الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 525/من ميدان الحياة

مجلة الرسالة/العدد 525/من ميدان الحياة

بتاريخ: 26 - 07 - 1943


للأستاذ شكري فيصل

هذه الأماني التي تعتادني اليوم. . . ما بالها تزدهر في خاطري من جديد، وكنت أحسب أنها الفرقة التي لا رجعة وراءها، والهجر الذي لا لقاء بعده، والأسباب التي انقطعت فلا سبيل إلى صلتها؟ وما أنا وهذه الأماني التي تتفيح في أعماقي من جديد مع الورد الناشيء، وتنطلق في عالمي مع الربيع الطلق، وتتألق في دنياي مع الزهر النير، وكنت حسبتني انصرفت من دنياي الكبرى لأعيش في دنيا الناس الضيقة، وخرجت من عالمي الفسيح لألقي هذا العالم المتقارب، وهجرت الأرض الخصبة ليدمى كفاي وقدماي بالفأس القاسية والأرض الغليظة. . . وما رجعتي إلى رؤاي هذه؟!. . . كانت لي معها ليال أزهى من النور وأوضح من الصبح. . . وأيام أنضر من الورد وأحلى من الربيع. . . لكأني أذكر الساعة أوديتها الخضر العامرة، وجنباتها الغر الزاهرة. . . وهذه الفضة فيها كالحصى. . . وهذا الصليل كالأمواه. . . وهذا الذهب المنتشر كأنه أوراق زهر الدراق. . . وذلك الزمرد الذي يطرز حواشيها كأنه أعشاب الجنة. . . لكأني أثب معها الساعة في تطواف بعيد، لا أحس له الجهد، ولا ألقى فيه العناء، ولا أكاد أمس الأرض إلا المس الهين الرقيق. . فأجوز السهل والجبل، وأمر بالهضبة والوادي، وأطوي البيد الفساح، ويحملني النهر على سرير ناعم من نسماته اللطاف، ويصوغ لي البحر فلكا طيعة من أمواجه الخفاف، وينشر لي الأفق بساطه المسجدي. . . أكان الجبل إلا السبيل المذلل المنقاد. . أكانت الصحاري إلا المسالك المذهبة المبسوطة؟ أكان العالم إلا جنة من السحر الحلال؟!

تلك ليال وأيام. . . ما أمرها، تطرقني مبكرة، وتسعى إلي هذا السعي الهادئ مع مولد الفجر. . . تنشر لعيني الصور، وتلقي في أذني الأحاديث، وتفجر في قلبي الأصم ينابيع متدفقة من الذكريات. . . أتراها تريد أن تفسد علي حياتي بالنعيم، وتثير مني عاطفتي بالذكرى، وتنال من بعضي ببعضي. . . أتراها تود أن تطفئ ظلماتي السود بمشاعلها المتقدة، وتخفت أنفاسي الخرس بأغانيها العذبة، وتطمس أنفاسي الباردة بأنفاسها المشتعلة؟

. . . وما أنا وهذه المواكب التي تتهادى من أمامي، وهذه الحسناء التي تنظر إلى. . . لكأني عشت معها دهراً طويلاً. . . أذكر. . . لقد كان بيني وبينها عهود! وكان لها ف عنقي ذمم، وكان لي في رقبتها وجائب. . . ثم. . . ألم تكن من بيننا فرقة، فتتاركنا على غير شيء. . . كأنما لم ترع طفولتي بالهدهدة الناعمة، ولم ترف على فتوتي ظلالها الهادئه، ولم تكسب في قلبي خمرها المسكرة. . . وكأن لم يكن بين دمشق والقاهرة أنيس، ولم يسمر في مرابع الجيزة سامر، ولم تهتف في دمشق هواتف، ولم تثر في الغوطة أصداء. . . فما بالها اليوم: هذه المواكب توحش صمتي السادر بالنشيد، وتفزع أمني القلق بالسلام، وتعشي عيني المظلمتين بالجمال، وتفسد علي مقامي الخشن بالموكب اللاهي؟!. . . أتراها تبتليني من جديد بسحرها العابث؟! تلك كواكب وأغان وأناشيد قد خلت. . . فما مثارها عندي اليوم، ومالي من موكب وأغنية ونشيد. . .؟

وهذه الذكريات التي تغزوني فتلح علي وتأخذني من بين يدي وخلفي. . . ما أنا وهي وقد استرقني حاضري، فإذا هو علي مطبق لا ينفرج، رتق لا ينكشف، ضيق لا يكاد يتسع لغير هذا الذي أنا فيه؟ وما أنا فيه إلا الآلة الصماء تغدو مطلع النهار مع الصباح لتعود في صفرة اليوم مع المساء، وتظل على ذلك تحرك في غير حراك، وتدور على غير حس، وتمضي وكأنما تدفعها يد قادرة إلى غير ما أحبت وما كانت تقدر أنها تحب. . . ما أنا وهذه الذكريات، تجد السبيل إلى كهفي العميق، ثم تتحسسني من بين هؤلاء المساكين الذين قدر لهم أن يعيشوا معي في هذا الكهف. كيف استطاعت أن تجوز هذه الأبواب الحديدية الضخمة، وأن تفلت من هؤلاء المردة الذين يحرسونها، وأن تبلغني فتمزق هذا الغشاء الصفيق الذي أسدلت بيني وبينها؟! ما شأنها، تملأ على جنبات هذا الكهف، في يديها البضتين هذه الأعواد الرقيقة المشتعلة ينتشر منها هذا الدخان اللطيف العطر الذي ينفث في روح الماضي. لكأنه هذا البخور الذي عهدته في ليالي الخاليات. إن سحبه لتتلوى هادئة رقيقة فتبدد كل ما حولي. لا الناس الهرالي الذين أعهدهم، ولا المتعبون الذين آلفهم، ولا هذه الأردية السود التي تتحرك إلى جانبي؛ وإنما هي أطياف حلوة كريمة، أحس كأنما كان من بيني وبينها سبب، ومغان رائعة بهيجة كأنما كان لي بها عهد. أتراها تود أن تلقف بسحرها الحائل هذا الواقع المتورد، وأن تطرد بأطيافها القاتمة هذه الأشباح الناعمة، وأن يذهب عطرها الهفاف بالحاضر المتماسك؟! أتراها تود أن تدير حياتها الأولى في حياتي الجديدة لتثير الأماني والأوهام؟! وهذه الأحلام التي تشق عني ظلمة الليل. . . ما أنا وهي.

وقد انعتقت منها وانصرفت عنها. ألست أعمل نهاري المتصل ليميتني الليل، وأجهد شمسي الطالعة ليواريني المساء، وأنطلق مع الغراب المبكر كيما أنسى بعد في العتمة كل شيء. ما شأن هذه الأحلام تراودني عن نفسي، فتطرقني منذ أيام، وتنشر في مسائي الكالح أفقاً وردياً زاهياً، وتبعث في ليلي البهيم أضواء رفافة نيرة، وترسم على غبش العتمة أنوار النجم. أتراها تود أن تؤرقني فلا أغفى، وأن تهزني فلا أغفل، وأن تعتادني فلا أجد الهدوء!. . . أتراها تملك أن تفسد علي راحتي التي لا تحس فيها بالحس الذي لا راحة معه، واطمئناني الذي لا شعور فيه بشعور لا اطمئنان معه، وما عساها تبتغي مني، وإنها لتعلم أن الدنيا قد جعلت مني غير الذي عهدت في: لا هزة الطروب، ولا رفة المرح، ولا استيفاز الشاعر. فقد ذهبت الحياة بالهزة والرفيف والحس المستوفز. وما يكون للذين تضطرهم الحياة أن تذهب بنفوسهم في سبيل العبء الذي لا بد منه، والعيش الذي لا مناص من تداركه إلا أن يرتقبوا اليوم القريب والساعة الدانية

لا يا أماني التي تزدهر الساعة في خاطري! ما كان لي أن أغفل عن ى الماضي، أو أنصرف عن العهود، أو أهدر هذه الفترة الحلوة من حياتي القريبة. وإنما هي ويلات الحاضر التي لا بد من النجاة منها، وضرورات الواقع التي لا بد من الاضطراب فيها

أن تكاتف السحاب لا تذهب بنور الشمس، وأن قتام الضباب لا يحول دون إيماضة البرق؛ وإنما يتفتح الشتاء القاسي - بإرادة الله - عن الربيع المتدفق

(دمشق)

شكري فيصل