان يفهم كل السادة أصحاب هذه الرسائل اللعينة وكان في نفس الوقت يشعر شعوراً قوياً بأنه الوحيد الذي لاحظ له من نعيم ولا نصيب من راحة وسط هذا العالم الصاخب وبين هؤلاء السادة المترفين المنعمين
كان بائساً حقاً. فلم يكن له أن ينتظر وصول رسالة باسمه من أحد في يوم من الأيام
وعند ما وصل إلى هذا الحد من تأملاته وخواطره كان المطر لا يزال يتساقط بشدة فوق طربوشه المبلل وتنحدر قطراته إلى وجنتيه فتملك هذا الموزع المسكين البائس هذا القلب الحزين. هذا الذي فقد كل أمل في الحياة تملكه شعور قوى من اليأس العميق والألم المبرح والحزن الشديد. وتمنى لو يستطيع اقتلاع هذه الحقيبة التي تحفظ رسائل الآخرين من على عنقه وقذفها في الهواء. هذه الحقيبة المعلقة برقبته بسلسة لا تطاق كأنها - لثقلها - تريد أن تجتذب رأسه إلى أسفل حق تلصقه بالأرض
إنه يتمنى أن يدوس هذه الحقيبة برجليه حتى تتمزق إرباً إرباً وتنسحق سحقاً!. . .
وبعد ذلك يرجو - لينال بعض الراحة - أن ينغمس في هذه الأوحال التي تنشق كالقبر ثم تلتئم كلما خاضها خائض.
نعم هنا وفي هذه الأوحال يريد أن يمد رقبته تحت عجلات السيارات ويموت
يريد أن يدفن في هذه الأوحال
إنه يتمنى قبراً من الأوحال
برهان الدين الداغستاني