الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 525/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 525/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 26 - 07 - 1943


للدكتور زكي مبارك

إلى الأستاذ إبراهيم المازني

صديقي

حدثتنا مجلة آخر ساعة أنك سئلت عني فأجبت (لو أخلى زكي مبارك كتابته من الحديث عن زكي مبارك لكان أحسن مما هو الآن)

وبمثل هذا أجاب الأستاذ عباس العقاد حين سألته مجلة الاثنين، فكيف تم التوافق بينك وبين صديقك فيما كتبتما عني؟

أهو من باب توارد الخواطر، ووقوع الحافر على الحافر، كما كان يقال؟ أم هو موصول بقصة المسيو ديبون؟. . . ومن ديبون؟ هو رجل فرنسي صنع شراباً سماه باسمه وأعلن في جميع البقاع الفرنسية، فما تسير في شارع ولا تدخل قهوة ولا تركب قطاراً إلا وجدت اسمه مسطوراً بأحرف كبيرة تبهر العيون. ولم يكتف بذلك، بل وضع لوحة مسجوعة بهذا الوضع الطريف

,

وقد هالني هذا الإسراف في الإعلان فسألت صديقاً فرنسيا عن السر فيه فأجاب:

ذلك الرجل يعرف العادة المتبعة في القهوات الفرنسية، العادة التي توجب أن يسألك غلام القهوة عما تطلب قبل أن تجلس، فتنطق بأكثر الأسماء وروداً على بالك وهو ديبون!

والأمر كذلك فيما يتصل بحياتي الأدبية، فقد قال الدكتور طه حسين مرة: إن أكثر أديب زكي مبارك في الحديث عن زكي مبارك. فلما سئل الأستاذ العقاد عني وجد هذه العبارة في باله فأجاب. ولما سئل الأستاذ المازني عني وجدها في باله فأجاب

وكذلك تعاد قصة المسيو ديبون في القاهرة بعد أن سئمها الناس في باريس

وهنا مشكلة لا أكتمها عنك، وهي الخوف منك، ولكن كيف؟

أنا لا أبالي نقد الدكتور طه حسين إياي، لأنني نقدته بمائة مقالة ومقالة، فمن السهل أن يقول الناس إنه ينتقدني وفي نفسه أشياء

وأنا لا أبالي نقد الأستاذ العقاد إياي، لأن بيننا أحقاداً تنشر في حين وتطوى في أ الخوف كله من نقدك، لأنك صديق حميم، ولن أجد من يتهمك بالتحامل حتى أطمع في أن يكذب الناس ما تقوله عني

يضاف إلى هذا أنك مسموع الكلمة، وأن الجمهور لا يفطن إلى قدرتك على قلب الحقائق. وهل أنسى ما صنعت بنفسك وبصديقك العقاد؟

كانت العيون ترى قبل عشرين سنة أنك طويل جداً، وأن العقاد قصير جداً، فشاء برك بصديقك أن تزعم أنك القصير وأنه الطويل، وما زلت تبدي وتعيد حتى آمن الناس بقولك وظنوا أنك قزم وأن العقاد عملاق!

وبنوا آدم يصدقون ما يسمعون وما يقرءون، قبل أن يصدقوا ما تحدثهم به العيون والقلوب

من أجل هذا أنقض حكمك علي، وأرجو أن تكف عني شرك وإن لم تكففه عن نفسك، فما بي حاجة إلى صديق يسير على طريق المسيو ديبون

وماذا تنكر من حديثي عن نفسي؟ وماذا ينكر صديقك العقاد؟ وماذا ينكر الدكتور طه حسين؟

هل كان أدبك يا صديقي المازني إلا دوراناً حول نفسك؟ وهل كتب الأستاذ العقاد مقالاً أقوى من مقاله الأخير في مجلة الرسالة عن الأزمة التي صاولت روحه يوم احتلال العلمين؟ وهل كتب الدكتور طه أقوى مما كتب في الحديث عن طفولته وصباه؟ إن تصوير هموم النفس وما يحيط بها من مخاوف وآمال هو أدب صحيح جعلته الكتب السماوية من شمائل الأنبياء، فما العيب في أن يكون الحديث عن النفس من خصائص أدبي؟ وهل يمكن أن أتعرف إلى الوجود قبل أن أتعرف إلى نفسي؟

وهل كانت روائع الأدب في جميع الأمم إلا أحاديث نفسية؟

ما هو سفر أيوب الذي ترجم إلى اكثر اللغات؟

ألم تكن أصالته في التعبير عن المخاوف الروحية؟

وهل كانت أكثر القصائد الخوالد إلا إفصاحاً عن عواطف ذاتية؟

قال ديكارت: أنا أفكر، فأنا إذاً موجود

,

ومن معاني هذه العبارة أن الشعور بالنفس هو أساس الشعور بالوجود لا موجب للمداورة في محاورتك، فأنت لم تنكر علي الحديث عن النفس بمدلوله المعروف عند رجال الأدب، ولا كان هذا ما أنكره الدكتور طه والأستاذ العقاد، وإنما تنكرون الثناء على النفس، وهذا يقع من حين إلى حين، والثناء على النفس يضايق الناس حين يكون ثناء بالحق، وإلا فمن الذي استطاع أن يكذبني حين أثنيت على نفسي؟

ولكن هل جال في خاطرك أن تبحث عن السر في هذه النزعة النفسية؟

هل حاولت إدراك الأسباب للتكبر الذي أقع فيه كارهاً غير طائع؟

لو أنك فعلت لعرفت أني لا أتكبر إلا متحدياً، والتحدي نزعة طبيعية تطوف بالنفس حين تفكر في دفع الجحود والعقوق

وإليك شاهداً من مقالك بجريدة البلاغ في مساء هذا اليوم (18 - 7 - 43)

في كلامك عن (قصة الأدب في العالم) أثنيت على رأي المؤلفين الفاضلين أحمد أمين وزكي نجيب حين قررا أن عمر بن أبي ربيعة لم يقتصر على معشوقة واحدة، وإنما تبع الحسن أنى كان، بخلاف ما كان عليه أمثال قيس وكثير وجميل

ثم تحمست للأمانة الأدبية والتاريخية فقلت:

(وهذا تفريق سبق إليه العقاد في كتابه (شاعر الغزل) وقد بسطه بسطاً وافياً وتوسع في بيانه. ولست أقول إن المؤلفين الفاضلين أخذا هذا التفريق عنه، فليس ما يمنع أن يتنبها إليه، ولكني أقول إن الأستاذ العقاد سبقهما اليه، فمن الإنصاف أن يذكر له فضل السبق ويسجل)

وهذه حماسة مشكورة، وهي من بعض صفاتك الطيبات، ومن الواجب أن نتلقاها بالترحيب، ولكن هذه الحماسة نفسها تقابل بالإنكار حين تصدر عني، كأن أقول بالرد عليك إن أول من سجل هذا الرأي في كتاب طبع ثلاث مرات هو المبارك لا العقاد

إن كتاب (حب بن أبي ربيعة وشعره) طبع أول مرة أوائل سنة 1919، وهذا الرأي مدون في أول طبعة، فهل تكره أن أثني على نفسي فأقول إني سبقت العقاد إليه بأكثر من ثلاثة وعشرين عاما؟

وما أقول إني كنت في بالك حين سجلت للعقاد ذلك السبق، فمن المحتمل أن يغيب عنك أني أول من أصدر كتاباً عن شاعر الغزل، وأن كتابي كان المنار لكل من تحدثوا عن ذلك الشاعر الفنان.

وأنا في الواقع أتعجب من استهانه الباحثين بالأمانة العلمية في هذا العهد، فما يمر أسبوع بدون مفاجئات غريبة تتمثل في سرقات جريئة من مؤلفاتي ومقالاتي، وأنا مع هذا أسكت لئلا يقال إني أكثر من الحديث عن نفسي!

وإصرارك وإصرار صديقك على أن هذا من عيوبي لن يصدني أبداً عن النص الصريح بأن خلائق كثيرة تنهب آرائي علانية وتعيش بها عيش السعداء

هل تذكر ما قال بعض الناس حين جازيت العقاد قتالاً بقتال؟

قالوا إنني أثنيت على العقاد من قبل، فكيف أهدم ما بنيت بالأمس؟

والاعتراض صحيح، ولكن المعترضين غفلوا عن أسباب ذلك الثناء، فقد أردت أن أشرح لطلبة السنة التوجيهية عناصر الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، وعند ذلك تذكرت أني مدرس يعلم تلاميذ، ومن واجب المدرس أن ينزه أحكامه عن الأهواء

وأثني على نفسي فأقول إن تلك الدراسات نفعت المتسابقين اجزل النفع، وقد شكا الدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ إبراهيم مصطفى من تأثير تلك الدراسات في عقول الطلاب، وقالا في دعابة إنهما سيرجوان المعارف أن يشير بأن لا تعاد تلك الدراسات في مجلة الرسالة، بعد أن ظهر أنها تكثر من عدد الفائزين!

بهذا الصدق في الأحكام الأدبية أنصفت نحو عشرين باحثاً من رجال هذا الجيل، وفيهم خصوم ألداء يشرفون بريقهم حين يسمعون اسمي

فأين من يملك من الصدق بعض الذي أملك؟

المازني وحده يستطيع أن يجاريني صدقاً بصدق، فقد وقف بجانبي وقفة كريمة، يوم الدكتور طه على صفحات الرسالة إن كتاب النثر الفني كتاب من الكتب أخرجه كاتب من الكتاب

ولكن هل يستطيع الأستاذ المازني أن ينصف خصومه كما انصف أعدائه؟

لقد يئست من إنصاف الناس، فكيف نفسي؟

في كتاب (ملامح المجتمع العراقي) ثناء على الأستاذ المازني والأستاذ الزيات، فهل قدمت نسخة من هذا الكتاب إلى أحد هذين الرجلين؟ عز علي أن أظهر بمظهر من يمن على الصديق، واستغنيت عن تقريظ الرسالة وتقريظ البلاغ، اكتفاء بما أثنيت به على نفسي في مقدمة الكتاب!

وأعجب العجب أني أهديت كتابي إلى رجل لا ينتظر مني أي معروف، ولا أنتظر منه أي جزاء، ليكون في عملي شيء لوجه الله والوجه الوطنية، وهو رجل سبقنا إلى التشرف بخدمة العلم في العراق، ولم يحفظ له مواطنوه بعض ما حفظ له العراقيون

وأنا بعد هذا أسأل من يؤذيهم ثنائي على نفسي، أسألهم متى يجاهدون في الأدب كما أجاهد؟ ومتى يعانون في سبيل الأدب ما أعاني؟

أين الزميل الذي يقول إنه أحرص مني على الوفاء بحقوق القلم البليغ؟

أين الشخص الذي يملك الزعم بأنه نفعي؟ ومن هو المخلوق الذي يتوهم أن له ديناً في عنقي؟ ومن هو الروح الطاهر الذي يطمع في السيطرة على شيطانية روحي؟

كانت الغاية عندي أن أقيم الدليل على أن لوطني وجودية تحميه من الأباطيل، وكانت حياتي شاهداً على صحة ما ابتغيت، فما استطاعت قوة أن تهد مني، ولا جاز في وهم مخلوق أن يراني من أتباعه، ولو كان أعظم العظماء

أنا أخاطب رجلاً هو الأستاذ المازني، أخاطب رجلاً يسره أن يعلم أني أسيطر على شآبيب من الدواهي المواحق، وسأصبها على أعدائي حين أشاء

إن أدبي من صنع الله، وثقة الجمهور بأدبي من فضل الله، ولن أرتاب لحظة في أني أول كاتب وأول مؤلف وأول شاعر في هذا الزمان

هاتوا برهانكم يا خصومي إن كنتم صادقين!

هاتوا برهانكم، هاتوه، إن استطعتم الاعتصام بخيوط الأحلام أنا أثني على نفسي؟؟

هو ذلك، لأني أسهر الليل في مسامرة قلمي، ولأني أومن بأن الاعتماد على الماضي هو ثروة السفهاء من الوارثين

سنلتقي غداً وبعد غد، وسيكون صرير الأقلام أخطر من قعقعة السيوف

وإلى اللقاء، ولعله قريب!

زكي مبارك