مجلة الرسالة/العدد 52/القصة في الأدب العربي
→ بردى. . . | مجلة الرسالة - العدد 52 القصة في الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
خصومة ← |
بتاريخ: 02 - 07 - 1934 |
للأستاذ فخري أبو السعود
حب تتبع الحوادث وحكايتها مركب في الطبع الإنساني، ولكن القصة كانت آخرور الأدب ظهورا، فلم تعرفها الآداب القديمة ولم تظهر في الآداب الأوربية الحديثة إلا أخيرا، ولذلك أسباب منها الوهم الذي وقر في نفوس الأدباء المتقدمين وإن يكن يبدو لنا اليوم غلطه واضحاً: أعني توهم أن القصة إن هي إلا أحبولة أكاذيب لا يليق بالأديب الراقي أن يلهو بحوكها، وأن القصص مرتبة من التأليف سهلة يستطيعها كل من رامها فلا يجمل بالأديب القدير أن يتدلى إليها.
ومن ثم كان العرب يؤثرون الأخبار التاريخية والأدبية ويخصونها بالحفظ والرواية مهما خالطها التحريف، لاعتبار إنها حقيقة لا اختلاق، وكثرت بينهم كتب التواريخ والسير دون كتب القصص، ومن ثم أيضا لم يسلك سبيل القصص من الأدباء المجيدين إلا من كان له غرض آخر دون القصص يوهم قراءه أو يوهم نفسه أنه الغاية التي إليها يقصد: إما بإعطاء القصص مغزى وعضياً كما في كتاب كليلة ودمنة، أو بإلباسه ثوباً قشيباً من الصناعة البلاغية كما في مقامات الهمذاني والحريري، بينما تركت الأقاصيص المجردة للعامة الذين يفشو بينهم القصص في كل العصور نتيجة لذلك الميل الطبعي في الإنسان، وتتداول بينهم أساطير المردة والسحرة ووقائع الأبطال الغازين ومخاطرات التجار والملاحين ونوادر الظرفاء والمعتوهين.
بيد أن القصة إن انعدمت من الآداب اليونانية والرومانية القديمة ومن الآداب الأوربية الحديثة إلى عهد قريب، فقد قامت مقامها عند تلك الأمم الرواية التمثيلية التي تؤثر في النفوس لا من طريق الميل الطبعي إلى القصص وحده، بل من طريق أخرى هي الميل إلى محاكاة الأشخاص وتقليد الحركات، ومن طريق ثالثة هي الثوب الخيالي الشعري الذي اسبغ على تلك الروايات التمثيلية.
ثم التفتت رويداً رويدا إلى أحوال المجتمع فتناولت وصف شؤونه وتصوير أخلاق أفراده، أما العرب فلم تقم لديهم لا القصة المقروءة ولا الرواية التمثيلية، فإلام يعزى ذلك؟ يعزى إلى أمرين: أولهما إيجابي هو موقف أدباء العربية من مجتمعهم، وثانيهما سلبي هو مكان الشعر لدى العرب.
فكتاب العربية وشعراؤها عاشوا دائما بنجوة عن مجتمعهم لا يشتركون في تقلباته السياسية والاجتماعية، ولا يعبرون عن شعوره وحاجاته، ومن ثم ندر الأدب الوطني في العربية وإن كثر الأدب العصبي، وندر الشعر الاجتماعي، وكان جل شعر الشعراء فرديا يعبر عواطفهم وحاجاتهم الشخصية ويفيض بذم منافسيهم وأعدائهم الشخصيين ومدح أولياء نعمتهم من الكبراء والأمراء الذين يعتمدون عليهم دون الشعب ويبتغون رضاهم قبل رضا الشعب، فلم يكن هناك تواصل وتجاوب بين الأدباء ومجتمعهم ولا رغبة لدى الأدباء في معالجة شؤون المجتمع وتحليلها ومحاولة إصلاح فاسدها عن طريق أدبهم، فلم يقم في العربية أمثال أديسون وستيل ودكنز وجالزورذي من الأدباء الإنجليز الذين جعلوا إصلاح الأخلاق أو ترقية المرأة أو إنهاض العامل نصب أعينهم، ولا ريب أن هذا التواصل والتجاوب بين الأدباء والمجتمع واعتماد الأدباء على جمهور القراء دون هبات النبلاء أساس نمو القصة التي تصف المجتمع وتحلل الأخلاق، ولم تنشأ القصة الحديثة في أوربا في القرن الثامن عشر إلا بقيام ذلك التواصل والتجاوب بين الأدب والمجتمع، وكانت الطباعة التي سهلت انتشار الكتابات مساعدة لذلك ولا ريب.
وأما مكانة الشعر الممتازة لدى العرب - والتي لعله لم ينلها لدى أمة أخرى - فإنها ثبطت ماعدا الشعر منور الأدب، فقد كان الشعر لدى العرب هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فصرفهم شديد اعتدادهم به وتوفرهم عليه عما عداه، وأودعوه عواطفهم وأخبارهم وقصصهم، فلو أن الشعر ترك مجالا لغيره لاحتمل أن يلجأ أديب كأبي نواس إلى القصص يودعه أنباء لهوه ووقائع غرامه ويشرح فيه ما سبر من غور العواطف وبلا من سريرة المرأة سادلاً على شخصيته ستاراً رقّ أو كثف، ولربما كان منه في العربية نظير لموباسان في الفرنسية، ولكن الشعر كان كما تقدم هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فلميتردد أبو نواس في سلوك السبيل التي سلكها ابن أبى ربيعة من قبل، سبيل الشعر القصصي أو القصص المنظوم شعراً.
إن الناظر في أدب العرب وتاريخهم لا يسعه إلا أن يرى هذه الحقيقة بارزة: حقيقة أن الشعر نال من المنزلة عندهم ما لم يبلغ عند سواهم حتى طغى على ما دونه من ضروب الأدب، وأن الأدب على إطلاقه بلغ لديهم مكانة طغى بها على ما عداه من الفنون وصبغ ثقافتهم بصبغته - برغم بعده عن معالجة الحالة السياسية والاجتماعية فكان كاتبهم في التاريخ وتقويم البلدان وغيرهما من العلوم يتحدث عن الأدباء ويرجع إلى محفوظه من الأدب، وكم من أعلام للشعر العربي لو كان التصوير والنحت رائجين لدى العرب رواج الأدب والشعر لانصرفوا إليهما دونه أو لمارسوهما معه.
ولقد كتب الأستاذ الفاضل محمود خيرت في الرسالة أخيراً يثبت وجود التصوير لدى العرب فلم يعد أن أثبت أنه كان في حالة أولية لا يفتخر بها ولا يغتبط: فإن الفن الذي لا ترى له باقية ولا يمكث له أثر في أدب اللغة وكتبها، ولا يتوصل إلى إثبات وجوده إلا بشذرة شاردة فيحيفة من كتاب، لا يكون فنا قد نال حظا من الرقي وخالط نفوس الأمة واستدعى اهتمام مثقفيها، والحكاية التي رواها الأستاذ عن المقريزي تشهد بذلك، حكاية المصورين اللذين رسماورتين إحداهما كأنها داخلة في الحائط والأخرى كأنها خارجة منه: فإن تفاخر الرجلين بهذا العمل الضئيل ودهش الوزير له وإسباغه عليهما المنن من أجله ووقع القصة من نفس المؤرخ حتى أثبتها في كتابه، كل ذلك لا يدل على ارتقاء الفن في ذلك العصر. بل يدل على كونه في حالة بدئية، وعلى ندرة المصورين المجيدين بل المتوسطي الحظ من الإجادة، وكلام المؤرخ كله يدل على أن التصوير الذي عرف لذلك العهد لم يتعد الصناعة ذات الغرض العملي التي يزاولها الصناع كما يزاولون النقش والطلاء، ولم يرق إلى مرتبة الفن الخالص المنزه عن الأغراض العملية.
إنور المدارس الإيطالية والهولندية وغيرها منتشرة في الأقطار تملأ المتاحف وتتحدث عن نفسها وعن رقى الفن عند أهلها قبل أن تحدثنا عن ذلك مئات الكتب التي الفت فيها، فأين آثار مصوري العرب التي تحدثنا عن مثل ذلك؟ بل أين الكتب المؤلفة فيها؟ بل أين الصور العربية التي كانت وحيا لشعراء العربية كما كانت الصور الأوربية وحياً لوردزورث وتنيسون وغيرهما، أو كما كانتور الأطلال الفارسية وحيا لسينية البحتري؟
لن لخفر بشيء من ذلك إذا طلبناه، ولن يسعنا إلا الإقرار بالحقيقة التي تطالع قارئ تاريخ العرب وأدبهم: وهي أن العرب كادوا أن يكونوا أمة ذات فن واحد هو الأدب وبخاصة الشعر الذي استوعب ملكات جل نوابغهم واحتوى دراسات جل مثقفيهم ذلك بأن العرب كانوا منذ جاهليتهم أمة لسان وبيان.
فخري أبو السعود