مجلة الرسالة/العدد 526/الحديث ذو شجون
→ وزارة الأوقاف الجديدة | مجلة الرسالة - العدد 526 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
المسرح المصري ← |
بتاريخ: 02 - 08 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
تحول جديد في الجو المصري - بين الشيخ محمد عبده
والشيخ رشيد رضا
تحول جديد في الجو المصري
اخذ الجو يتحول في الأعوام الأخيرة بأسلوب لم تعهده من قبل، فقد صار شتاء مصر عنيفاً جداً، وصار صيفها أعنف، وأصبحنا نتذوق الطعوم المختلفة للحياة الجوية على نحو ما كان يتذوق الأباء والأجداد قبل أجيال
والمنتظر أن يكون لهذا التحول الجديد في الجو المصري تأثيرٌ يزيد في قوة الحيوية وقوة الشعور بالوجود، فقد كاد اعتدال الجو في مصر يخلق ألواناً من البلادة، وكاد يضعف الإحساس بتغير الفصول
والمنتظر أيضاً أن يكون لهذا التحول فضل في التشويق لمعرفة الأجواء المختلفة بالديار المصرية، فسيصير من المألوف أن تكون لنا مواسم في الجنوب أيام الشتاء، كما صارت لنا مواسم في الشمال أيام الصيف، وسيكون من الحتم أن نعرف الأقصر وأسوان كما نعرف الإسكندرية ودمياط
والواقع أن إقبال المصريين على مصايفهم الجميلة ليس إلا وثبة جديدة في تذوق الحياة، فما أعرف أنفي الدنيا مصيفاً يشبه مصيف الإسكندرية، ولا أعرف أن في الدنيا بقعة يتجمهر فيها الجمال كما يتجمهر في ذلك المصيف. والذي يقدر على قضاء أيام بالإسكندرية أو بور سعيد أو دمياط ثم يبخل على نفسه بذلك النعيم فهو من أعيان السفهاء!
صار الاصطياف بحمد الله من صميم التقاليد المصرية، وصار من منهاج الحياة في مصر أن يدخر الناس ما يعين على الاصطياف، ولم تعد الشواطئ مقصورة على من يعرف فضلها من الأجانب، فقد أضجت ملاعب مصرية تحت سيطرة الشبان المصرين، وصار من السهل أن ترى من كبار الرجال من يرتاد تلك الملاعب في الضحى والأصيل
هل شهدتم ملاعب التنس فوق الشواطئ! إنها مواكب من الحياة البهيجة تهادي في كل صيف، وتشهد بأن مصر مقبلة على فتوة مرحة سيزدهر بها الشعر والخيال
في هذه اللحظة صلصل الهتاف من الإسكندرية يحمل صوت الأستاذ محمد على حماد محرر مجلة الشعلة، وهو يستعجل مقالاً وعدته به عن الديوان الجديد للشاعر على محمود طه فابتسمت وقلت: وحي الشاطئ هو الذي أثار العطف على الملاح التائه، لطف الله به وهداه إلى الشاطئ الأمان!
إن مصر ديار بحرية، ديار تحيط بها البحار من أكثر الجوانب، وتجري بها الأنهار في كل جانب، ومع هذا تقل فيها الآداب البحرية والنهرية، فما هذا الجمود!
إن أسلافنا عاشوا بأفضل مما نعيش، فقد كانت في مدينة القاهرة مشابه من مدينة البندقية، يوم كانت القاهرة تتماوج بين الخلجان، ويوم كانت الملاهي بتلك الخلجان في أصائل الجمع والآحاد تزعج رجال الدين فيفتون بأن النزهة في السفائن حرام لا حلال!
كانت حياة أسلافنا شعراً في شعر، وكان للنيل في حياتهم وجود، ألم تسمعوا أنهم أحاطوه بطرائف من الأقاصيص؟
ومع هذا رأينا من يقول بأن (عروس النيل) أسطورة خلقها العرب لا الفراعين، وحجتهم أنها لم توجد في غير الكتب العربية. فإن صح ما قالوه فالعرب أبلغ في الشعر والذوق، لأنهم تخيلوا النيل فتى لا يعيش بلا عروس، وتلك وثبة من وثبات الخيال.
في القاهرة حي اسمه (بركة الرطلي)، فما تلك البركة في التاريخ؟
نقل الدكتور عبد الوهاب عزام في (مجالس السلطان الغوري) أن وصلها بالخليج الحاكمي في أيام الفيضان كان يوجب إعداد عروس تزف فيه نساء جميلات، وأن السلطان الغوري قد أستفتى الشيخ البلقيني فأفتى بأنها بدعة، وكل بدعة ضلال
ألا تكون عروس البركة صورة جديدة من عروس النيل؟
والشيخ البلقيني كان من ظرفاء المشايخ، وهو الذي قال بأن الميت يسال في القبر باللغة السريانية لا العربية، وفي هذا قال أحد الناظمين
ومن عجيب ما ترى العينانِ ... أن سؤال القبر بالسٌّرياني
أفتَى بهذا شيخُنا البُلقَيْني ... ولم أرهْ لغيرهِ بعَيْني وقبر البلقيني معروف بالقاهرة، وهو قريب من قبر الشعراني، عليهما أطيب الرحمات!
قال الأستاذ حماد وقد راعه أن يعرف أني أكتب مقالاً في ظهيرة هذا اليوم القائض: في مثل هذه اللحظة تكتب؟
فقلت لأنها أنسب اللحظات لموضوع هذا الحديث، فما كان أدبي إلا صورة من شعوري بالوجود
قال: متى تزورنا في الإسكندرية؟
قلت: أنا أقضي في الإسكندرية عشرة أيام من كل أسبوع
قال: ولا نراك؟
قلت وهل أزور الإسكندرية لأراك؟
في الإسكندرية ذخائر وجدانية يعرفها من يمشي على قدميه من محطة الرمل إلى المحطة الفلانية، وفي صحبة الروح التي أوحت رسالة (غناء وغناء)، وهل كانت (جنية الشاطئ) إلا مصدر نعيمي وعذابي؟
رواد الإسكندرية غرباء ولست فيها بالغريب، فلي هناك تلك الروح
ومن بينات الحب أنْ كان أهلُها ... أعزَّ على قلبي وعينيَّ من أهلي
رواد الإسكندرية غرباء، أما أنا فإسكندرية داري، بفضل تلك الروح
أيجوز الارتياب في القوة الربانية، ومن أبدعها ذلك التمثال من الجمال؟
تبارك من هذا فنه في تحويل الأنوار إلى شخوص تصافحها القلوب!
أن إبداع الشمس والقمر والنجوم لا يدل على قدرة الله بأقوى مما يدل عليها إبداعه الفائق لتلك الروح، بذلك اللطف الوهاج
وهي آية من آيات الله، آية أعظم من البحر ومن السماء، وأنظر من جميع ما في الوجود
أيكون الله أراد أن يجزيني جميلاً بجميل؟
أيكون الله أراد أن يجعل ثوابي في الثناء عليه بخلق تلك الشواطئ الملاح ثواباً روحيا يمثله تفردي بالسيطرة على ذلك الروح المليح
ومن كان له في الإسكندرية رمال وأمواج، فلي فيها أرواح وأضواء
في هالة ذلك القمر أجد مؤلفاتي ومقالاتي وأشعاري، وأجد حول كل سطر شروحاً تفضح المكنون من أسراري، وأجد حول كل حرف نيرانا رثها أشواقي، فأومن بأن لله فضلاً عظيما في وصل روحي بتلك الروح
كان من حظ الشعر أن يكون لي في الإسكندرية مكان، وأين الشاعر الذي يستطيع الإجادة وهو لم ير الإسكندرية في الصيف؟
يا مدينة أحلامي ويا دار هواي، متى نلتقي؟
وهل افترقنا حتى نفكر في التلاقي؟
وهل فارقتني تلك الروح حتى أفكر في اللقاء؟
هي في رحابي ولو مضت لاستكشاف أقطار السماء
روح الشيخ رشيد
حول إلى سعادة الأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق خطاباً وصل إليه من السيد عبد الرحمن عاصم بطرابلس الشام. وصاحب الخطاب يعترض على ما نشرناه من حديث دار بيني وبين الشيخ مصطفى حول تأثير الشيخ رشيد رضا بروح الشيخ محمد عبده، وحول الدقة في ترجمة الأستاذ الإمام، رحمه الله
وأقول إن ما نقلته من حديث الشيخ مصطفى راعيت فيه الأمانة العلمية، فلم أضيف إليه أي حرف، ولم أشبه بأي عدوان، لأني أعرف فضل السيد رشيد في إحياء مآثر الشيخ محمد عبده، ولأن هذا الرجل كان من أعز أصدقائي
إن لهذه المسألة وضعاً آخر، وهو تجري الصدق في تقدير الرجال، وما كان يجوز أن أطوي حديثاً للشيخ مصطفى يزن به الصلة بين روح الشيخ عبده وروح الشيخ رشيد، مع العلم بأن الشيخ مصطفى حجة في وزن هذين الرجلين، لأنه تلميذ الأول وزميل الثاني ولأنه معروف بكراهة التزايد على الناس
والذي عرفته وتحققته أن روح الشيخ رشيد شابته شوائب من العنف، شوائب خلقها اتصاله بالمجتمع في نواحيه الصواخب، فلم تكن عنده تلك البشاشة الروحية التي اتصف بها الأستاذ الإمام في جميع العهود
وإليكم النادرة الآتية:
قبل أن أكتب هذه الكلمة رأيت أن أحادث جماعة من محبي الشيخ رشيد، عساني أعرف من أحواله في التسامح الديني ما لم أكن أعرف، وكانت النتيجة أن يقول فلان وهو رجل حصيف: كيف يجوز لسعادة مصطفى باشا أن يرتاب في تسامح الشيخ رشيد مع أن له حكاية تنقض ذلك الارتياب؟
فما تلك الحكاية؟
قال الأستاذ أسعد داغر للشيخ رشيد: أنا نصراني يحترم الفضائل الإنسانية ويروي أن محمداً آية في الكرامة الأخلاقية، فكيف يجوز أن تغلق أبواب الجنة في وجهي؟
فأجاب السيد رشيد: ستدخل الجنة يا أسعد قبل كثير من فقهائنا
ذلك هو تسامح الشيخ رشيد في نظر ذلك الرجل الحصيف. وأنا أرى في هذا التسامح دليلاً على التحامل، التحامل على الفقهاء وكانت بينهم وبين صاحب المنار ضغائن وحقود
ولأجل أن نفهم هذه الحقيقة يجب أن نرجع إلى مقالين في رثاء الشاعر عبد المحسن الكاظمي، المقال الأول في مجلة (الرسالة) بقلم الشيخ عبد القادر المغربي، والمقال الثاني في مجلة المنار بقلم صاحبه السيد رشيد
في المقال الأول عطف ورفق، وفي المقال الثاني قسوة وعنف، فقد قال الشيخ الرشيد في الكاظمي كلمات لا تليق، وسلقه بقلم دونه بأس الحديد
أكانت إهانة الكاظمي بتلك الصورة فرضاً يوجبه التاريخ؟ وما الذي يعكر التاريخ الأدبي لو بقى الكاظمي كما صوره الشيخ عبد القادر المغربي؟
الأمر كله يرجع إلى أن الشيخ رشيد عانى من معاصريه، متاعب ثقيلة جداً، فقد كان الناس يستكثرون عليه أن يتفرد بإعلان مآثر الشيخ محمد عبده والإفصاح عن آرائه الدينية والاجتماعية، وكانوا يرون ظالمين أن الأمر لا يعدو المهارة في الاستغلال
من خطاب السيد عبد الرحمن عاصم عرفت أن فضيلة الشيخ محمد شاكر كتب إلى الشيخ محمد عبده يدعوه إلى كف يده عن رعاية الشيخ رشيد، وأن الأستاذ الإمام أجاب:
(كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار عني وهو ترجمان أفكاري؟)
وأنا أعرف الشيخ محمد شاكر جيداً، فقد كان على جانب من العنف، وكانت عداوته مرة المذاق، وكان يحارب خصومه في الرأي محاربة المستميت، فمن المؤكد أن خصومته تركت في نفس الشيخ رشيد عقابيل أما جواب محمد عبده فهو جواب محمد عبده، جواب فلاح مصري شريف يؤازر أنصاره ولو تألبت عليهم الأرض والسماء
مضيت عصر يوم لتنسم الهواء بحديقة الجزيرة فوجدت الشيخ عبد الرحمن قراعة هناك، وكانت الشيخوخة لا ترحم يديه من الارتعاش، فدار بيني وبينه حديث وأحاديث، وجاءت قصة الشيخ محمد عبده فقال:
- هل تعرف أن الشيخ عبده لم يعز أحداً كما أعزني؟
- وكيف؟
- لأني زرته أيام اعتقاله بعد انهزام الثورة العرابية
- ولتلك الزيارة تلك هذه القيمة؟
- أنا وجهت إليه هذا السؤال فكان جوابه أن هذه التفاتة لا ينساها كرام الرجال
ماذا أريد أن أقول؟
زيارة عابرة للشيخ محمد عبده في معتقله تقرر في نفسه هذا الحق، فكيف يكون نصيب الشيخ رشيد من نفسه وهو يرفع العلم لآرائه في كل مكان؟
أترك هذا وأذكر أن قول الشيخ مصطفى بأن تاريخ الشيخ عبده لم يدون على الوجه الصحيح ليس معناه اتهام الشيخ رشيد، ولكن معناه أن تاريخ الشيخ عبده روعيت في تدوينه أشياء من الاعتبارات السياسية، وهي اعتبارات يراعيها أكثر الباحثين في التاريخ الحديث، وعلى الأستاذ مصطفى باشا أن يحررها بقلمه إن تناسى أنه من السياسيين!
أما قول السيد عاصم بأن السيد رشيد لم يجد من يترجم له بعد أن يموت فجوابه حاضر: ذلك بأن الشيخ رشيد رضا ترجم لنفسه بنفسه، ولم يمت إلا بعد أن إن كتب سطور حياته في صفحات الخلود.
زكي مبارك