مجلة الرسالة/العدد 516/أخطار الطعام الواحد
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 516 أخطار الطعام الواحد [[مؤلف:|]] |
العقيدة الدينية وطريق ثبوتها ← |
بتاريخ: 24 - 05 - 1943 |
(رسالة مهداة إلى جار الشجرة الزهراء)
للدكتور زكي مبارك
أكاد أحكم بأن جمال الحياة من صُنع أيدينا، وأن الله لم يجعل الإنسان خليفته في الأرض إلا بعد أن زوّده بالقدرة على تجميل الحياة بأغرب وألطف ألوان التجميل
وملكات الإنسان تؤهله للغرور القائم على أساس، فمن حقه أن يزعم أنه يهب الحياة للحياة، وأن يقول في بعض حالات التمرد إنه خالق لا مخلوق
ولن نؤمن بالله حق الإيمان إلا يوم نعرف على وجه التحديد أو التقريب قيمة ما خصنا به من القدرة على تلوين الوجود بأشتات من الألوان
والواقع أن العزة الإلهية دانت الإنسان بديون تعجز عن حملها الجبال. ولا يعاب على الإنسان إلا غفلته عن استثمار ما في صدره وروحه وعقله من كنوز تفوق الذخائر المعروفة والمجهولة في جميع بقاع الأرض. . . هو يملك ثروة معنوية في غاية من النفاسة، ولكنه قد يجهلها بعض الجهل أو كل الجهل فلا يبذل في استكشافها أي مجهود، ولا يؤذيه أن يعيش على الفطرة كما يعيش سائر الحيوان
كل أمة من الخلائق تنقرض بالموت، إلا الأمة الإنسانية، فهي تترك شواهد خوالد على ما قدمت للحياة من أفانين العقل والذوق، وهل كان من المصادفة أن تتفق الديانات على أن البعث بعد الموت مقصور على الأمة الإنسانية؟
وأنا مع هذا أفترض أن البعث لن يكون عاماً، وسأحرص على هذا الافتراض لغاية أخلاقية توضحها السطور الآتية:
يوم البعث هو يوم الحساب، ومعنى ذلك أنه خاص بمن كانت لهم إرادات ذاتية تدرك معاني الثواب والعقاب، ومعناه أيضاً أن الذين مرّت حياتهم بلا إدراك قد يضافون إلى الخلائق المنسية، إن صح هذا الافتراض
ولكن ما هذا التهيب في عرض هذه النظرية؟
هل أخاف من أن يعترض معترض وبيده الأثر الذي يقول: أكثر أهل الجنة هم البُله والمجانين؟ هذا أثر مصنوع، اختلقه واضعه لغاية مدخولة يراد بها صد الناس عن الاحتكام إلى العقل في مختلف المعضلات، وإلا فما قيمة الجنة إذا كان أكثر ساكنيها من قدماء البُله والمجانين؟
مزية الإنسان هي قوة الشعور بالمسئولية، وهذا الشعور قد يسوقه إلى البحث عما في صدره من المكنونات، فإن فعل فقد يصل إلى منافع لا تخطر في البال
الحياة لا تقاس بالطول والعرض، وإنما تقاس بالخصب المعنوي، وهو أطيب الأرزاق، فمن واجبنا أن نزوّد أنفسنا بالكثير من الأزواد العقلية والذوقية عساها تجود بإبراز تلك المكنونات
النفس كنز تحرسه أقفال وأرصاد. وقد تعب الناس منذ أزمان في التعرف إلى كنوز النفوس، بأساليب تختلف باختلاف الأقاليم والإفهام، فأهل الهند يرون الصوم عن الطعام والشراب هو الوسيلة إلى كشف أسرار النفس، وكان بعض فلاسفة اليونان يرون الطعام والشراب من وسائل الوصول إلى أسرار النفس، وفريق من رجال الإسلام يرون النفس لا تتفتح إلا في إعقاب الصلوات عند هدأة الليل
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص بصراحة على أن الرقي الإنساني لم يبدأ إلا بعد التحرر من الطعام الواحد، وذلك لم يقع إلا بعد أن عرف الإنسان كيف ينتقل من أرض إلى أرض. ودليل ذلك أن الأمم القليلة المعارف والقليلة الحيوية هي الأمم التي ألفت الاستقرار في وطنها الأول، لأن الاستقرار يخمد شهوة التطلع، بسبب الركود الذي يصحب توحّد المطعومات والمرئيات
والمعروف أن حواس الطفل أقوى من حواس الكهل، فكيف يكون ذلك؟
قد يقال أن الحواس تضعف مع الزمن، وذلك أسهل التعاليل، ولكني أرجح أن قوة الحواس عند الأطفال ترجع إلى أن كل شيء في نظرهم جديد، فهم يتطلعون إلى كل أفق، ويتشوقون إلى كل مجهول، ولا كذلك حال الكهل الذي ألف ما حواليه من الأشياء، فهو ينظر ويتأمل بفتور وبطء، ثم ينتهي به الأمر إلى تبلد الإحساس
والمعروف أيضاً أن النبوات لا تظهر إلا في البلاد التي يكثر فيها الاعتراك والاقتتال حول المبادئ والآراء، فما كان يمكن لمكة أن تكون مهبط الرسالة الإسلامية لو أنها كانت قرية منعزلة لا تشتبك فيها المنافع، ولا تصطرع فيها العقول. وهل ننسى كيف منّ الله على قريش برحلة الشتاء والصيف؟
إن تلك الرحلات هيأت القرشيين لما صاروا إليه فيما بعد؛ وفضلُ الإسلام على العرب لا يقتصر على تزويدهم بعقيدة التوحيد، فهالك فضلٌ عظيم، وهو تمكين العرب من الاتصال بأكثر الأمم المعروفة لذلك العهد، وهذا الاتصال خلق في العرب حيويات جديدة، وأيقظ في نفوسهم كثيراً من القوى الغافية، وأمدهم بأزواد عقلية وذوقية لم يعرف مثلها العرب القدماء
والمدنية الإسلامية تمتاز بهذه الميزة، فهي ليست وليدة العقل العربي الصرف، وإنما هي مدنية دولية أخذت زاداً من كل أرض، فقد كان المسلمون إنجليز زمانهم، وكانت لهم مسالك إلى كل بلد عُرفت أرضه بالثمرات
هل تعرفون السر في أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام كان يوصي بالزواج من غير القريبات؟
تعليل ذلك سهل: فالتزاوج في البيئة المحصورة ينتهي بضعف النسل، لأن كثرة الألفة تضعف الشهية، ولأن الاكتفاء بالقريبات يضيع فرصة الموارد الجديدة من الطبائع والأذواق.
العاهات الموروثة تكثر في البيئات التي تتزاوج فيما بينها كثرة تنذر بالخطر المبيد. وقد تعرض اليهود لهذا الخطر في الأزمان الخوالي فكثرت فيهم العاهات الحسية والمعنوية، ثم أنقذتهم الحوادث فشردتهم في الأرض ليجدوا أجواء تطب لمرض القرار والاطمئنان
وقد أكثر اليهود من المطالبة بالوطن القومي، وهو عندهم فلسطين، فإن عادوا إليها جميعاً فستكون عودتهم المرموقة نذير انحلال، ومن قال بغير ذلك فهو يجهل خطر الطعام الواحد على الجسوم والعقول
وقد صرخ اليهود لعهد موسى من الطعام الواحد، كما قص علينا القرآن، فأوصاهم موسى بهبوط مصر، لأن مصر منوعة الفواكه والحبوب والبقول، وهذا سر القوة التي جعلت المصريين بمأمن من طغيان الأمراض الفواتك على اختلاف الأجيال
قال العباس بن الأحنف وقد آذاه تقلب محبوبته فوز:
يا فوزُ لم أهجركُم لملالةٍ ... مني ولا لمقال واشٍ حاسد
لكنني جربتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد وقال شاعرٌ آخر:
ومُظهِرةٍ لخلق الله ودّاً ... وتلقى بالتحية والسلام
أتيت لقلبها أشكو إليه ... فلم أخلُص إليه من الزحام
أيا من ليس يكفيها محبٌّ ... ولا ألفا محبٍّ كل عام
كأنك من بقية قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
وبقليل من التأمل ندرك أن هذين الشاعرين في غفلة عن تلوين العواطف والأحاسيس. وهل يتعلق العاشق بمعشوقته إن أمن عليها الشركاء كل الأمان؟
التعقيد في الميول والأهواء هو سبب الحيوية في الميول والأهواء. ومزية الإنسان أنه منوّع المطاعم والمشارب، فهو يأكل ما تأكل السباع والأنعام والحشرات، وهو لذلك يواجه مكاره الحياة بالقوة المستمدة من تلوين الطعام والشراب. إن مزية الإنسان أنه حيوان عارم لا تصده حدود ولا سدود، وأنه يجد طعامه ولو سكن فوق رءوس الجبال
هل سمعتم الوزير الإنجليزي الذي اختبر معدته بالأكلة الهندية، الأكلة المركبة من توابل حِرِّيفة لا يقدر على ابتلاعها غير الهنود؟
كان يقال إن العائلة الإنجليزية إذا استقرت مائة سنة في الهند فستنقرض، لأن جو الهند يخالف جوّ الجزر البريطانية، ثم ظهر أن هذا القول يعوزه الدليل، فقد تأصلت في بلاد الهند عائلات بريطانية ولم تنقرض
والوثائق تحت يدي، فالإنجليزي المقيم في الهند تصل إليه أزواد من كل أرض، فهو هندي الموطن، ولكنه دوليّ الطعام والشراب، وبذلك تأخذ أمعاؤه وقودها المنوع من هنا وهناك
والإنجليزي المقيم في الهند لا يكتفي بقراءة ما تخرج مطابع الهند. وإنما تنتقل إليه المطبوعات الأوربية والأمريكية بأيسر عناء، فيرى وجوه الآراء الغربية قبل أن يرى وجوه الآراء الشرقية، ويعيش بملء روحه وعقله عيشاً لا يعرفه جيرانه من الهنود
قلّت أملاك الآساد في الأرض، لأنها أكلة لحوم، وقلت أملاك الغزلان في الأرض، لأنها أكلة أعشاب
هل تعرفون الظباء في حياتها اليومية؟
إنها تتمرن على الجري في كل وقت، لتحسن الفرار من هجوم الآساد، وكان ذلك لأن فطرة الظباء فطرة غبية، فهي لا تحب غير حياة التوحش والتوحد، وهذه الحياة فرضت عليها الذل، كما فرضته على الآساد. أليس من بلاء الأسد أنه لا يستطيع العيش بأرض خالية من الحيوان، ولو أخرجت أطيب الثمرات؟
واكتفاء أكثر أنواع الحيوان بالطعام الواحد قضى بأن تعيش في ظل الوهم الأول، فهي جميعاً تخاف من النور حين يسطع بالليل. ولو دخل إنسان غابة وحشية وبيده مصباح لأزعج ما فيها من الكواسر والجوارح، لأن تلك الخلائق ترى أن النور قوة سماوية لا أرضية، وأنه لذلك أمضى سلاح
وقد تحرر الكلب من الطعام الواحد بعض التحرر لا كل التحرر، ولهذا ظل على أشياء من المخاوف الحيوانية، فهو ينزعج من الليل أشد الانزعاج، وهو لا يكف عن النباح إن قضى الليل في العراء
والطعام الواحد يؤذي الأرواح، كما يؤذي الأبدان، والعقل يُعطب بالطعام الواحد كما يُعطب الجسم. فمن الواجب أن نزود عقولنا في كل يوم بأزواد مختلفات. ورياضة العقل على تقبل الآراء لا تقل عنفاً عن رياضة الجسم على تناول الطعام الحرّيف
لاحظت أن البهائم تميز بين الطيب والخبيث من الأعشاب بدون تعليم، وهل سمعنا أن بهيمة أكلت عشباً ساماً فماتت؟
ولكن هذه الغريزة الهادية من أسباب الانحطاط في طوائف من الحيوان، فيها تنعدم فرص التجاريب، والتجربة خصيصة إنسانية وهي أعظم تمرين لتقوية عضلات العقل، وللعقل عضلات!
ولاحظت أن المواليد الحيوانية تعرف طريقها إلى الحياة منذ ساعة الميلاد، فهي تأكل وتشرب وتمشي وتلعب من أول يوم
فكيف ضاع هذا الحظ على المواليد الإنسانية؟
وكيف جاز أن يحتاج المولود الآدمي إلى شهور طوال قبل أن يعرف كيفية الوقوف؟
قالت إحدى الجرائد الإنجليزية في وصف الملك فيصل الثاني (هو طفل في غاية من الذكاء ولكن لا تظهر عليه علامات النُّضج المبكّر)
فما معنى العبارة الأخيرة؟ هل ترونها ترمي إلى التهوين من شأن ذلك الطفل؟ لا، إنها غاية في المدح، لأن النضج المبكر ليس علامة حسنة في حيوات الأطفال
الإنسان الجيد كالشجرة الجيدة، يحتاج في تكوينه إلى متاعب، وقد حدثتكم مرة أن الشجر الجيد هو الذي ينمو في بطء وتمهل. وأحدثكم اليوم أن السوس لا يعض غير الخشب المأخوذ من شجر سريع النماء
أقول هذا لأقرر حقيقة طُفتُ حولها عدداً من السنين، ولم أستطع التعبير عنها بوضوح وبيان
تلك الحقيقة هي أن العقل لا يخاف عليه من اصطراع الآراء إلا إذا فاتته فرص التدريب على الاصطراع، وهذه الفرص تفوت العقل إذا اكتفى بالطعام الواحد في المعقولات، كما يتعرض الجسم للخطر إذا اكتفى باللون الواحد في المطعومات
ألم تلاحظوا أن خواطر الشك والريب والإلحاد لا تساور غير المبتدئين؟
إذا رأيت شخصاً يجادل في آيات الله فاعرف أنه طفل، لأن هذا النوع من الجدال مألوف عند الأطفال
وإذا رأيت شخصاً يناقش في أمور فرغ منها الباحثون فاعرف أنه طفل، والطفولة في العقول قد تطول في حياة بعض الناس!
أما بعد فما الذي أوحى هذه الأفكار بهذا الأسلوب؟
أوحاها ضيفٌ رحل إلى غير معاد، وما أصعب فراق الضيف المحبوب إلى غير مَعاد!
موضوع المقال هو الصفحات الآتية، أما الصفحات الماضية فقد أنشأتها على سبيل التمهيد، على قلة ما أصنع في تحرير المقال على دفعات
وسأترك الصفحات الآتية على ما كانت عليه في الوضع الأول، لأني أخشى أن يصيبها التزييف بالتعديل
وفي ترجمة خبرك، أيها المفارق إلى غير معاد، أسوق الحديث:
في جنح الليلة الماضية مات العصفور. وفي صبيحة اليوم دفناه في حديقة البيت بجوار شجرة زهراء، ضنّا على جسمه اللطيف بأن يكون طعمه لفرد من الحيوان أو لطائفة من النمل، إن ألقينا به في الصحراء. . . فما تاريخ ذلك العصفور الصريع؟
كان هدية من صديق راقه ما كتبت في خصائص الطير والحيوان، يوم كنت أنشر بمجلة الرسالة قصة آدم وحواء، هدية لطيفة من صديق عُرف أهله بلطافة الأذواق
دخل العصفور المنزل بعد الغروب، وهو يغفو بعد الغروب، ولكنه استيقظ حين بهره نور الكهرباء، فتلفّت حواليه تلفّت المتأمل، عساه يتعرف إلى مأواه الجديد
وانتظر الأطفال تغريده في الصباح، وكانوا سمعوا أنه يستقبل الصباح بالتغريد، ولكنه آثر الصمت، كما يصمت كل غريب!
وبعد يومين بدأ يرسل تغاريده بقوة أغنت الأطفال عن صلصلة (الُمنّبه) وحببت إليهم انتظار تباشير الصباح
كانت حياة هذا العصفور في طعامه عجباً من العَجب، كان طعامه حبّات تُشبه حبات البرسيم، ومع هذا كان يقزقزها قزقزة غريبة فيفصل القشور عن اللباب في لمحات وهو يتناول الغداء، وكانت هذه المهارة من طرائف ما ترى العيون. . .
كان مُقامه في مدخل البيت، وهو مكان يواجه هواء الشمال، ويشعر من يقيم فيه بقسوة الشتاء، فاقترحت أن يقيم ساعتين من كل صبُحيه بشرفة الغرفة الشرقية، وهي مأوى في الشتاء
فرح العصفور بالشمس فغرّد وغرّد، والتفتُ فرأيت جماعة من العصافير تحيط بالقفص لتستمع بالحفلة الموسيقية، الحفلة التي تُقدم كل صباح بالمجان!
عند ذلك أشرت بأن يبقى العصفور في تلك الشرفة ساعات من كل يوم، إكراماً لهذه العصافير المرهفة الأحاسيس!
ثم وقع ما لم يكن في الحسبان، فقد سُمع صراخ العصفور، سُمع من الدور الأول وهو يصرخ بشرفة في الدور الثاني، مع أن التليفون لا يسمع في الدور الأول إلا بتوصيله كهربائية تمنح التليفون لقب الهتّاف
أسرعت الروح التي تهيمن على البيت لتعرف سبب الصراخ فرأت صقراً بسط جناحيه على قفص العصفور، وأخذ ينقره من جانب إلى جانب، والعصفور يعلو ويهبط في ذهول، فلطمت الصقر لطمة قهرته على الفرار، ثم أنزلت العصفور إلى مكانه بالدور الأول، بعد أن ترك الصقر برأسه جرحاً صار في صورة (الشوشة) التي تزدان بها رءوس بعض الشبان بدا لي بعد ذلك أن أقيم العصفور في الشرفة لحظات من كل صباح وأنا أتهيأ للخروج، لعل الصقر يدنو فأصطاده، وأنا مولع باصطياد الصقور والنسور، ولكن الصقر كان أمكر مني فقد كان يقف من بعد، ثم ينصرف حين يعرف ما أريد
قلت لأبنائي: إن الصقر لن ييأس، وهو يتحرق شوقاً إلى لحم العصفور المغرد، وفي هذه المنارة لوح من الزجاج حطمه رصاص المدافع أيام الغارات الجوية، فانتظروا نزول الصقر من هذا المكان لتصطادوه، إن اجترأ على النزول
ثم كانت العجيبة الآتية:
جاء عيد الفصح، ومضى أبنائي إلى سنتريس، لشهدوا مطلع الربيع في الحديقة التي تنتظر قدومهم في كل صباح، الحديقة التي أعدّ أشجارها من أبنائي
ونظرت فرأيتني في البيت وحدي، ورأيت العصفور في إملاق، فلم يكن أمامه غير حبات لا تدفع غوائل الجوع، وهو أضعف من أن يحتمل الجوع
مضيت إلى دار ابني الأكبر أستشيره فيما أصنع، وكان العصفور غرّد بعد الغروب، وهو لا يغرِّد بعد الغروب إلا في توسل الملهوف
وخرجنا فطوفنا بشوارع مصر الجديدة وبعض شوارع العباسية فلم نجد طعام العصفور في أي مكان
وبعد متاعب وجدنا نوعاً من السمسم يصلح لاقتيات العصافير، فيما قيل
أقبل العصفور على السمسم يلتهمه بلا احتراس، ليأمن غائلة الجوع، ألم أكن أقدم إليه أغصاناً يابسة فينقرها بشهية لأنها تذكره بعهد أجداده في حضانة الغابات؟
ولكن نشاط العصفور أخذ يضعف من يوم إلى يوم، وانتهى الأمر بموته في جنح الليلة الماضية، فما العبرة من ذلك الموت، ولكل موتٍ عبرة؟
أماته الاكتفاء بالطعام الواحد، والطعام الواحد يميت الجسوم والعقول
الآن عرفت كيف كان يغرّد بأسلوب رتيب لا يعرف تلوين الألحان
الآن عرفت كيف تقترب طرائق الصوت عند أكثر صنوف الحيوان، فما كان ذلك إلا لأن كل أمة حيوانية لها طعام واحد، ولو بَعُد ما بينها بعد الشمال من الجنوب
الآن عرفت كيف امتاز الإنسان باختلاف الألوان في الملامح والطبائع والأصوات، وكيف يختلف رجل عن رجل وأمة عن أمة في طرائق التعبير عن المعاني
تلوين الطعام يلون الأهداف والأغراض والآراء والأهواء
وذلك كنز وصلت مفاتيحه إلى بعض الشعوب فهي تُلقي بأبنائها في مجاهل الشرق والغرب، لترتاض أمعاؤهم على الحياة، ولو فوق متون البراكين
كم تمنيت أن أعيش أياماً في سفح فيزوف، وكان يستهويني حين تمر عليه الباخرة بالليل. . . ولكن لا بأس، فقد أمتعتني الحياة بصنوف من المضجرات والمزعجات والأحابيل.
هل يمر يوم بلا متاعب على من يمتشق القلم في كل يوم؟
زكي مبارك