الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 52/قس بن ساعدة الأيادى

مجلة الرسالة/العدد 52/قس بن ساعدة الأيادى

مجلة الرسالة - العدد 52
قس بن ساعدة الأيادى
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 07 - 1934


للاستاذ عبد المتعال الصعيدى

مدرس بكلية اللغة العربية بلأزهر

نسبه: قال ابو حاتم السجستاني هو قس بن ساعدة ابن حذافة بن زفر أو زهر بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وقد نقل ابن حجر العسقلنفي في كتاب الاصابة هذا النسب عن أبى حاتم ولكنه ذكر جذامة بدل حذافة، وقالاحب الأغاني هو قس بن ساعدة بن عمرو أو شمر أو عمرو بن شمر بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن زيد مناة بن مهدم أو يقدم بن أقصى بن دعمي بن إياد، فبينه وبين إياد على القول الأول ثلاثة اباء، وبينهما على القول الثاني اثنا عشر أبا أو ثلاثة عشر أبا، وقد يكون النسب الأول هو الثاني مع اختصار فيه، ولكن يبعد هذا وجود أسماء فيه لاتوجد في النسب الثاني، فلا بكون مع هذا مختصرامنه، ولعل كلا من هذين النسبين يمثل رأيا من رأيين في قدم قس أو قربه من زمن ظهور الاسلام، فقد ذكره أبو حاتم في المعمرين، وحكى أنهم قاوا أنه عاش ثلثمائة وثمانين سنة، ونقل المرزباني عن كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة، ونقل الأبشيهي في كتاب ألمستطرف أنه عاش سبعمائة سنة، فهوإذا كان قد عاشقبل ألاسلام هذه ألقرون الطويلة (600 أو 700 سنة) فلابد أنه لم يكن بينه وبين إياد الا نحو هذه الثلاثة الاباء، وإذا كان لم يعمر قبل الاسلام إلا الحد المعقول في معمري عصره، فيكون بينه وبين إياد ما ذكرهاحب الأغاني من تلك الأصول، وقد يكون قس على القول بقدمه إلى ذلك الحد لم يعمر أيضا إلا التعمير المعقول، فلا يكون بينه وبين إياد إلا تلك الثلاثة الأصول ولا يكون من رجال ذلك العصر الجاهلى الذي كان قبيل الاسلام، بل يكون عصره ابعد في القدم منه، وبكون ابتداء ظهوره في نحو عصر كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار من أجداد النبىلى الله عليه وسلم، وهو قريب من زمن حواريي المسيح الذين قيل إنه أدركهم، فإذا عاش إلى أن ادرك جداً أو جدين أو ثلاثة بعد كنانة يبقى بعد هذا بينه وبين عصر الجاهلية الذي كان قبيل الأسلام أزمان طويلة.

وليس هذا كل ما يحيط بنسب قس إلى الأصل الأول لقبيلته وهو إياد من الغموض، فهناك غموض اشد منه فيحة نسبته! لى إياد نفسه، ويكاد يقتلعه من هذا الأصل وتلك القبيلة الت أجمع النسابون على أنه منها اى قبية أخرى غيرها، فقد ذكراحب الاغاني في سلسلة نسب قس أقصى بن دعمي بن اياد، وذكر أيضا في نسب النابغة الشيباني أقضى بن دعمي بن جديلة بن أسد في ربيعة بن نزار فيكون أقصى بن دعمي على هذا من ربيعة بن نزار لا من إياد بن نزار، ويكون قس من ربيعة لا من إياد، ومن البعيد أن يكون أقصى بن دعمي المكور في نسب قس غير المذكور في نسب النابغة، وأن بكون الاتفاق في اسميهما واسمي أبيهما من باب المصادفة، على أنه روي مع هذا أن الجارود بن عبد الله لما وفد في وفد عبد ألقيس على رسول الله سأله يا جارود هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قسا؟ قالوا كلنا نعرفه، وفي رواية أخرى أنه لما قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله قال لهم ما فعل قس بن ساعدة الايادي؟ قالوا مات يا رسول الله، وفي رواية ثالثة أن وفد بكر بن وائل قدموا على النبىلى الله عليه وسلم فقال هل فيكم أحد من إياد؟ قالوا نعم، قال ألكم علم بقس بن ساعدة؟ قالوا مات يا رسول الله، فكل هذه الروايات تفيد اتصال نسب قس بعبد القيس وبكر وهما من قبائل ربيعة، نعم قد يمكن أن تكون إياد مجاورة في السكن لهاتين القبيلتين فسأل رسول لله وفدهما عن قس لمجاورتهما لقبيلته، ولكن هذا لا يكفي في دفع ما يفيده ظاهر هذه الروايات مع ما يفيده ذكر أقصى بن دعمي في نسب قس ونسب شيبان وبكر وعبد القيس وغيرهما من قبائل ربيعة، بل إن سؤال رسول الله بكرا وعبد القيس عن إياد ظاهر في أن إياد كلها من ربيعة لا قسا وحده، وربما يؤيد هذا أن إياد لوكانت فرعاً مستقلا من نزار لما أمكنه أن يحافظ على وحدته ذلك العهد الطويل، لما تأباه طبيعة بلاد العرب، إذ يعيش فيها أهلها عيشة ارتحال وتنقل، وقد قضت تلك الطبيعة على فرعيمضر وربيعة أن ينقسما إلى مالا يحصى من القبائل، فلا يمكن أن ينجو من تأثيرها فرع إياد على ما يراه النسابون من تفرعه من نزار مع ذينك الفرعين في ذلك الأمد البعيد، وإذا كانت إياد من ربيعة فيكون التقاؤها مع قبائلها في أقصى بندعمي، ويكون إياد بعد أقصى لا قبله، وقد دخل أنساب القبائل تخليط كثير مثل هذا وغيره، وربما كانت إياد فعلت ذلك عن عمد بعد حروبها مع عبد القيس وغيرها منقبائل ربيعة.

قبيلة اياد: كانت قبيلة إياد نازلة في قديم أمرها بين

إخوتها من قبائل معد، في تهامة والحجاز ونجد، وكانت تقيم هي وأنمار معا في أرض تهامة، بين حد أرض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها، ثم نزحت من تهامة في حرب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر في خانق، فغلبت فيها وخرجت إلى العراق فنزلت في سواده قرب مكان الكوفة، فأقامت هناك دهرا، وانتشرت في تلك الأنحاء، وكانت تغزو أهل العراق من العجم وغيرهم، فلما كان عهد كسرى أنوشرؤان أغارت على نساء من الفرس فأخذتهن، فأرسل إليها أنوشروان جيشا أجلاها عن أرض العراق، وشتتها في البلاد،، فنزل بعضهاتكريت، ونزل بعضها الجزيرة، ونزل بعضها أرض الموصل، ثم سلط عليها أنوشروان قومًا من بكر ففتكوا بها، وفرقوها في أرض الروم، وبلاد الشام وقد اشتهرت قبيلة إياد بخطبائها، وظهور قوة الخطابة فيها، وكان خطباؤها مضرب المثل في الفصاحة وقوة البيان، وفي وصفهم يقول بعض الشعراء:

يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وجى الملاحظ خفية الرقباء

فذكر المبسوط في موضعه، والمحذوف في موضعه، والموجز والكناية، والوحى باللحظ ودلالة الاشارة. وكانت قبيلة عبد القيس من ربيعة تسامي إياد في خطبائها، وشيوع الخطابة بين أفرادها، ولعل هذا مما يقوي ما رجحناه من اتصال نسب إياد بنسب عبد القيس وربيعة، ولكن عبد القيس لم تظهر فيها الخطابة إلا بعد أن انتقلت من البادية إلى عمان والبحرين، حتى قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: وشأن عبد القيس عجيب، وذلك انهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين، وهم من أشعر قبيلة في العرب، ولم نكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية، وفي معدن الفصاحة، وهذا عجب.

ولاشك أن إياد كانت في سرة البادية مثل عبد القيس، ثم انتقلت منها إلى العراق، فالظاهر أن الخطابة لم تظهر فيها إلا بعد أن انتقلت من البادية مثل عبد القيس، وقد علل ذلك بأنهم حينما تركوا سرة البادية جاوروا الأعاجم في تلك الأماكن، وكان الاعاجم أهل خطابة وكتابة، ولهذا كثر الخطباء أيضما في اليمن عند اختلاط أهله بالفرس الذين أتى بهم سيف بن ذي يزن لاخراج الحبشة منه، وهذا يفيد أن الخطابة العربية ماخوذة من الخطابة الفارسية مع أن الجاحظ قال في موضع اخر في الموازنة بين خطابة العرب وخطابة الفرس، وبيان الأمم التى انفردت بالخطابة: (وجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس، وأما الهند فانما لهم معان مدونة، وكتب مجلدة، لا تضاف الى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف؛ وليونانيين فلسفة وصناعة منطق، وكاناحب المنطق نفسه بكئ اللسان، غير موصوف بالبيان، وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام لهم فانما هو عن دراسة وطول فكرة، ومشاورة ومعاونة، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، وكل شيء للعرب فانما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ومكابدة، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هو كمن حفظ علم غيره، واحتذى على من كان قبله).

وإذا كان هذا شأن خطابة الفرس وخطابة العرب، فأين احداهما من الأخرى؟ وكيف أخذت الثانية من الأولى، وهما يختلفان هذا الخلاف، ولا يوجد بينهما أدنى شبه يدل على تأثير إحداهما بالأخرى، واحتذاء خطباء العرب بخطباء الفرس في الخطابة؟ ولا يؤثر في هذا أنا لا نسلم لجاحظ ما يزعمه من انفراد الفرس والعرب بالخطابة، وانفراد العرب بالقدرة على ارتجالها، فقد يوجد في غير العرب من يقدرعلى ارتجال الخطابة في لغته، وقد يكون في العرب من لا يخطب إلا بعد ترو وتدبر، ولكن العرب لشيوع الأمية فيهم، كان يقل من يذهب هذا المذهب في خطبائهم.

فلم يبق إلا أن نعلل ذلك بأن أخبار هذه القبائل قبل انتقالها من البادية بعيدة عنا، ولم يصل الينا إلا قليل منها، فما يدرينا أنها لم يكن فيها خطباء حين كانت بسرة البادية؟ ولعله كان لها من الخطباء فيها ما لا يكون هناك محل لتعجب الجاحظ أو غيره منه.

دراسة حياته: إذا رجع الباحث إلى ما كتب عن قس

في كتب الأقدمين المختلفة لا يمكنه أن يؤلف من الأخبار التي وردت فيها عنه سيرةحيحة، متلائمة غير متدافعة، متصلة غير منقطعة، لها بداية معروفة، ووسط غير مجهول، ونهاية ليست غامضة، وانما هي أساطير لا يمكن أن يعرف منها يقيناً زمنه متى بدأ؟ ومتى انتهى؟ ولا مكانه في تلك الأمكنة التي تنقلت فيها قبيلته؟ وهل كان يعيش بينها؟ أو كان يعيش بين قبيلة أخرى غيرها؟ أو كان يعيش هائما متنقلا لا يقر في مكان؟ فقد ورد أنه ادرك حواري عيسى عليه السلام، ولكن ورد مع هذا أنه أدرك محمداًلى الله عليه وسلم قبل بعثته، بل ورد أنه أدرك بعدها وآمن به وعد من أصحابه، ولا يمكن أن يكون قد أدرك هذين العهدين المتباعدين إلا اذادقنا أنه عمر حوالي ستمائة سنة، كما يذكر هذا من يعده في معمري العرب، وهذا أمر لا يمكن تصديقه، ولم يحدث مثله من عصر الحواريين الى العصر الذي نعيش فيه الآن.

وورد أيضا أنه كان أسقف نجران، فلا بد أنه كان يعيش عيشة مألوفة بين أهلها من النصارى، ولكن أين اياد من نجران وقد كانت إياد مستقرة بالعراق في الزمن الذى ظهرت فيه النصرانية بنجران؟ بل أين هذا مما يروى من أنه لم تكنه دار، ولا يقره قرار، ويتحسى في تقفره بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوام، وأخبر بعضهم أنه رآه على جبل بالشام يقال له سمعان، في ظل شجرة إلى جنبها عين ماء، فإذا سباع كثيرة وردت الماء لتشرب، فكلما زأر منها سبع علىاحبه ضربه بعصا، وقال كف حتى يشرب الذي سبق، قال فتداخلني لذلك رعب، فقال لي لا تخف ليس عليك بأس، ورووا أنه كان يفد على قيصر زائراً فيكرمه ويعظمه، وقد سأله مرة ما أفضل العلم؟ قال معرفة الرجل بنفسه، فقال له فما أفضل العقل؟ قال وقوف المرء عند علمه، فقال له فما أفضل الأدب؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه، فقال له فما أفضل المروءة؟ قال قلة رغبة المرء في اخلاف وعده، فقال له فما افضل المال؟ قال ماقضي به الحق.

وهذا كل ما يروونه عن قس في حياته، يحيط به الغموض في بدئه، ويستمر متماشيا معه، ثم يلازمه إلى نهايته، فلا تنتهي حياته بين قبيلته إياد، ولا بين أتباعه الذين كان فيما يقال أسقفا عليهم في نجران، بل يقال إنه توفي بروحين فيلحف جبل بها، وهي قرية قريبة من حلب، وله بها مشهد يزوره الناس، ويقصدونه بالنذور، وله أوقاف محبوسة عليه، وقد زاره أبو جعبل الألبيري فقال فيه:

هذى منازل ذي العلا ... قس بن ساعدة الايادى

كم عاش في الدنيا وكم ... أسدى إلينا من أياد

قدنالها بحلى البلا ... غة مفصحا في كل ناد

قد قر في بطن الثرى ... متفرداً بين العباد

وقد قدروا له السنة التي توفي فيها سنة 600 م وذلك قبل الهجرة باثنتين وعشرين سنة.

ولكن هذا الغموض الذي يحيط بحياة قس من بدئها إلى نهايتها، وهذه الأخبار القليلة التي لايمكن أن يؤلف منها لقس سيرة متصلة تعرف منها أطوار حياته طوراً فطورا، كل هذا لايمكن أن يتفق مع عيش قس في هذا الزمن القريب من ظهور الاسلام، فك رجال هذا العصر من شعراء وغيرهم معروفون لنا، وقد وردت إلينا أخبارم معلومة مفصلة. ولا تحيط بها هذه الأساطير من كل ناحية، ولا يتفق مع هذا إلا ما رجحناه في نسب قس من إدراكه عصر الحواريين، وتعميره فيه التعمير العقول في مثل هذا العصر، فتكون وفاته قبل الاسلام بتلك الأزمنة المتطاولة، التي تسمح بهذا الغموص الذي يحيط بحياة قس على شهرته وظهور أمره، نعم قد روى حديث قس وسماع النبي له في سوق، عكاظ من طرق متعددة، وقد أفرد بعض الرواة طريقه وفيه خطبة قس وشعره، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها، ولكن أبن حجر العسقلاني ذكر في كتاب الاصابة، أن طرقه كلها ضعيفة، فلا يحتج بها في مثل ذلك.

عقيدته: قد ذكر الأب لويس شيخو اليسوعي قساً في كتابه

(شعراء النصرانية) وقد ورد فيما روى من أخبار قس أنه كان

أسقف نجران، وقد ذكر الجارود بن عبد الله فيما وصفه به

النبيلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس المسوح، ويتبع السياح

على منهاج المسيح، لا يغير الرهبانية، مقراً بالوحدانية،

تضرب بحكمته الأمثال، ويتنكشف به الأهوال، وتتبعه

الأبدال، أدرك راس الحواريين سمعان

ولا شك أن الأب لويس لا يعنى بالنصرانية التي يثبتها لقس

الا هذه النصرانية التي تكاد تتصل بموت المسيح عليه السلام، ومن أهم أصولها عقيدة التثليث وعقيدة الصلب والفداء، وما إلى هذا من أصول هذه النصرانية، ولا شك أن الأخبار التي وصلت ألينا عن قس، والاثار التي وردت إلينا عنه فيما كان يدعو العرب إليه، لا تفيد أكثر من أنه كان يدعوهم إلى التوحيد، والايمان بالبعث والحساب، ولم يرد فيها أنه كان، يدعو إلى عقيدة التثليث والصلب والفداء ونحوها، وهي العقائد التي لا تثبت النصرانية التي يريدها القس لويس إلا بها، بل لم يرد فيها أنه كان يدعو إلى، الايمان بعيسى عليه السلام، وإنما ورد أنه كان يبشر العرب بدين جديد قرب ظهوره بينهم، فلا يمكن أن تكون عقيدته هذه النصرانية إلى يدعو إلى دين بعدها، وهي ترى أنها خاتمة الأديان، وان عيسى هو اخر الأنبياء الذي بشر به موسى عليه السلام، فلا يمكن بعد هذا أن يكون قس أسقفا على نصارى نجران، ألا أن تكون نصرانيتهم نصرانية أخرى غير هذه النصرانية، ولكن الذي يفيده التاريخ أنها كانت من نصرانية الروم والحبشة، ولهذا حاربوا أهل اليمن من أجلها، ومع هذا فقد أثبتنا أن قسا كان أقدم من ظهور النصرانية بنجران، ثم انه كان من إياد وكان أهل نجران من اليمن، فلا يقبلون رآسة مثله عليهم، لما كان من العصبية بين العدنانيين والقحطانيين، وأما خبر الجارود إنح فلا يفيد إلا انه كان مثل عيسى في ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث تشبيه أبى ذر الغفاري بعيسى في زهده وترهبه.

فلا يعدو أمر قس إلا أن يكون من قدماء الحنفاء الذين ظهروا في بدء انحراف العرب عن ملة إبراهيم إلى الوثنية، فكان يعوهم إلى ملة أبيهم إبراهيم، ويحارب فيهم هذه البدعة، وهكذا كان شان كل أولئك الحنفاء في العرب، وهذه كانت وظيفتهم فيهم، وقد حاول الأب لويس في كتابه (النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية) أن يلحق كل أولئك الحنفاء بالنصرانية ولا يخفى أن شأنهم في ذلك مثل شأن قس بن ساعدة.

خطابة: كان قس خطيب العرب وحكيمها وحكمها في عصره، وكان على شهرته بالخطابة يقول الشعر، فإذا خطب أتى في خطابته بشيء من شعره، يناسب موضوع خطابته، وقد جدد في الخطابة العربية بعض أمور تنسب إليه، منها انه أول من قال فيها (أما بعد) وبعضهم ينسبها لغيره، وقد نسبت لداود عليه السلام، وفسر بها قوله تعالى (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) ولكن أسلوب الكلمة عربي خالص، ولغة داود كانت عبرية، وإنما عظم شأن هذه الكلمة في الخطابة وغيرها، لأنها تساعد على الانتقال من غرض إلى غرض فيها ولا تحوج الخطباء في ذلك إلى تكلف مناسبات طامية لا تقف فيه عند حد، ويصعب على كل واحد فيه أن يأتي بما لم يأت به غيره، وإنما تحسن (أما بعد) في الخطابة والكتابة دون الشعر، لأنها أسلوب نثري، ولأن الشعر فيه من آثار الفنون ما ليس في الخطابة والكتابة، فيحسن التفنن فيه، ويقبح التزام أسلوب وا، حد في التنقل بين أغراضه. ومما ينسب إلى قس أيضاً أنه أول من خطب على شرف، وأول من اتكأ في خطابته على سيف أو عصا، وأول من كتب من فلان إلى فلان.

ولم يبلغنا من خطابة قس إلا قدر قليل لا يمكننا أن نعرف منه تماما كنه خطابته، ولا المميزات التي تمتاز بها من غيرها، ولا الدرجة التي يستحق أن يوضع فيها قس بين خطباء العرب، وإن كان قس في الخطابة مضرب المثل، وان كان الناسقد أجمعوا قديماً وحديثاً على تقديمه فيها، وقد قال فيه أعشى قيس:

وأحكم من قس وأجرأ مِلّذي ... بذي الغيل من خفان أصبح خادراً

وقال الحطيئة:

وأقْوَل من قس وأمضى إذا مضى ... من الرمح إذ مَسّ النفوسَ نكالُها

وقد يمكننا أن نحكم من القدر الذي وصل إلينا من خطابة قس حكما تقريبيا بأنه كان يعنى بالخطابة الدينية أكثر من غيرها، فكانت أكثر خطابته في الدعوة إلى التوحيد، والإيمان بالبعث والحساب، وما إلى ذك ممل كان يدعو العرب إليه، كما يمكننا أن نحكم أيضاً بأنه كان يؤثر فيها الألفاظ السهلة على غيرها، وكذا السجع القصير الفواصل لما له من التأثير في النفوس، وما كان له في ثقافته وعلمه وحكمته واشتغاله بهذه الدعوة العامة، إلا أن يدع التكلف في خطابته، ويخاطب الناس بهذه السهولة التي يفهمونها، وقد أنكر عليها بعض أدباء عصرنا هذه السهولة، فحكم بأنها خطابة إسلامية مختلقة على قس، وليست خطابة جاهلية ملائمة لما كان في هذا العصر من بداوة وخشونة، ولا يخفى أنه لا يمكن أن يستقل عصر من العصور بالتأثير في خطبائه أو شعرائه، وإلا وجب أن تتحد مسالكهم فيه، وألا يختلفوا في أساليبهم من حيث السهولة والشدة وغيرهما، وكم كان في الإسلام من خطباء يؤثرون الشدة في خطابتهم، وخطباء يؤثرون فيها السهولة على الشدة، فلا بدع في أن يهون بجانب الشدة في عصر الجاهلية تلك السهولة، وان تجتمع فيه كما اجتمعت في غيره الرقة والخشونة.

عبد المتعال الصعيدي