3 - الأحلام «مجلة الرسالة/العدد 519/الأحلام» للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون بقلم الأستاذ ألبير نادر التذكر! في حالة اليقظة تمر بنا ذكريات تظهر وتغيب متطلبة انتباهنا على التوالي وعلى الدوام. ولكنها ذكريات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحالتنا وعملنا. إني أتذكر في هذه اللحظة كتاب المركيز درني في الأحلام لأني أبحث في موضوع الحلم وأنا الآن في معهد الدراسات النفسية ومحيطي ومشاغلي وما أراه وما أنا قائم به من عمل، كل هذا يوجه نشاط ذاكرتي نحو اتجاه معين. إن الذكريات التي نناجيها وقت اليقظة، مهما تبدو غريبة عن مشاغلنا الوقتية فإنها تمت إليها دائماً بصلة ما. ما هي وظيفة الذاكرة عند الحيوان؟ هي أن تُذكره في كل مناسبة العواقب النافعة أو المضرة التي سبق أن تلت حوادث متشابهة للحوادث الحاضرة، وتخبره عندئذ بما يجب عليه عمله. - عند الإنسان - اعترف بأن الذاكرة تكون في حالة تحرر عن العمل أكثر مما هو الحال عند الحيوان؛ ولكنها لا تزال مرتبطة بالعمل، فإن ذكرياتنا في وقت ما تكون كلاً متماسكا. قل إذا شئت هرماً قمته في حركة مستمرة ومتفقة مع وقتنا الحاضر وتغوص معه في وقتنا المستقبل. ولكن خَلف الذكريات التي ترتكز هكذا على مشاغلنا الحاضرة وتظهر بواسطتها، توجد ذكريات أخرى - آلاف وآلاف أخرى - موجودة في الأسفل، خلف المسرح المضاء بواسطة الوجدان. أجل أظن أن ماضينا موجود هناك محفوظ حتى أقل جزء منه، وأننا لا ننسى شيئاً، وأن كل ما أدركناه، وكل ما فكرنا فيه وأردناه منذ أول فجر وجداننا فإنه يدوم أبداً. ولكن الذكريات التي تحافظ عليها ذاكرتي هكذا في أظلم أعماقها موجودة هناك على شكل أشباح خفية - ربما تتشوق إلى النور ولكنها لا تحاول أن تصعد نحوه فهي تعرف أن هذا من المستحيل - وإني أنا الكائن الحي الفعال لديَّ مشاغل أخرى تنهاني عنها. ولكن لنفرض أنه في وقت ما أكف عن حالتي الحاضرة، عن العمل الملح أي عن كل ما كان يحصر في نقطة واحدة كل نشاط ذاكرتي. لنفرض باختصار أني نائم - فحينئذ تتحرك تلك الذكريات الثابتة عندما تشعر بأني نزعت العائق ورفعت الحاجز الذي كان يجعلها ملازمة قاع الوجدان، فتنهض وتهب وتضطرب وتقوم برقص قبري عظيم في ظلمات الوجدان - وجميعها تتجه نحو الباب الذي انفتح، تريد أن تمر كلها ولكنها لا تقدر لكثرة عددها. فما هي الذكريات المختارة من هذا الحشد المدعو؟ أنكم تدركونها بسهولة. منذ لحظة، عندما كنت في حالة اليقظة، كنت أختار فقط الذكريات التي تمت بصلة قرابة إلى الحالة الحاضرة، أعني مداركي الحالية. وإنها الآن لأشكال أكثر إيهاماً ترتسم أمام عينيَّ وأصوات أقل وضوحاً تؤثر في أذنيَّ؛ ولمس أقل وضوحاً مبعثر على طول مساحة جسمي ولكنها أيضاً احساسات أكثر عدداً تأتيني من داخل أعضائي. ولكن من بين هذه الذكريات الشبحية التي تحاول أن تكتسب ثقلاً بواسطة اللون والرنين والمادية، فقط تظهر تلك التي يمكنها أن تمتثل الغبار الملون الذي أشاهده، والأصوات الخارجية والداخلية التي أسمعها الخ. والتي تتفق أيضاً والحالة العاطفية العامة التي تكونها التأثيرات العضوية، ومتى حصلت هذه الصلة بين التذكر والإحساس ينتج الحلم. في صفحة شعرية من صفحات كتاب التساعيات يشرح لنا الفيلسوف أفلوطين - مترجم أفلاطون ومتممه - كيف يولد الناس وينالون الحياة - يقول: تبدأ الطبيعة في صنع الأجسام الحية ولكنها تبدأ فقط، وإذا تركت الطبيعة وشأنها فلا يمكنها أن تصل إلى النهاية. ومن جهة أخرى تسكن الأرواح في عالم المُثل حيث لا يمكنها أن تعمل، وهي لا تفكر في العمل فترفرف مرتفعة عن الزمن خارجة عن الفضاء - ولكن بين الأجسام ما يكون أكثر ملاءمة بفضل أشكالها لأغراض هذه الأرواح أو تلك - ومن بين الأرواح ما يجد نفسه أكثر ملاءمة ليحل في هذه الأجسام أو تلك - والجسم - وهو لا يخرج حياً تماماً من بين أيدي الطبيعة - يرتفع نحو الروح التي تهبه الحياة الكاملة. والروح تنظر إلى الجسم الذي تظن أنها ترى فيه صورتها فتنجذب وتنخدع كأنها أمام مرآة وتترك نفسها تندفع نحوه وتنحني وتسقط - وسقوطها هو ابتداء الحياة - إني أشبه الذكريات التي تنتظر في ثنايا الوجدان الخفية بتلك الأرواح المنفصلة - وهكذا احساساتنا الليلية فإنها تشبه هذه الأجسام في بداية تكوينها. الإحساس حار ملون رنان، وتقريباً هي كذلك ولكنه غير مستقر - والتذكر واضح معين ولكنه فارغ وبدون حياة. يبحث الإحساس عن شكل يثبت فيه خطوطه المتقلبة. والتذكر يبحث عن مادة تملأه وتعطيه ثقلاً حتى يتحقق فيجذب الواحد الآخر، والتذكر الشبحي يتخذ شكلاً مادياً في الإحساس الذي يقدم له الدم واللحم ويصير كائناً يعيش عيشة خاصة أي حلماً فتولد الحلم ليس بأمر غريب. إن أحلامنا تتكون تقريباً مثل ما تتكون رؤانا للعالم الواقعي. إن آلية العملية واحدة بالإجمال. فما نراه من أشياء أمام أعيننا، وما نسمعه من كلام أمام أذننا، ما هو إلا الشيء القليل بالنسبة إلى ما تضيفه الذاكرة. عندما تطالع جريدة أو تتصفح كتاباً أتعتقد أنك ترى فعلاً كل حرف وكل كلمة أو كل كلمة ضمن كل جملة؟ إذا كان الأمر كذلك فلا يمكنك أن تطالع الكثير في جريدتك - في الحقيقة أنت لا ترى من الكلمة أو من الجملة سوى بعض الأحرف أو بعض العلامات المميزة، وهو ما يلزم حتى تخمن الباقي. يبدو لك أنك ترى كل الباقي ولكنك في الواقع تتوهمه - هناك اختبارات عديدة ومتفقة لا تترك أي مجال للشك في هذا الصدد ولا أذكر هنا سوى اختبارات جلوشيدر وموللر: إنهما كتبا أو طبعا صيغة دارجة عادية وهي مثلاً (ممنوع الدخول بتاتاً) أو (مقدمة الطبعة الرابعة) الخ. ولكنهما أخطآ بتبديل الحروف أو بحذف بعضها. ثم يوضع الشخص الذي سيعمل بواسطته الاختبار أمام هذه الصيغة في الظلام، وهو يجهل طبعاً ما كتب على اللوحة أمامه. ثم تضاء هذه الصيغة المكتوبة مدة قصيرة من الزمن حتى لا يتمكن المشاهد لها من أن يرى جميع الحروف. وفعلاً كانا قد توصلا إلى معرفة الوقت اللازم لمشاهدة حرف من حروف الأبجدية وذلك عن طريق التجربة. فمن السهل إذاً عمل الترتيب اللازم حتى لا يتمكن المشاهد من أن يميز أكثر من ثمانية حروف أو عشرة مثلاً من الثلاثين أو الأربعين حرفاً التي تكوِّن الصيغة. ففي غالب الأحيان يقرأها بدون صعوبة، ولكن ليست هذه النقطة هي المهمة في الاختبار - إذا سألنا المشاهد ما هي الحروف التي شاهدها بكل تأكيد، فالحروف التي يذكرها يجوز أن تكون موجودة فعلاً ولكنه سيذكر أيضاً حروفا كانت ناقصة أو استبدلت بحروف أخرى. هكذا يبدو له أنه شاهد الحروف الناقصة ترتسم في الضوء لأن الحس يتطلب ذلك. فالحروف التي شاهدها فعلاً ساعدت على تذكره شيئاً ما. ووجدت الذاكرة الباطنية مرة أخرى الصيغة التي بدأت تحققها هذه الحروف فتبعث بها التذكر إلى الخارج على شكل وهمي. فالمشاهد رأى هذه الذكرى بقدر ما رأى وأكثر ما رأى الصيغة المكتوبة نفسها. فالمطالعة العادية باختصار عمل تخمين ولكنها ليست مجرد تخمين. إنها انبعاث ذكريات إلى الخارج أي مجرد تذكر إدراكات غير واقعية تنتهز فرصة تحقيق جزئي تصادفه هنا وهناك حتى تتحقق بأكملها هكذا في حالة اليقظة تتطلب معرفتنا لشيء ما عملية مشابهة للعملية التي نقوم بها في الحلم. إننا لا ندرك من الشيء إلا ابتداءه؛ وهذا الابتداء يتبعه تذكر الشيء بأكمله. والذكرى الكاملة الكامنة في عقلنا والتي كانت في الباطن مجرد نكرة تنتهز هذه الفرصة لتندفع إلى الخارج. ونحن عندما نرى الشيء نتوهم هذا النوع من الوهم المحاط بحاجز واقعي. ويمكننا أن نقول الكثير في تصرف الذاكرة أثناء هذه العملية. لا يجب أن نعتقد بأن الذكريات الموجودة في ثنايا الذاكرة تبقى فيها ساكتة جامدة وغير مكترثة، لا بل إنها صاغية وفي انتظار. إذا كان عقلنا مشغولا بعض الانشغال وفتحنا جريدة يقع بصرنا صدفة على كلمة تتفق تماماً ومشغلتنا؟ لكن ترى الجملة عارية عن كل معنى وسرعان ما نلاحظ أن الكلمة التي قرأناها لم تكن الكلمة المطبوعة. فقط توجد بينهما بعض العلامات المشتركة أو تشابه ضئيل بين شكليهما. فالفكرة التي كانت تشغل بالنا أيقظت في خفايا شعورنا جميع الصور المتجانسة وجميع الذكريات عن الكلمات المتشابهة، وعللتها، بنوع ما، بالعودة إلى الوجدان، والذكرى التي تعود إلى حقل الوجدان هي التي بدأ في تحقيقها إدراك وقتي لشكل من أشكال الكلمة هذه هي آلية الإدراك الحقيقي وآلية الحلم - يوجد في الحالتين تأثير حقيقي على أعضاء الحس من جهة ومن جهة أخرى توجد ذكريات تنضم إلى التأثير وتنتفع بحيويته لكي تعود إلى الحياة (يتبع) ألبير نادر