مجلة الرسالة/العدد 517/الحديث ذو شجون
→ آيتان. . . | مجلة الرسالة - العدد 517 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
أدباؤنا والمسرح ← |
بتاريخ: 31 - 05 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
حياة أسيوط - الدفع مقدماً. . . - بلادة أدبية! - المعارك القلمية في مصر - الطبيعة والناس
حياة أسيوط
كان من المنتظر أن يتأذى قوم من الكلمة التي كتبتها عن أسيوط، وفي دفع تلك الكلمة تلقيت خطابين كريمين، أحدهما من الأستاذ أحمد فتحي القاضي المحامي، والثانية من الآنسة (ليلى) فماذا أقول في مناقشة هذين الخطابين؟
أذكر أولاً أن لي غاية من التجني على أسيوط، فأنا أريد التنبيه إلى أن هذه المدينة لا تأخذ حظها من الاهتمام الواجب لمدينة في مثل مكانتها التاريخية. وأنا أريد أيضاً تأييد الرأي الذي يقول بإنشاء جامعة في أسيوط لتسترد المدينة حيويتها العلمية والأدبية. وهل ينكر أحد أن من واجب الكتاب الوطني أن يدعو قومه إلى المبادرة بتزويد الحواضر الكبيرة بأزواد العلوم والآداب والفنون؟
أن أكابر أسيوط يهجرونها طائعين، رغبة في الحياة القاهرية، حياة السيطرة على المجتمع السياسي، وأنا أحب أن تعيش العصبيات الإقليمية على نحو ما كانت عليه قبل سنتين، وأتمنى أن يرى الرجل في بلده من قوة الذاتية ما يغريه بالزهد في صوت القاهرة الصخاب
وتقول الآنسة (ليلى) إني لو درست حياة أسيوط بعناية لأدركت أنها أعظم من سنتريس. وأقول إن البلاد تحيا بحب أهليها، وأنا أحب بلدي بأكثر مما يحب الأسيوطيون بلدهم الجميل
حدثني أحد أساتذة الكلية الأمريكية بأسيوط قال: إن الكلية دعت معالي الأستاذ نجيب باشا الهلالي ليكون خطيب الحفلة الختامية في هذه السنة فتفضل بالقبول ثم اعتذر بعد ذلك
فقلت: الكلية لم تراع ظروف الخطيب، فإن الهلالي باشا نفسه حدثني أنه لم يزر أسيوط منذ عشر سنين، ومن المؤكد أن هذه المدة الطويلة مرت فيها مناسبات تفرض عليه زيارة وطنه الأول، مناسبات عائلية في الأفراح أو الأتراح، فكان يكتفي بالبرقيات في التهنئة أو العزاء، فمن العسير عليه أن يعود في مناسبة وقتية لإلقاء خطاب يستطيع إرساله بالبر إن أراد
وأعجب ما في هذه القضية أن للهلالي باشا مصالح في أسيوط تعطلت بسبب انصرافه عن زيارة تلك المدينة، فله دار فخيمة تعرضت للتصدع بسبب هذا الانصراف
قلت لصاحبي وأنا أحاوره: هل تعرف أن للديار أرواحاً يؤذيها الجفاء؟
فقال: المعروف أن الديار مجموعة أحجار وأخشاب، فهي جمادات لا تتأثر بالهجران
قلت: هذا وهم في وهم، فالديار تتأذى بالهجر كما يتأذى الأحباب، وليس في الوجود كائن بلا روح، ولو كان في الاصطلاح من الجماد
يستطيع الهلالي باشا أن يعتذر لداره بالشواغل التي تصده عن زيارة أسيوط، ولكن لي رأيا آخر، هو أن نجعل زيارة دورنا بالأقاليم النائية من شواغلنا الأساسية، فلتلك الديار حقوق، وهي أيضاً من ضمائر الوطن الغالي
وبماذا يجيب الهلالي باشا لو دعوته إلى بناء دار بأم درمان أو الخرطوم؟
لو التفت هذه الالتفاتة لكان من السهل عليه أن يخلق لمصر صداقات جديدة في السودان
بإحدى المحاضرات الافتتاحية في الكولليج دي فرانس ألقى علينا المسيو ماسينيون محاضرة عن مشاهداته في إيران، وبعد المحاضرة سألته عن السبب في كثرة أسفاره إلى إيران، فأجاب: ألا تعرف أن لي داراً هنالك؟
وفي مقابل هذا أذكر أن كبيراً من كبرائنا باع أملاكه في بلده لتكون ثروته في القاهرة، عساه يشرف عليها بلا عناء
ومع هذا يعاب على أن أقول إن أكابر أسيوط يهجرون أسيوط!
يجب أن نقول ونقول ثم نقول بأن الإقبال على الحياة القاهرية سيؤذي الأقاليم المصرية أشد الإيذاء
هذا مع أن النيل يرشدنا إلى الواجب في كل لحظة باختياره الموفَّق لأطايب البقاع، ولو سايرنا النيل في هواه لكان عندنا مئات مت غُرر البلاد
وهل ننسى أننا لم ننشئ مدينة جميلة في (القناطر الخيرية) وهي بقعة لا نظير لها في أي أرض؟
وقطار الإسكندرية يمر بنا على مدينة اسمها (كفر الزيات) على موقع من أجمل مواقع النيل، فما تلك المدينة؟ ومتى تخطر في البال؟
والنيل بين زفتي وميت غمر على جانب العظمة الطبيعية والجمال الأصيل، فأين من فكر في الاستظلال بتلك العظمة وذلك الجمال؟
إن الحمائم والعصافير تعرف من سرائر بلادنا ما لا نعرف ألم أحدثكم مرة أن لها مغاني في أكثر البقاع المصرية؟
لكل مكان في مصر روح وأرواح، وبلادنا نشأت أول ما نشأت على فطرة الاستقلال، فقد كان لكل قطر من أقطار مصر سيادة محلية، وكان بكل قطر من أقطار مصر سادة يتعالون باسم الشرف والجود، فكيف نحول هذه القوى إلى بقعة واحدة هي البقعة القاهرية؟
هل نتعزى بأن يقال إن القاهرة أعظم مدينة في الشرق ونحن نعرف أنها تجنى على الحواضر المصرية بغير حق، كما تجنى أسيوط على منفلوط؟
وهنا يجيء حديث المناطق في وزارة المعارف، وقد سمعت أن نظام المناطق في طريق الإلغاء
وأقول بصراحة إن أول وزارة عرفت نظام المناطق هي وزارة الداخلية، وهي لا تستطيع التخلي عنه بأي حال، لأنه أفضل الأنظمة في صيانة الحياة الداخلية، ولأن المشرفين عليه كانوا السبب في تنظيم حواضر البلاد
وإذا استطاعت وزارة المعارف أن تمنح ممثليها بالأقاليم قوة تشبه القوة الممنوحة لممثلي وزارة الداخلية فستظفر الأقاليم بإصلاحات قائمة على أساس الفهم والذوق، وقد تفك الحصار المضروب على رجال التعليم، وهم رجال عوقتهم الظروف عن تحقيق ما يريدون في إصلاح الأقاليم
هل يعرف أحد كيف يجوز أن يكون ممثل وزارة الداخلية هو الرجل الأول في المديرية، ولا يكون مثل هذا الحظ لممثل وزارة المعارف؟
نحن اخوة، فكيف نفترق في الواجبات ولم نفترق في الحقوق؟ ما الذي يمنع من إعطاء مدير التعليم فرصة الإصلاح الممنوحة لمدير المديرية؟
أنا أوجه القول إلى وزير المعارف، وأسأله برفق عن تعطيل مواهب رجال التعليم في الأقاليم، وفي مقدورهم أن يخدموا الإصلاح خدمات عظيمات؟ لقد اقترحت أن يكون وزير المعارف هو الوزير الأول، ليكون المعلم هو الرجل الأول، فهل كنت في هذا الاقتراح من المسرفين؟
إن كان ذلك فأنا أطالب معالي وزير الأشغال بأتعابي، وقد وجهت إليه كلاماً عن (نفق شبرا) يستحق ألوفاً من الجنيهاتً فليدفع الأتعاب قبل أن أقاضيه بمحكمة مصر الجديدة. . . وهل في مصر الجديدة محكمة أهلية؟
هذا إشكال جديد، وسأخاصم فيه وزري العدل بعد حين!
ثم ماذا؟ ثم يبقى القول في رد ما جاء بالخطابين الكريمين، خطاب ابن منفلوط، وخطاب بنت أسيوط، فإلى اللقاء!
الدفع مقدماً. . .!
من العبارات المألوفة في البيع والشراء عبارات: الدفع مقدماً، والدفع فوراً، والدفع بالتقسيط
والمفهوم أن الدفع مقدماً أدل على النفاسة من الدفع فوراً، أما العبارة الثالثة فهي شاهدة بهوان المعروض. وكل معروض مهان
ولكن ما الرأي إذا التقسيط من تلطف البائع، لا من هوان المبيع؟
ما الرأي إذا كانت السلعة المبذولة غنيمة وجدانية لا تقوم بالمال، وإنما تقوم بقصيدة أو مقالة تؤخذ أقباسها من لهيب الروح؟
ألا يكفي أن تصبح ذمة الكاتب والشاعر في غنى عن الضمان؟
سأرى كيف أصنع في سداد الديون بالتقسيط. ولعلني أسارع ليكون من حقي أن أطمع في غنائم جديدة من غنائم الوجدان، في المدينة التي قال فيها أحد الشعراء:
ولا عيب فيها أن نسميها ... يزيد سعير القلب وقداً إلى وقد
بلادة أدبية
هي بلادة الأدباء الذين يسألون من وقت إلى وقت عن السبب في خمود نار الخصومة بيني وبين الدكتور طه حسين. وإني لأنظر فأرى لهم غاية من تأريث تلك الخصومة، لأنها تشفى صدوراً يعجز أصحابها عن الوقوف موقف الخصماء إن خصومتي للدكتور طه حسين خصومة أدبية لا شخصية، وسأخاصمه كلما لاحت فرصة لنقد ما يصدر عن قلمه من آراء، وهو لا يزال في الميدان فليس من البعيد أن أرجع إليه بعد أسبوع أو أسابيع
المهم هو تسجيل هذه الظاهرة الغريبة، ظاهرة البلادة الأدبية عند بعض الأدباء البهاليل، فما الذي يصدهم عن نقد الدكتور طه بأقلامهم إن كانوا يرون في مذهبه الأدبي شيئاً من الاعوجاج؟
إن الذين يتوهمون أن في مقدورهم أن يثيروني على الدكتور طه حسين بمثل ما توسل به أحدهم من النمائم لفي ضلال، فما يستطيع قلمي أن يصول بغير الحق، ولو في مناوشة أعدى أعدائي، على فرض أن الدكتور طه من الأعداء، وله في قلبي مكان
المعارك القلمية في مصر
لخصت مجلة الصباح الدمشقية ما دار بيني وبين الأستاذ عباس العقاد من صيال، ثم قالت:
(هذا نمط من المعارك القلمية التي تثور في مصر اليوم، وبمثل هذا النقد اللاذع يتراشقون)
والجواب حاضر، فمصاولة الأدباء المصريين بعضهم لبعض لا تغض من النهضة الأدبية في الديار المصرية، وإنما هي شاهد صادق على حيوية الأدباء المصريين
قلت مرة ومرات: إننا نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!
فإن شاء رفاقنا في دمشق أن يعدوا الاختلاف من عيوبنا فهم مخطئون
ألم أقل لكم: إن السلام ضرب من الموت؟
الطبيعة والناس
في اللحظات التي يتزحزح فيها برد الشتاء من وضع إلى وضع تبدأ الطبيعة بإعداد الخلائق الجديدة في عوالم الشجر والنبات والطير والحيوان
والأمر كذلك في حياة الناس. . . ألم تسمعوا بهجوم الربيع في دنيا الحرب؟
كان ذلك لأن الربيع يوقظ القوى الغافية، قوى الحب والبغض، والصلح والقتال
أكتب هذا وقد سمعت ما سمعت وقرأت ما قرأت من أخبار العراك في مجلس النواب. فما دلالة هذا العراك؟ وهل يحط من أقدارنا في أنظار أهل الشرق والغرب، كما قيل؟ الرأي عندي أن مصر غنمت بهذا العراك غنائم لم تكن تخطر في البال، فقد ظهر جلياً أن عندنا خطباء من الطراز الأول في اللغة العربية، وظهر جلياً أن عندنا رجالاً من أصحاب الأعصاب الحديدية. وهل من القليل أن يكون عندنا وزراء يقضون نهارهم في مكاتبهم على خير حال من النشاط، ثم يقضون صدر الليل في مصاولات برلمانية تفل الحديد؟
ماذا يقول الجيل المقبل حين يرى مضابط البرلمان؟ ماذا يقول؟
كل ما أتمناه أن تدوم هذه اليقظة العقلية والروحية على نحو ما رأينا من القوة والحيوية، ليعرف الجيل المقبل أن آباءه كانوا أصحاء في الأرواح والعقول، وأنه جدير بأن يخلفهم في ميادين المنطق والفكر والبيان
أظهر ما عيبت به تلك المصاولات هو صدور ألفاظ نابية على ألسنة بعض النواب، فهل تفردنا بخلق تلك الألفاظ، ولها نظائر في جميع اللغات؟ وهل كان مجلس النواب مجلس سمر لا يدور فيه غير مصقول الأحاديث؟
إن خصوم الحكومة قالوا فيها ما قالوا، وقالت فيهم ما قالت، وعرف الجمهور عن طريق العلانية كل شيء، برغم قيام الأحكام العرفية
إن موقفي موقف المؤرخ لعهد من عهودنا الأدبية في البلاغة البرلمانية، وهي بلاغة وصلت إلى غاية من أرفع غايات البيان، وشهدت بأن للفكر في مصر أقطاباً وأساطين.
زكي مبارك