مجلة الرسالة/العدد 520/الشعر الخطابي
→ على هامش النقد | مجلة الرسالة - العدد 520 الشعر الخطابي [[مؤلف:|]] |
تشارلز دكنز ← |
بتاريخ: 21 - 06 - 1943 |
للدكتور محمد مندور
يريد الأستاذ السيد قطب أن يجعل مما سميته الهمس في الشعر نوعاً من الأدب يتميز بالإحساس الذي يغذيه فهو شعر الحنين أو (الحنية) كما يقول، وهو يحذر القراء من آرائي لخضوعها لطبع خاص أقرب إلى المرض منه إلى الصحة، ولكنني بحمد الله لست مريضاً، ولا أذكر أنني مرضت يوماً ما، وأنا على العكس سليم الجسم صلب البناء متمتع بكل قواي الجسمية والعقلية، وشخصي بعد ليس موضع الحديث، والهمس في الشعر ليس (الحنية)، ولا هو خاص بنوع من الإحساس، وإنما هو مذهب في الفن، مذهب عام لا يتقيد بمادة
أما تحذير القراء من آرائي فهذا ما أدعو إليه أنا أيضاً لأنني أمقت مبدأ (السلطة) ' وأعرف ما أصاب الإنسانية من أضراره المميتة خلال القرون الوسطى يوم كان الناس يؤمنون بآراء أرسطو لأنها صادرة عن المعلم الأول، لا لما تقوم عليه من بينات. ونحن في الشرق أحوج ما نكون إلى تحطيم هذا المبدأ الذي يشل عقول الناس فتستسلم لآراء هذا أو ذاك، والأمر في المسائل الفنية أشد خطورة، وذلك لأن الأذواق الفنية لم تتكون بعد لسبب واضح هو جهلنا بالآداب الأجنبية أو معرفتنا بها معرفة أضر من الجهل بها، وليس من سبيل إطلاقا إلى الادعاء بأن أدبنا العربي يكفي لتكوين ذوق أدبي صحيح
وإذن فأنا لا أريد أن أملي ذوقي على أحد؛ وذلك لأن الذوق وإن يكن من أعمق ملكاتنا البشرية في إدراك مواضع الجمال والقبح، إلا أنه لا يمكن أن يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة التي لدى الغير، إلا إذا علل بأسباب عقلية وفنية ونفسية تستطيع أن توحي بمثل ما نحس به، وإلا أصبح ما نقول ادعاء كاذباً إن لم يكن نصباً.
ولقد حاولت تمييز (الشعر المهموس) بمعارضته (بالشعر الخطابي)، ولكنني فيما يظهر لا أزال محتاجاً إلى مزيد من الإيضاح. وهاأنا اليوم أتناول قصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل، وجدتها مصادفة في عدد 7 يونية سنة 1943 من (الرسالة) بعنوان (حصاد القمر)
الأستاذ محمود حسن إسماعيل يذكرني دائماً بالمتنبي، ففي شعره رنين قوي تجده في بسطة أوزانه وضخامة ألفاظه بل في بعض صوره الشعرية المجتلبة على نفس النحو الذي كان المتنبي يصطنعه متتلمذاً لأبي تمام. ولكني أبادر فأقرر أن شعر المتنبي غير شعر محمود إسماعيل في معدنه النفسي وفي رؤيته الشعرية
شعر المتنبي كشعر محمود إسماعيل من النوع الخطابي ولكن شاعر الحمدانيين كان شاعراً كبيراً. وأما صاحب (هكذا أغني) فشاعر يعيبه أمران خطيران:
1 - أولهما أن المتنبي نفس قوية عاتية متماسكة. عاطفة المتنبي مغلقة مركزة عميقة ولهذا قلما تلوح كاذبة. عاطفة المتنبي نار داخلية لا تراها وإن ألهبت اللفظ أو أوقدت الصورة. وأما إحساس محمود حسن إسماعيل فمفضوح؛ ويأبى شاعرنا إلا أن يزيده افتضاحاً بقصاصات النثر التي يعلقها فوق قصائده. وفي هذا ابتذال، للنفس عنه نفرة. عاطفة محمود إسماعيل (مطرطشة) حتى لتلوح (سراباً عاطفياً) كما يقول نقاد الإنجليز
2 - ثانيهما اضطراب الرؤية محمود إسماعيل، بل إنني لأخشى ألا يكون له حقل شعري على الإطلاق، وهذا أمر يتضح لمن يراجع صوره في أية قصيدة من قصائده، فإنه لابد واجد بينها من التنافر ما يقطع بأنه لا يرى الأشياء رؤية شعرية صحيحة. تراه يجمع بين صور لا يمكن أن تكون وحدة للموصوف، ولو أنه حرص على الرؤية الشعرية الصادقة لرأيت التجانس الذي يعوزه. وأنا بعد أرجح أنه يلتمس الصور من ذاكرته لا مما يراه ببصره أو يدركه بحسه
ونحن عندما لا نجد لدى الشاعر العاطفة المتماسكة والرؤية الشعرية لا نستطيع أن نحكم بتفوق فنه؛ وذلك لأن الرنين الخطابي مهما بلغت قوته لا يمكن أن يسمو بالشعر. فلغيري إذن أن يعجب بقوة أسر محمود إسماعيل واستحصاد لفظه وغرابة صوره. وأما أنا فما دمت لا أستطيع أن أدرك ببصري حقيقة ما يصف ولا أن أسكن إلى نوع إحساسه، فإنني لا أتردد في رفض شعره وتفضيل (نعيمه) أو (عريضة) عليه وذلك لصدق شعراء المهجر في فنهم
وأنا بعد مؤمن بأن محمود إسماعيل يستطيع أن يصبح شاعراً كبيراً جداً وذلك لأنه يملك هبتين لا شك فيهما
1 - أولاهما روح الشعر. روح غفل ولكنها قوة من قوى الطبيعة. قوة تحتاج إلى التثقيف الصحيح. ولو جاز لي أن آمل من هذا الشاعر الإصغاء إلى موضعي النقص الكبير اللذين أشرت إليهما فيما سبق لرجوت أن نجد فيه شاعراً يعتز به عصرنا
2 - وثانيهما قدرته على الانفعال، وفي هذا ما يلهب الحس فيدرك المرء بقلبه ما لن تدركه العقول. وما يحتاج إليه محمود إسماعيل لاستغلال قدرته إنما هو نوع من النظام يركز به إحساسه ويرد ما فيه من فضول
ثم إنني أريد أن يطمئن الأستاذ قطب إلى أن أحكامي على أدباء المهجر ليست سريعة ولا هي عن جهل، فقد قرأت الكثير مما كتب وإن لم أتحدث عنه؛ وأمر اشتغالي بالدكتوراه حدث عارض لم يستوعب قط كل وقتي، وأنا لازلت عند رأيي في أدب الحكيم ومحمود طه وغيرهما مع تحفظ واحد هو أنني اقتصرت في مقالاتي على كتب بعينها ليكون النقد موضعياً ومن ثم منتجاً. ولقد قرأت لكل كاتب معظم كتبه الأخرى فوجدت الخصائص التي ذكرتها واضحة وإن تكن ثمة اتجاهات أخرى تحتاج إلى علاج خاص كتصوير الحكيم لبعض الشخصيات تصويراً ناجحاً في (عودة الروح) وكاستخدامه للهيومر في (أهل الفن)، ولكن أدبه كما قلت في جملته أدب فكرة، أدب رمزي
وكذلك الأمر في حديثي اليوم عن محمود إسماعيل هذا الحديث الذي لا أبغي من ورائه لجاجة وإنما أبغي الخير، خير الشاعر وخير أدبنا الجديد. فأحكامي عنه تستند إلى قراءة شبه شاملة لما كتب، وإن كنت سأكتفي اليوم بنقد قصيدة واحدة من قصائده حرصاً على الدقة
القصيدة كما يقول الشاعر في بطاقته وحي سياحة قمرية في ليلة من ليالي الحصاد. . .) وهاهو شاعرنا يبدأ بوصف الحقل: (سيان في جفنه الإغفاء والسهر) وإذن فنحن في حالة هيام شعري تستوي فيه اليقظة والنوم. نحن إن أردت في حلم يقظة (نعسان يحلم والأضواء ساهدة) وهذا لا ريب جو الإلهام الشعري، ولكنه جو قد قيد الشاعر؛ ونحن لا يعنينا منه صدقه أو تصنعه، فالشاعر يدعونا إلى هذا الجو وقد أعاننا على أن نحيط أنفسنا به لنخلق فيها جواً مشابهاً وننظر مع الشاعر فماذا نرى: نرى أن السنابل قد نامت واستيقظ القمر فإذا بنا أمام مقابلة مصنوعة، لأننا لا نرى نوم السنابل بوضوح ولا يقظة القمر. القمر الذي ينشر الأحلام. وهذا يسلمنا إلى ملاحظة عامة خطيرة على شعر محمود إسماعيل وهي مصدر ما فيه من تنافر وأعني بها (تشخيصه) للأشياء؛ والتشخيص لا ريب من وسائل الفن القوية، ولكنه لا يمكن أن يكون مجرد عبث أو مهارة، بل من الواجب أن تمليه الأشياء إملاء يقربه الفن وقد مسه بجناحه فإذا به كالحقائق. والفن إلى حد بعيد إيهام، إيهام بالخلق، خلق واقع شعري، فهل نجح الشاعر في ذلك؟
إنني أنظر فأرى (قلب النسيم ولهان ينفطر للأضواء) وأرى (السنا قد مال جانباً) وأرى (نخلة قد أطرقت بتلعة) وأرى ظل النخلة كأنه (مضطهد)، ثم أرى (الدوح نشواناً) ومع ذلك يدعونا الشاعر إلى أن نخشع إن مررنا بالدوح النشوان. ما هذا التنافر؟ (لماذا ينفطر قلب النسيم ولهاً بالأضواء)، أهذا تجسيم لإحساس الشاعر؟ أهو تصوير لرقة النسيم تصويراً مجتلباً؟ و (لماذا يجثو السنا) وهو يحنو على الشاعر وينساب إليه من السماء؟ ثم إن الجو كله جو أحلام هادئة فيها لا ريب حزن خفيف ومع ذلك فجأة نرى الدوح نشواناً. وكل هذا تخبط في الرواية الشعرية أو انعدام لها. ومن عجب أن تجد وسط هذا التنافر الكاذب البيت الرائع بتصويره:
إن هب نسم بها خيلت ذوائبها ... أناملاً مرعشات هزها الكبر
وأن يجاور هذا التصوير الجميل تشبيهه لظل النخلة (بمضطهد) وأغصان الدوح بأشباح قافلة غاب عنها الرفيقان (الركب والسفر) وقد نزل على الدوح ضيفان (الليل والقدر) ليتم الازدواج الكاذب: الليل والقدر والركب والسفر. أما الليل فنستطيع أن نفهمه، ولكن ما شأن القدر هنا، وما الرأي في (غياب السفر) كناية عن ثبات الدوح وعدم تحركه. قد يكون في غياب الركب ما يشعر بالوحشة ولكنني في الحق لا أدرك العبارة عن السكون بغياب السفر. والأغصان (مبهورة ذاهلة) ولكنها مع ذلك قد تكون (منتعشة بشجو الرياح) وما أريد أن أدركه هو وضع تلك الأغصان. كيف كانت أو كيف رآها الشاعر. (ذاهلة أم منتعشة) أنني لا أطيق ما يلقيه الشاعر في نفسي من عجز عن إدراك ما رأى
ثم إن القمر (هيمان يحمل وجد الليل أضلعه) وقديماً قاتل النقاد أبا تمام لقوله (ماء الملام) وثار به الآمدي إذ وصف حمرة الخدين بـ (ملوطة الخدين بالورد) فماذا يقول المسكين الآمدي لو سمع محمود إسماعيل يتحدث عن (أضلع القمر)
وأنا لا أريد أن أطيل فقد أبنت بالأمثلة السابقة عما أريد من (الرواية الشعرية)؛ وأما (طرطشة) العاطفة فليست واضحة في هذه القصيدة الوصفية وضوحها في قصائده العاطفية وهي كثيرة بديوانه (هكذا أغني) ومع ذلك نجد في هذه القصيدة أيضاً كثيراً من (التأوه) و (الآهات) و (الكبد) و (كبدي) و (يا كبدا) وما إليها
أنظر مثلاً إلى قوله يخاطب القمر:
(قلب كقلبك مجروح). وقوله لنفس المخاطب: (إن العذاب الذي أضناك في كبدي) ثم حدثني عما تستطيع أن ترى من جروح في قلب القمر الهادئ البارد الحالم الحزين حزناً رفيقاً لا يعرف الدماء. ثم ما هذا الضنا الآخذ بكبد الشاعر وكيف يوحي به القمر؟ أليس هذا إسرافاً معيباً ووضعاً للإحساس في غير موضعه؟
(الله أكبر! يا ابن النيل. . . يا كبدا). أو ما تحس بنفرة نفسية من (يا كبدا) هذه. وكيف تخاطب القمر (بيا كبدا)
وبعد فأنا لا أدري كيف يجوز لنا أن نضع هذا الفن الذي نرده اليوم في مستوى فن شعراء المهجر المرهف القوي المباشر. كيف نقارن هذا الضجيج بهمسهم الفني؟ وأما عن النثر فما أظن القراء في حاجة إلى أن أدلهم على أن (رثاء أحد الشبان لأمه) الذي أورده الأستاذ قطب لا يمكن بحال من الأحوال أن يقارن (بأمي) لأمين مشرق. فرثاء الشاب المذكور لا إيقاع فيه ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل. وكيف تريد من شاب يؤلمه من موت أمه أنهم لم يعودوا يعرفون (بأسرة) أن يصل في فن الكتابة إلى مشرق الذي يذكر (فستانها العتيق) و (يديها اللطيفتين) (ووقع قدميها حول سريره) و (غابة السنديان) وما إلى ذلك من فتات الحياة التي يعرف كبار الشعراء - كما قلت - كيف يلتقطونها بأنامل ورعة فيصلون من التأثير في نفوسنا إلى ما لا تصل إليه (الأبواق والطبول).
محمد مندور