الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 524/من أدب التراجم

مجلة الرسالة/العدد 524/من أدب التراجم

مجلة الرسالة - العدد 524
من أدب التراجم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 19 - 07 - 1943


الخليل بن أحمد

للأستاذ طه الراوي

(تتمه ما نشر في العدد الماضي)

كتاب سيبويه من وحي الخليل

الخليل أول من فتق معاني النحو وضبط أصوله، وبسط فروعة، واستخراج علله وأسبابه، ووسع فصوله وأبوبه، وأوضح سبله، وعبد مناهجه حتى بلغ أقصى غاياته؛ ولكنهم ترفع عن التأليف فيه لأنه منهل كثر وراده فأوحى إلى تلميذه وخريجه (سيبويه) من دقائق مسائله وبنات أفكاره وأبكار تصوراته ما جعله حرياً بأن يشار إليه بالبنان، وجديراً بوضع كتابه المشهور الذي أصبح للنحاة إماماً يقتدون به ويهتدون بهديه، فمعظم ما في الكتاب مغترف من سلسال علم الخليل، ومقتبس من مصباح ذكاءه. وكلما قال سيبويه: (سألته) أو (قال) من غير أن يذكر أحداً فإنه يعني (الخليل)

كتاب العين أو (أبو المعاجم كلها)

علمنا أن الخليل قد طالت صحبته لخلص الأعراب وكثرت إقامته بين ظهرانيهم، ثم إنه كان يحج بين العام والعام، وكان يقابل في طريقه إلى مكة فصحاء العرب وأقطاب بلغائهم فاجتمع لديه كثير من مفردات اللغة وفرائد دررها، فعزم على جمع ذلك في كتاب لم يسبق إلى مثله، فرسم الخطة ورتب الأبواب على طريقة ابتدعها، وأسلوب لم يسبق إليه، وكان قد افتتح بحرف العين فسماه (كتاب العين) على عادة الكتاب في ذلك العصر، فإنه يسمون الكتاب بأول أبوابه ككتاب الجيم وكتاب الميم وكتاب الغين وكتاب الحماسة وغيرها. وهذا الكتاب أول كتاب ألف في متن اللغة مرتباً على الحروف جمع فيه الخليل 12. 305. 412 كلمة، بعضها مستعمل وأكثرها مهمل. والذي حدا به لذكر المهمل استيفاء التقاسيم العقلية لكل كلمة، فمثلاً كلمة (كتب) يحتمل في الكاف الفتح والضم والكسر ويحتمل في التاء الحركات الثلاث والسكون وثلاث في أربع اثنتا عشرة صورة فيذكر الاثنتي عشرة صورة ويقول هذه الصورة مستعملة لمعنى كذا، وهذه الصورة لم تستعملها العرب. وق جمع الخليل في كتابه هذا من غرر الشواهد، ونوادر الفوائد، وضروب الحصر، ورصين القواعد، وجليل المسائل ما يعز وجوده في معجم غيره. على أنه تضاربت آراء العلماء في نسبة هذا الكتاب إلى الخليل أو إلى بعض تلاميذه أو إلى الليث. وقد ألف ابن درستويه كتاباً خاصاً في شرح هذا الخلاف واستقصى الجلال السيوطي في المزهر جميع ما دار في هذا الموضوع من أقوال. ولكن نحن لا نرتاب في أن الخليل هو الذي رسم خطط هذا الكتاب ورتب أبوابه ووضع حجر الزاوية بيده، أما أن غيره أكمله وزاد فيه فذاك أمر محتمل، ولكنه لا يدفع الخليل عن كونه المجلي في هذه الحلبة وأنه أول واضع لمعاجم اللغة مرتبة على حروف المعجم، وأن من جاء من بعده إنما اقتبس من مصباحه واهتدى بمناره. ولم يزل جمهور الأدباء وأرباب البحث لهذا العهد يظنون أن هذا المعجم الجليل اغتالته أيدي الأيام فيما اغتالت من نفائس الأسفار وجليل الآثار؛ ولكن من يمن الطالع أن عثر على نسخ منه أحد أدباء الحاضرة الهاشمية، فسعى البحاثة المشهور صاحب (لغة العرب) بمقابلة تلك النسخ وتصحيحها باذلاً الجهد في تحري الصواب على عادته، ثم شرع في طبعه ولكن بعد أن أنجز منه بضع كراريس حالت الحال، وعرضت دون ذلك أهوال. ولا ندري هل بقى لتلك النسخ من أثر بعد أن تفرقت كتب الرجل أيدي سبا ومزقت كل ممزق؟

جرى كل ذلك قبل نحو بضع وعشرين سنة

وقد سلك الخليل في ترتيب حروف الهجاء مسلكا لم يسبق إليه، ذلك أنه رتبها حسب المخارج مع تغيير طفيف فجاءت على هذا الوجه: ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م وا ي

قال الخليل: لم أبدأ بالهمزة لأنه يلحقها النقص والتغيير والحذف ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة، ولا في أسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين ولحاء فوجدت أنصع الحرفين فابتدأت بها ليكون أحسن في التأليف. أهـ

هل كان الخليل يقرض الشعر؟

قالوا: كان ينظم البيتين والثلاثة كما سيأتي. وروي الإثبات أنه سئل لماذا لا تقرض الشعر مع سعة علمك بالعربية وتبحرك في علومها؟ قال: (يأباني جيده وآبى رديئه) وهذا الجواب على إيجازه غاية في البلاغة وآية في الحكمة وحصافة الرأي

مؤلفاته

للخليل مؤلفات أبدع فيها أيما إبداع ولم يحتذ في تأليفها وتبويبها حذو من سبقه من أهل العالم. والذي يجيل النظر في سيرة هذا الرجل يتبين له أنه كان يربأ عن سلوك المناهج المبعدة في كل ما يكتب ويصنف، ولذلك كان يسلك في التأليف طرقاً خاصة يؤم فيها الناس ولا يأتم بأحد. فمن تصانيفه:

1 - كتاب العين. وقد مر بك بعض أوصافه

2 - فائت العين

3 - كتاب الإيقاع. وهو في الموسيقى العربية ويظهر من مراجعة فهارس المؤلفات في هذا الباب أن الخليل يعتبر مجلي الحلبة في هذا المضمار

4 - كتاب النغم. وهو في الموسيقى العربية

5 - كتاب الجمل

6 - كتاب الشواهد

7 - كتاب العروض

8 - النقط والشكل وقد أشرنا إليه آنفاً. وذكر الفاضل جورجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية ما نصه: (في المكاتب الكبرى في أوربا مما ينسب إلى الخليل

1 - كتاب في معنى الحروف في مكتبة ليدن ومكتبة برلين

2 - (شرح حروف الخليل في مكتبة برلين قطعة منه

3 - (جملة آلات العرب في مكتبة أياصوفيا في الآستانة

4 - قطعة من كلام عن أصل العقل في مكتبة اكسفورد (بودليان). . .)

زهده وورعه

كان الخليل من أولئك الفلاسفة الذين نظروا إلى هذا العالم نظر الازدراء، ولم تخدعهم بهرجته، ولا غرتهم زخارفه. أجل كان الخليل أحد زهاد الدنيا المتبتلين إلى الله تبتيلا.

ومن أنصع البراهين على ذلك أن أمير الأهواز (سليمان بن علي) أرسل إليه يلتمس منه الشخوص ليقيم بحضرته ويؤدب أولاده فأخرج الخليل للرسول خبزاً يابساً وقال: كل فما عندي غيره. وما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه؟ فقال له؛

أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال

شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال

والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

وكان سفيان بن عيينة يقول: من أحب أن ينظر إلى رجل من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل. وقال تلميذه النضر ابن شميل أقام الخليل في خص بالبصرة لا يقدر على فلسين وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال الطائلة

ومن أوابد حكمه:

وقبلك داوى المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطبيب

فكن مستعداً لدار الفنا ... ء فإن الذي هو آت قريب

وبالجملة فقد كان الخليل إحدى حسنات هذه الأمة وقمراً من قمارها، ودرة في تاج مفاخرها

وفاته

اختلف المؤرخون في السنة التي انتقل فيها الخليل إلى جوار ربه، فذهب جمهورهم إلى أنه توفي سنة 170هـ. وقال آخرون سنة 175هـ وقال بعضهم سنة 160هـ وأغرب خطأ وقع في ذلك هو قول ابن الجوزي في كتابه شذور العقود أنه مات سنة 130هـ وهو منقول عن الواقدي. قال المحقق ابن خلكان أنه خطأ قطعاً والصواب ما أثبتناه أولاً

وكانت وفاته في البصرة مسقط رأسه فكانت البصرة مشرق هذا الكوكب الوقاد ومغربه. وقد ضمته تربتها إلى من ضمت من أعلام العلم وأقمار الفضل ونجوم الهدى ورجال التقى الذين حلوا الآداب بأنفس الحلي، ونهضوا بالمعارف الإنسانية إلى مراتب العلا، فكانوا للعلم جمالاً، وللتأريخ أبهة وجلالاً، رضى الله عنهم ورضوا عنه ولقاهم في دار رضوانه تحية وسلاماً

(بغداد) طه الراوي